مقالات

قراءة ناقدة في الحدث العظيم وتبعات الأحادية بقلم| عبدالباري طاهر

بقلم| عبدالباري طاهر

حقق الشعب اليمني في جنوب الوطن الاستقلال عام 1967. تقتضي المناسبة العظيمة بعد مضي أكثر من نصف قرن القراءة الناقدة للتجربة: إنجازاتها، وإخفاقاتها، جوانب القوة، وجوانب الضعف، والإيجابي والسلبي.

كان الإنجاز القومي عظيمًا، وعبّر عن كفاح طويل وممتد منذ ثلاثينات القرن العشرين الماضي، وبروز النهضة منذ مطلع الأربعينات في الصحافة: “فتاة الجزيرة”، و”الأفكار”، و”مجلة المستقبل”، و”الشباب”، و”الذكرى”، والجنوب العربي، وفيما بعد عشرات الصحف، وبروز الحركة النقابية العمالية، ومؤسسات المجتمع المدني، والتعليم الحديث، ونشأة الأحزاب، وبدايات النضال النقابي والمطلبي والسياسي، والأحزاب السياسية الحديثة باتجاهاتها المختلفة.

لم يأت الكفاح المسلح من فراغ، وإنما كان التعبير القومي عن الحالة التي وصلت إليها مطالب الشعب لتحقيق الاستقلال؛ فالكفاح المسلح الذي قادته الجبهة القومية ثمرة لنضال دؤوب في مختلف مناحي الحياة، فهو التطور النوعي.

الانتقال إلى السلاح لانتزاع الاستقلال كان حاسمًا، ولكن أساليب الكفاح السياسي الحقوقي والمطلبي ظلت رافدًا عبر الإضرابات، والمظاهرات، وتوزيع المنشورات، وخطاب الصحافة، ودعوات الفئات الشعبية كانت مساندة للسلاح وجذره الأساس، ودعمت مشروعيته، وكان الترابط بين مختلف أساليب الكفاح الوطني من الأدنى إلى الأرقى، حاضرًا.

تحقق الاستقلال في الـ30 من نوفمبر 1967، ليضع اليمن (الديمقراطية الشعبية الاسم اللاحق) في طليعة حركات التحرر الوطني المعادية للرجعية والاستعمار، والمنتجة خطابًا يساريًا مغايرًا ومختلفًا للعديد من الحركات التي لم تتحرر من التبعية للمستعمر، ولكن الاغترار بالسلاح واعتقاده الوسيلة الوحيدة للانتصار، مثّل “كعب أخيل” في تجربة من أهم تجارب بلدان العالم الثالث؛ فقد بدأت بتبني تشكيل جبهة لتحرير ظفار والخليج لاحقًا، وإدارة الظهر للحياة السياسية المدنية والنشاط التجاري والثقافي؛ وهي الأرضية الخصبة والخلفية للانتصار، والرافد الأهم للاستقلال الحقيقي.

الجبهة القومية المكونة من سبعة تنظيمات جذورها الريفية حاضرة، وقصة النزاع القبلي الردفاني ضد السلطنة والاستعمار يرويها الباحث جمال باروت في كتابه “حركة القوميين العرب” (يراجع: ص 359).

والتنظيمات السبعة انتماؤها القومي الناصري هو الغالب حينها، وكانت خصومتها الديمقراطية أصيلة، وعداوتها للماركسية أقوى؛ فقد رُفِض قبول اتحاد الشعب الديمقراطي في الانضمام للجبهة القومية، رغم تأييده المطلق للكفاح المسلح، وكانت صحيفة “الأمل” هي الصوت الداوي لحرب التحرير في فترة الكفاح المسلح. وعقب الانتصار رُفِعَ شعار: “كل الشعب قومية”، وقد تحول بعد الحركة التصحيحية، وانتصار اليسار إلى: “لا صوت يعلو فوق صوت الحزب”.

حققت دولة الاستقلال إنجازات اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية مهمة: قطاع عام قوي وفّر حياة معيشية متواضعة، وتعليم حديث، ومحو أمية نافست العراق والكويت وفلسطين، واهتمت بالمهمشين والبدو والرحل والكادحين.
انتصار اليسار عبّر عن الالتزام بالفكر الماركسي (النهج الستاليني السائد)، ومثل استعارة كبيرة للمصطلح الماركسي مع استمرار العداء للتعددية السياسية والفكرية، ومن باب أولى الحزبية، وهو ما أشار إليه الدكتور أبو بكر السقاف في كتابه “دفاعًا عن الحرية والإنسان”؛ ففي مقال له بعنوان “في ذكرى الاستقلال الذي ضاع مرتين”، كتب: “في ذكرى الاستقلال يجلس الجنوبيون على أطلال وطن، وما أصعب أن ترى وطنك يحتضر، وأن ترى وتشعر يوميًا أنك تنحط إلى مادون المواطنة؛ فبعد أن ضاعت مع الاستقلال المكاسب السياسية والقانونية والنقابية التي ناضل الناس من أجلها منذ ثلاثينات القرن الماضي، عندما أطاح بها الحزب الواحد كلها بضربة واحدة مشاركًا في سياق الحمى التي اجتاحت حركة التحرر الوطني العربية، إلا أن الوطن كان حقيقة في المشاعر والأذهان والأعيان، وبدأت في التبلور في وطنية جنوبية ذات قسمات عصرية، وجاءت الاندماجية الفورية قفزة في المجهول، فثلمت هنا وهناك ما كان حديثًا وعصريًا، وجرى شطب حصيلة تحديث دام نحو ستين عامًا” (ص 215، 216).

حققت دولة الاستقلال إنجازات اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية مهمة: قطاع عام قوي وفّر حياة معيشية متواضعة، وتعليم حديث، ومحو أمية نافست العراق والكويت وفلسطين، واهتمت بالمهمشين والبدو والرحل والكادحين. تبوأت مرتبة متقدمة في بلدان العالم الثالث وحركات التحرر الوطني التقدمية، ونهجت سياسة خارجية معادية للرجعية والاستعمار، وموالية للقضايا القومية، وبالأخص قضية فلسطين، وسنت قوانين وتشريعات متقدمة، وبالأخص قانون الأسرة الذي ينافس قانون الأسرة التونسي، وهما التشريعان المتقدمان على قوانين الأسرة في المنطقة العربية كلها، والعديد من بلدان العالم، وحققت التجربة نوعًا من الاستقلالية والمساواة والعدالة الاجتماعية وضعتها في طليعة حركات التحرر التقدمية.

الأنموذج للتجربة الثورية لدولة التحرر والاستقلال الوطني لا تحجب عن الأبصار جوانب القصور والأخطاء الفادحة التي ساعدت وسهلت وأد التجربة، والحرب ضدها واحترابها؛ تسويد الرأي الواحد، والحزب الواحد والفكر الواحد، كان نقطة ضعف خطيرة.

في العام 1981، انعقد مؤتمر اتحاد الأدباء والكتاب العربي في عدن، وكان الأستاذان الجليلان: محمود أمين العالم، وحسين مروة، ضمن الحضور، وأرادا زيارة المكتبات العامة في عدن، فرافقتهما لزيارة مكتبة 14 أكتوبر- أكبر مكتبة. وبعد الخروج عبرا عن دهشتهما من غياب كتب التنوير العربي والإسلامي لطه حسين، وعلي عبدالرازق، وعبدالرحمن الشرقاوي، والكواكبي، وميخائيل نعيمة وجبران، ورفاعة الطهطاوي..، و… إلخ.

طرحتُ الانطباع على الرفاق، ولا من يستمع؛ فالتعدد مقموع حتى داخل الحزب، ومقالة الشهيد زكي بركات المنشورة في “الثقافة الجديدة”، العدد الثامن، أغسطس 74 – شاهد إغلاق منافذ وأبواب التنوع والتعدد حتى داخل الحزب؛ مما فتح الأبواب واسعة أمام الصراع، ودورات العنف المتكررة، وآخرها 13 يناير 86، التي كانت تتويجًا لدورات العنف الذي بدأ قبل الاستقلال، وساد بعد الاستقلال باسم العنف الثوري المنظم. وفي حين استُخدم قبل الاستقلال ضد الخصم السياسي، فقد كُرِّس بعد الاستقلال حتى داخل صفوف التنظيم السياسي، وفيما بعد الحزب الاشتراكي، وقبلهما الجبهة القومية.

قدم الحزب الاشتراكي نقدًا مريرًا لتجربته، وقدم الشهيد جار الله عمر نقدًا حادًا في مذكراته، كما قدم الرئيس السابق علي ناصر محمد انتقادًا شديدًا في مذكراته، وما يعيبه تبرئة نفسه من أخطاءٍ كان في قلبها، وانتقد التجربة الدكتور أحمد الصياد كواحد من أبناء التجربة في كتابه المهم “السلطة والمعارضة في اليمن”، ولكنه في روايتيه: “آخر القرامطة”، و”اليمن وفصول الجحيم”، كان أكثر جرأة.

ويقينًا، فإن العنف الثوري المنظم وغير المنظم، والصراع على السلطة، وصراع اليمين واليسار، واليسار واليسار، والشمال والجنوب، مثّل مقتل تجربة من أهم حركات التحرر العربية والعالمية، وللبعد القبلي، والمنحى المناطقي دخْلٌ في هذا الصراع الكالح.

كتاب أو سردية الكاتب والأديب منصور هائل “أطياف عدن” أعمق وأصدق قراءة لمذبحة 13يناير 1986.

دراسة التجربة الريادية منذ تشكيلاتها الأولى بأبعادها الاجتماعية المختلفة، مهمة؛ حضور الفكر الناصري، وتأثيره في المراحل الباكرة، والعلاقة بالمركز في بيروت، والخلاف معه، وامتداد هذا التأثير، خصوصًا بعد التحولات في فكر الجبهتين الشعبية والديمقراطية، إضافة إلى حضور تأثير المركزين العالميين: الصيني، والسوفيتي. كما أن تأثير التجربة السوفيتية في مرحلتها الشائخة، وتأثير تيار الأحزاب الشيوعية، والمبالغة في الاستعارة الفكرية، والفهم الستاتيكي للمصطلح الماركسي، وتحويله إلى مايشبه الإيمان واليقين، كلها ألحقت أفدح الأضرار بالتجربة.

مصطلح الطبقة، ومفهوم البرجوازية، والإقطاع، والرأسمالية، والمراحل الخمس، كلها تحتاج إلى قراءة وإعادة القراءة. دراسة العوامل الأساسية للانتصار العظيم، وللإنجازات الثورية في مختلف مناحي الحياة التي حققتها دولة الاستقلال الوطني، ودراسة التجربة في بُعدها الوطني والقومي والدولي، والاعتماد على العوامل الداخلية، والحرص الرائع على انتزاع الاستقلال، ورفض المساومات اللامبدئية، ورفض الضغوط من عدة جهات، وبالأخص من المخابرات ومراكز القوى المصرية- هو الإنجاز العظيم لدولة الاستقلال.

رهانها الصائب على انتزاع الاستقلال عبر الكفاح المسلح، وعدم الوقوع في شباك الاستعمار البريطاني في منح الاستقلال عبر المفاوضات والمساومات السياسية، وعدم القبول ببقاء القاعدة البريطانية، من الجوانب المهمة، لكن المأزق أن السلاح الذي كان أساس الانتصار وتحقيق مجد الاستقلال، أصبح نفسه نقطة ضعف وعلة العلل عندما جرى توظيفه في أوهام تحرير ظفار أولاً والخليج ثانيًا، وكبر الوهم- حد الكارثة- عندما جرى توظيفه في مواجهة الخصم الداخلي السياسي، ولاحقًا في مواجهة النفس.

الخطيئة الكبرى عدم إدراك أن الخلافات بين “الإخوة الأعداء” لا تُحل بالاحتكام إلى السلاح، وإنما عبر الحوار والجدل السياسي والنضال السلمي، ولا علاقة لفكر الاحتراب الداخلي بالماركسية ولا الماوية التي ميزت بدقة بين الرئيسي والثانوي؛ ففي مواجهة الاستعمار أو العدوان الخارجي، تتوحد كل طبقات وفئات وشرائح الشعب في مواجهة الاستعمار أو العدوان الخارجي، وتحالف الحزب الشيوعي الصيني مع كاي تشيك لمواجهة اليابان، والجبهات الوطنية في بلدان الديمقراطيات الشعبية في أوروبا الشرقية في الحرب العالمية الثانية 1939- 1945، هي من أهم تجارب العصر الحديث، وجل تجارب الأمم الشعوب تؤكد هذا المعنى العظيم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى