مقالات

اليمن: قصة عالِم النبات الأوروبي وجبل “سَوْرَق” المجهول بقلم/ لطف الصراري

بقلم/ لطف الصراري

جبل سورق من الشرق

 

هناك ميل ملحوظ لدى كثير من الباحثين والمثقفين والكتاب اليمنيين، نحو معرفة تاريخ البلاد وتقاليدها وجوانب الحياة فيها، من كتب الرحّالة والمستشرقين الأوروبيين، وإلى حدّ ما، الرحالة العرب. يبدو ذلك معقولاً إذا ما أخذنا بالاعتبار رطانة اللغة العربية المستخدمة في مؤلفات المؤرخين والجغرافيين اليمنيين.. فهي من ناحية، تُحمّل فطنة القارئ أكثر مما تحتمل، ومن ناحية أخرى، تختبر صبره على الجرعة المفرطة من البلاغة والإسهاب والتكرار ومديح الحاكم، ناهيك عن تفويت الكثير من التفاصيل المهمة في حياة الإنسان. ومع ذلك، هناك ما هو جدير بالقراءة فيها، وأجدر منه ما احتفظت به لهجات السكان، على امتداد اليمن، من تفاصيل الحياة في الأزمنة الماضية. إذ لطالما تناقلت الذاكرة الشفاهية لكبار السن تلك التفاصيل عبر الأجيال، وقد شكّلت، مع الجغرافيا البكر لـ”العربية السعيدة”، مصدراً ثرياً للرحالة والمستشرقين لكي يجمعوا منها مادتهم العلمية اللازمة للبحث والدراسة الأكاديمية. وفي الواقع، فلا تزال كذلك إلى حدّ ما بالنسبة لمن يريد البحث والاستقصاء وسدّ فجوات التاريخ أو حتى فقاعاته.

ملك الدنمارك ينشد الخلود
في كانون الأول / ديسمبر 1762، وصلت إلى السواحل الغربية لليمن بعثة أوروبية كانت الأولى التي وُصفت بـ”العلمية”. يكاد غالبية اليمنيين لا يعلمون شيئاً عن هذه البعثة، خاصةً غير المهتمين بما رصده الرحالة والمستشرقون خلال زياراتهم منذ القدم، لكن اسم “نيبور” ليس غريباً على ألسن المثقفين والكتاب والباحثين. لم تصلنا أخبار هذه البعثة من الكتب اليمنية المعاصرة لها، على الرغم من أن حركة التأليف والتأريخ لم تكن منقطعةً تماماً، بقدر ما كانت موجّهةً نحو علوم الدين والفقه، وتدوين مآثر الأئمة والأمراء والسلاطين، وأخبار حروبهم وصراعهم على الحكم.

وعلى الرغم من أن هناك مستكشفين ومغامرين أوروبيين زاروا اليمن قبل البعثة الدنماركية، فقد كانوا قلةً قليلة، وبعضهم من هواة المغامرة وصيد الكنوز.. منهم اليونانيون والرومان. جميعهم كان لهم نفس الشغف الاستكشافي منذ ما قبل ميلاد المسيح، تجاه أرض الأسرار التجارية والزراعية التي اعتقد أهلها بأن العزلة هي أفضل طريقة لحمايتها من الطامعين. وكما يبدو من التاريخ المعروف لـ”العربية السعيدة”، أثارت سياسة العزلة فضول الممالك الأخرى في العالم لاستكشاف أسرار هذه البلاد الغامضة. بدءاً بحملة الإسكندر المقدوني في القرن الرابع ق.م، ومروراً بالغزو الحبشي في القرن السادس الميلادي، ثم امبراطورية فارس التي ساعدت اليمن في طرد الأحباش واحتلت البلاد. وبعد دخول البلاد في الإسلام، استمرت الصراعات والحروب الداخلية، كما لم تتوقف الحملات العسكرية للمالك الأخرى عليها.

ولا يزال تاريخ “العربية السعيدة” يكرر نفسه في القرن الحادي والعشرين، على شكل مسخ من المأساة والمهزلة معاً.

في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، وصلت بعثة ملك الدنمارك فريدريك الخامس، إلى البلد العربي السعيد وغير المستقر، وكان ما زال بكراً، سواء من حيث الجغرافيا غير المستكشفة حتى على مستوى النباتات، أو من حيث حياة الإنسان وعاداته وتقاليده ونظمه الإدارية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وعلى وجه الخصوص النظام الاجتماعي. كان الهدف العلمي لهذه البعثة واضحاً، لكن الهدف الديني كان حاضراً أيضاً، وتمثل في رغبة فريدريك الخامس في الوصول إلى ترجمة أفضل لـ”الكتاب المقدس” من خلال أسماء الأماكن والنباتات في لهجات سكان اليمن. في الجانب الدنيوي، أراد الملك تحقيق مأثرة يُذكر بها بعد رحيله، فقرر تمويل بعثة من أفضل العلماء الشباب في أوروبا، للذهاب إلى “العالم القديم” وإحراز إنجاز علمي تُباهي به الدنمارك كل أوروبا. وفي الجانب الديني، سوف تجلب البعثة أندر المخطوطات والنقوش والأسماء المذكورة في العهدين القديم والجديد، من مصر وتركيا وسوريا والعراق والهند، حيث المستعمرات الدنماركية في شبه القارة الهندية.

لسوء حظ الدنمارك وشمال أوروبا، واليمن بالطبع، ولسوء حظ علوم النبات والطب والاجتماع والأنثروبولوجيا واللغات، والفنون التشكيلية أيضاً، مات جميع أعضاء البعثة ما عدا الألماني كارستن نيبور، “عالِم الرياضيات والفلك” كما عرّفه توركيل هانسن مؤلف كتاب “العربية السعيدة” (1962). (1)

فجوات تختبئ في التفاصيل
مثل غيره من الكتاب الأوروبيين، أورد توركيل هانسن (1927-1989) مقاطع طويلة وكثيرة من مذكرات نيبور وعالم النبات السويدي بيتر فورسكال، وعالم اللغات والأنثروبولوجيا الدنماركي فريدريك كريستيان فون هافن، والقليل عن الرسام والنحات جورج فلهيلم بورنفانيد (ألماني)، والطبيب كريستيان كرامر (دنماركي). أضيف عضو سادس في البعثة بوظيفة “خادم”، وهو شاب سويدي ذو خبرة في الحرب وسياسة الخيول.

أثناء قراءتي للكتاب، لفت انتباهي ورود اسم جبل في المنطقة التي أنحدر منها، مديرية “ماوية” شرق مدينة تعز. جاء ذكر “جبل سَوْرَق” في سياق رفْض حاكم تعز حينها السماح لفورسكال بزيارة جبل “صَبِر” المطل على مدينة تعز، والذي كان فورسكال سمع عن ثراء وتنوع نباتاته قبل وصوله إلى المدينة قادماً من مدينة المخا، ومن قبلها مدينة “اللُّحَيّة”.

لا يشير هانسن إلى أن فورسكال سبق أن تحدث أمام حاكم المخا بأنه يريد زيارة جبل “صبر” لاستكشاف وجمع النباتات، وأن حاكم المخا اقترح عليه الذهاب إلى جبل آخر في تعز هو “سَوْرَق”. لحسن الحظ، نيبور يذكر ذلك في كتاب مذكراته “رحلة إلى شبه الجزيرة العربية وإلى بلاد أخرى مجاورة لها”، وفي كتابه الآخر، “وصف شبه الجزيرة العربية”، الذي يشير إليه كثيراً في كتاب “الرحلة”. في مقارنة بين ما ورد في كتاب هانسن وما ذكره نيبور، تظهر بعض الفقاعات السردية. تبدو فقاعات، لكنها في مجملها قد تشكل فجوات ومعلومات غير دقيقة في تاريخ بلد معظم سكانه لا يعرفون تاريخه الفعلي، ويثقون بالأجنبي أكثر من ثقتهم بأنفسهم. الملوم الأول عن هذه الفجوات هي مناهج البحث الأكاديمي الجامدة، وتحيزات الباحثين الأوروبيين ولامبالاتهم. لكن اللوم بالدرجة الأولى، يلقي بثقله على الباحثين والكتاب اليمنيين. إذ لم يعد اليمن ذلك البلد الذي يفتقر للقدر الكافي من الكتاب والباحثين والأكاديميين النابهين، ومع ذلك، تبقى مسألة الثقة الكاملة بكتب ودراسات المستشرقين والرحالة، إشكاليةً بحثية في اليمن، أكثر مما هي في المحيط العربي عموماً.

بالعودة إلى كتاب هانسن ومذكرات نيبور، يقول الأول إن حاكم تعز رفض السماح لفورسكال بزيارة جبل “صَبِر” المطل على المدينة، “لأنه كان غاضباً على قبيلة أحد اللصوص في تلك المنطقة وكان في حرب معها”. يضيف واصفاً حال فورسكال: “وبدلاً من الذهاب إلى جبل صبر، لم يكن باستطاعته إلا أن يشعر بالسعادة في أن يذهب إلى جبل آخر يدعى سورق. واضطر أن يعود من هذا الجبل بعد ثلاثة أيام فقط، بسبب أن جميع القرى كانت مهجورةً لقيام أهلها بمحاربة القبيلة المعادية للحاكم، وبسبب هذا لم يجد فورسكال الطعام بعد ثلاثة أيام من البحث غير المجدي”.

في هذه الفقرة فقط، الكثير من الفقاعات، وربما اللامبالاة أيضاً إزاء تاريخ حقيقي لبلد حقيقي. نعم بلد حقيقي وليس قلعةً أسطورية في حكاية خرافية عن الشرق الساحر والآسر، والتي يبدو هانسن متأثراً بها، لكن ليس نيبور وفوسكال.

كان حاكم تعز آنذاك فاسداً، ويفرض جبايات جائرة على المزارعين باعتبارهم “رعيّة” لا مواطنين.

للأسف لا أحد يخبرنا باسمه حتى في كتب التاريخ اليمنية، وهو لم يسمح لفورسكال بزيارة جبل “صَبِر”، لأنه كان يخشى اهتزاز سلطته في حال عاد فورسكال حيّاً من بين أيدي سكان الجبل المتمردين. وإذا قُتل، فسوف يتعرض للعقاب من الإمام المهدي عباس في صنعاء، لأنه سمح لرجل أوروبي بزيارة الجبل في ظروف مماثلة. يلتقط هانسن سبب المنع بدقة من مذكرات نيبور، لكنه يترك فجوةً كبيرة في سياق وصفه لرحلة فورسكال إلى جبل “سورق”. ولولا أن نيبور وصف الأمر في مذكراته، لكان وصف هانسن هو السائد الآن، خاصة مع المكانة الكبيرة لكتابه في الوسط الأكاديمي والثقافي اليمني. إليكم ما يقوله “مساح الأراضي” ابن المزارع الفقير في مستنقعات فريزلاند، التي كانت تابعةً آنذاك لألمانيا، وهي الآن ضمن أراضي هولندا: “كان السيد فورسكال يتأمل يومياً جبل صابر [صَبِر]، حيث تنمو وفق كلام العرب كافة أنواع الأعشاب في العالم. غير أنه كان عاجزاً عن جمعها بسبب الخلافات القائمة بين الشيوخ وصاحب الدولة [حاكم تعز].

فكان يفكر في استدعاء أحد الشيوخ ليرافقه في هذه الرحلة، حتى لا يتعرض لأي سوء. غير أن صاحب الدولة لم يسمح له بذلك. وعند ذلك طلب الإذن بالذهاب إلى جبل سوراق (Saurak). ولقد وافق صاحب الدولة على طلبه، وأرسل جندياً ليرافقه في رحلته. كان السيد فورسكال قد أكد لنا في المخا أنه يريد الإسراع في الذهاب إلى تعز بغية جمع الأعشاب من جبل صابر. فأمر صاحب دولة المخا خادمه بمرافقة السيد فورسكال إلى جبل سوراق، علماً أنه كان يجهل نشوء خلافات بين صاحب دولة تعز والشيوخ”.

لم ينته حديث نيبور بعد عن رحلة فورسكال الخائبة. فهناك أيضاً تفاصيل تتعلق بتحريض جندي حاكم تعز، لـ”خادم صاحب دولة المخا”، بعدم الذهاب إلى “سورق” لأن الأعياد على الأبواب (عيد الأضحى بحسب نيبور). كاد الجندي أن يتعرض للسجن لولا أنه عدل عن مراوغته، وقبل بالذهاب مع فورسكال و”خادم صاحب الدولة” في المخا، الذي كان لا يزال ينفذ أوامر حاكم المدينة الساحلية بمرافقة البعثة منذ انطلقت منها.

يقول نيبور: “غادر السيد فورسكال المدينة [تعز] مساء 18 حزيران/ يونيو [1763]؛…” وفي 20 حزيران/ يونيو، “وصل إلى بلدة مهجورة تماماً لأن صاحب الدولة أساء معاملة أهلها، ففضلوا الذهاب لكسب رزقهم في مكان آخر. ولما علم أن معظم القرى التي يبغي زيارتها قد هجرها أهلها، خاف أن يعوزه الطعام، أو أن يعرّض حياته للخطر فغادر إلى تعز مساء 20 حزيران/ يونيو”.

هل لاحظتم الفرق بين رواية هانسن ورواية نيبور لرحلة فورسكال إلى “سورق”؟ يكاد يكون هناك إجماع في الوسط الثقافي اليمني على أن كارستن نيبور هو أنزه وأدقّ من كتب عن اليمن، من بين جميع الرحالة الذين زاروا هذا البلد. من يقرأ مذكراته بإمعان يستطيع أن يلمس هذه الدقة وهذه النزاهة بالقدر نفسه الذي يمكنه أن يلمس الفارق الثقافي الذي يحول أحياناً بينه وبين فهم المجتمع الذي يدرسه. ولأني نشأت قرب ذلك الجبل العظيم، أعرف أن سكان مديرية “ماوية”، مثلهم مثل سكان المناطق الشمالية القريبة من عدن، دأبوا منذ مئات السنين على الهجرة إلى عدن، وأحياناً إلى الحبشة. وقد سمعت كبار السنّ في المنطقة يقولون إن “الأوّلين” كانوا يضطرون لحزم أمتعهم ومغادرة المنطقة في الفترات التي يجور فيها الحاكم في فرض الجبايات على محاصيلهم. بعضهم يتجهون شمالاً نحو “وادي السحول”، وهؤلاء كانوا ينتقلون بعائلاتهم ومواشيهم، حتى إن منهم من لم يعد إلى اليوم. أما الأفراد، خاصةً الشبان والفتيان، فكانوا يتجهون نحو عدن.

التقط نيبور خلاصة رحلة فورسكال إلى الجبل البديل، ووضعها في مذكراته بدقة ونزاهة، لكن لا أحد يعرف من أين أتى هانسن بقصة المحاربين الذين ذهبوا لقتال “القبيلة المعادية للحاكم” في جبل “صَبِر”! من الواضح أن سكان الجبلين كانوا يرزحون تحت وطأة سوء معاملة حاكم تعز. وأولئك قاوموا صلفه بالسلاح لأنه لم يكن لديهم مكان آخر يذهبون إليه. وفي الشرق، كان سكان جبل “سورق” لديهم أماكن أخرى يذهبون إليها: الوديان الشمالية والجنوبية، وعلى الساحل القريب، عدن. غير أن الهجرات التي كانت تقصد هاتين الوجهتين، كانت تتدفق من الأراضي المنبسطة في منطقة “ماوية” أكثر منها من لدى سكان جبل “سورق”.

“طريق الماء للماء”: القانون الطبيعي وحكمة السكان
يمتد جبل “سورق” في سلسلة تبدأ عند ملتقى حدود ثلاث مديريات كل منها تتبع محافظة مختلفة: السّبرة تابعة لـ”إِب”، والحُشاء تابعة للضالِع، و”ماوية” تابعة لتعز. وعلى تخوم الأراضي المنبسطة، تعْبر السلسلة جنوباً، متصلة ومتجاورة مع جبال أخرى أكبرها جبل “حُمَر” وجبل “الشَّذِف” الذي تتيح قمته مشاهدة أضواء مدينة عدن. قليلون من يتمكنوا من مشاهدة أضواء “المدينة الكونية” لأن الوحوش المختبئة في الكهوف لا تتيح لأحد البقاء فيه حتى حلول المساء. لا يزال هذا الجبل يحتفظ ببعض النمور العربية والضباع والثعالب والوشق ووحوش أخرى، على الرغم من زحف الإنسان لاستصلاح بعض الحقول المتشكلة طبيعياً بين صخور قمته.

أما جبل “سورق”، فتنتشر القرى والحقول على منحدراته من السفح إلى القمة، وإلى الغرب منه تنبسط وديان وحقول خصبة تتخللها جبال ترابية هي أقرب إلى التلال الكبيرة، مكسوةٌ بغطاء نباتي متنوع للغاية. عبر هذه الوديان والتلال يصل القادم من تعز إلى جبل “سورق” ويعود من الطريق نفسه. لا يزال بعض كبار السن في المنطقة يتذكرون طرق السفر القديمة بين مدينة تعز وريفها الشرقي الذي ينتهي عند الجبل الذي خيّب سكانه آمال عالم نبات شاب جاء من أقصى شمال أوروبا، مخاطراً بحياته، لكي يستكشف نباتاته.

يعرف الثمانينيون من أهالي قرى جبل “سورق” طريق الجِمال والحمير جيداً بين مدينة تعز وقراهم. قد تستغرق المسافة نهاراً كاملاً، وقد يمتد الوقت إلى ثلث المساء، بحسب حمولة القافلة. هذا من أجل الوصول إلى سفح الجبل الذي يسمى أيضاً جبل “الصَّرْدَف”، أما إلى القرى الواقعة في المنحدرات نحو القمة، فتضاريس الجبل هي التي تحدد الوقت وتضبط إيقاع الإنسان. مقارنةً بالأيام الثلاثة لهذه الرحلة، لا شك أن فورسكال وصل إلى قرية قريبة من سفح الجبل، ثم استفرد به المرافقان ليراوغاه في قفار لا يعرفونها ثلاثتهم.

دعونا نتصور الرحالة ذا الطباع القوية والصبر الجميل، يخرج مساء السبت 18 حزيران / يونيو 1763، من مدينة “الحاكم الجشع” بتعبير هانسن المناضل لأجل الحريات المدنية. لن يتمكن عالم النبات الذي ستفخر به السويد والدنمارك بعد 250 سنة، باعتباره أحد رواد الحريات المدنية في أوروبا، من الذهاب أبعد من منطقة “الحوبان”، حيث مفترق الطريق بين عدن وصنعاء والمدينة الرابضة في حضن جبل “صَبِر”، وحيث “مقهاية الأمير” التي تقدم المبيت والعشاء والأمان للمسافرين. منذ العام 2015، صارت “الحوبان” مدينة عشوائية مزدحمة بعد أن قسمت الحرب محافظة تعز إلى جزأين شرقي وغربي. وفي صباح الأحد 19 حزيران / يونيو، سينطلق فورسكال ومرافقيه المراوغَين، من “مقهاية الأمير”، ويعبر معهما أطلال مدينة “الجَنَد”، بينما تبدأ عيناه بمشاهدة جبله المنشود. سيصل مركز قضاء “ماوية والحشاء”، الذي كان موقعه في ذلك الزمن على تلّ صغير وسط الوديان الخصيبة لمنطقة “الشُّرْمان”، مع الإشارة إلى أن “القضاء” هو أحد مستويات التقسيم الإداري في شمال اليمن، وأن هذه المنطقة شديدة الخصوبة كان اسمها إلى ما قبل ألف سنة “مَقْمَح”، بما للاسم من دلالة زراعية. يبعد هذا المركز الإداري الريفي عن جبل “سورق” مسير نصف نهار على الأقل بالحمير والجمال وبحمولة متوسطة، فما الذي واجهه فورسكال في تلك الليلة؟

في تلك المناطق من “العربية السعيدة” لا توجد “مقاهٍ” أو “مماسٍ”، و”الممسى” هو أحد الأسماء الشائعة للخانات التي توفر المأوى والعشاء لنزلائها، مع فناء آمن للحيوانات والأمتعة الثقيلة. ما لم يستضفه أحد السكان الطيبين، فسوف يتوجب على فورسكال العودة ليلاً إلى أقرب نُزُل، في المركز الإداري الريفي الذي غادره صباحاً. وسواء حلّ ضيفاً أو عاد إلى النُّزُل، لن يسلم من لسع البعوض والحشرات الأخرى الغريبة في تلك القرى المتناثرة غرب الجبل. لم تسنح لفورسكال فرصة ليعرف أن الجهة التي وصل إليها ليست إلا ظهر الجبل، أما امتداده السكاني والزراعي ذو الخصوصية الفريدة، فيقع في الجهة الشرقية. وللوصول إلى هناك، كان عليه اجتياز ظهر الجبل أولاً، وهي مغامرة لم يكن من الحكمة خوضها مع جندي منشغل باحتياجات عائلته من أجل العيد، و”خادم” يعرف أنه سيقضي العيد بعيداً عن عائلته في كل الأحوال.

هكذا عاد فورسكال عبر تلك القرى الصغيرة التي لا يتوفر فيها أي نشاط فندقي، بل إن بعضها قد تبدو مهجورة فعلاً، خاصةً مع اقتراب حلول المساء. قرى ليست كالتي تصفها كتابات الرحّالة والمستشرقين الأوروبيين، الذين زاروا الشرق عموماً، واليمن خصوصاً، حتى الآن. ولم يسبق أن وصفها أيضاً الرحالة العرب الذين زاروا اليمن إلى الآن. هي تجمعات سكانية أقرب إلى الأكواخ متلاصقة الجدران والسقوف، ومع ذلك لا تخلو من الأزقة والممرات المتعرجة. أكواخ مبنية من الحجارة الصغيرة ومتوسطة الحجم على رؤوس التلال ذات القمم المستوية أو المنحدرة، لا فرق، الأهم أن تكون مرتفعةً بما يكفي عن ممرات سيول الأمطار. “طريق الماء للماء”. هذه العبارة بمثابة قانون طبيعي لا تزال تتناقلها شفاه الحكماء من سكان جبل “سورق” وسكان قرى الأراضي المنبسطة غرباً، ولا سيما أولئك الحكماء الزراعيين.

كان أمين الريحاني أكثر من اقترب من وصف هذه الأكواخ، لأنه اضطر للنوم على أحد سقوفها المنخفضة. وصف الحشرة غير المرئية التي تلهب الجلد بالبعوض، دون أن يعرف أن سكان هذه الأكواخ يسمونها “حاس”. قد يكون عرف أن مصدرها مساكن الحيوانات والمواشي الملتصقة بمساكن الناس، وأكوام مخلفات الحيوانات القريبة من البيوت، لكنه اهتم أكثر بوصف ما فعلته به البراغيث و”الحاس” في الداخل، والبعوض و”الحاس” معاً على السقف المنخفض. عبد العزيز الثعالبي اشتكى أيضاً من البعوض الذي أصابه بالملاريا في قرية “الحُمَيراء”، ووصف سكانها بالبخلاء وبأنهم عاملوه بفظاظة ولامبالاة، دون أن يعرف أنهم يعتبرون أي نوع من النشاط الفندقي عيباً ولا يجدر بالعائلات الفلاحية ممارسته.

غير أن طريق الريحاني في 1922، والثعالبي في 1924، لم يكن نفسه طريق عالم النبات السويدي الذي جاء في مهمة لصالح ملك الدنمارك. فقد كان الثعالبي والريحاني متجهين شمالاً، ولديهما الإذن من إمام/ ملك شمال اليمن يحيى حميد الدين، وتوصيات “عُمّال” الإمام/ نواب الملك، باستضافتهما في كل منطقة ينزلون بها، بما في ذلك القرى الصغيرة التي لا يسكنها عادة مشائخ القبائل الكبار. كان طريق عودته غرباً، ولم يتسلّم بعد النسخة الأصلية من ردّ الإمام المهدي عباس بالسماح لبعثة جلالة ملك الدنمارك بالقدوم إلى صنعاء. لا يمكن أن يكون فورسكال ومرافقيه عادوا في نفس الليلة إلى تعز، لأن القفار والتلال التي تكسوها أشجار الأكاسيا الشوكية بنوعيها الرئيسيين وآلاف النباتات الأخرى، سوف تجبرهم على أخذ نصيبهم من الملاريا، تماماً مثلما أخذ عبدالعزيز الثعالبي جرعته منها. ربما كان نيبور فقط، من سيجد وجه الشبه بين أكواخ المزارعين في أدنى جنوب العالم، مع أكواخ المزارعين الفقراء في مستنقعات فريزلاند، مسقط رأسه.

لا يوجد ذكر لكون فورسكال جمع نباتات من التلال والوديان الخصبة في طريقه إلى جبل “سورق” أو أثناء عودته من سفحه الغربي، على الرغم من أنه كان باستطاعته جمع مئات العينات والبذور من النباتات البرية. هناك تنمو نباتات ذات خواص طبية، أحدها “الحَلَص”، الذي يعتبر الدواء الأول لمكافحة الملاريا لدى اليمنيين حيثما وُجدت هذه الشجرة. لا أحد يعرف نهاية الجندي و”الخادم”، لكن من الواضح أن بيتر فورسكال أخذ جرعة كبيرة من الملاريا في رحلته إلى ذلك الجبل المجهول. فبعد عشرين يوماً فقط من تلك الرحلة، مات في مدينة “يَرِيم” بينما كانت البعثة في طريقها إلى صنعاء، وفي يده النسخة الأصلية من الإذن الإمامي بدخول عاصمة البلد المستغلق.

1 – ترجمه عن الإنجليزية الاقتصادي والدبلوماسي اليمني محمد أحمد الرعدي، بين العامين 1966 و1968، بعنوان: “من كوبنهاجن إلى صنعاء”، وقدم الدكتور عبد العزيز المقالح طبعته الثانية 1983، بمقال كان كتبه عن الكتاب في 1976.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى