مقالات

المكان الثابت في الأزمنة المتغيرة بقلم| أنور العنسي

بقلم| أنور العنسي

يدهش في اليمن، هذا الذي خذلته الطبيعة، وخانته الأقدار، أنه لا يزال هو منذ آلاف السنين، قامت وماتت، وسادت وبادت من حوله أممٌ وحضارات لكنه باق، باقٍ ذلك الرقم الصعب في كل معادلات التاريخ وتقلبات المناخ وعنف السياسة وأنانية المصالح، بأرضه المتنوعة، جبالاً وسهولاً وسواحل، وبإنسانه الكبير المكابر، وبثقافته الفريدة في الشكل والمضمون، لهجات متعددة في التنوع، ومتنوعة في التعدد، لكنها تمثل وحدةً واحدة في التنوع، وتنوع في الوحدة، أزياء زاهية الألوان، ومطابخ ووجبات طعام شهية بنكهات شتى، من المهرة في أقصى شرقه، حتى صعدة في أقصى شماله الغربي.

أتحدث عن اليمن كما عرفته، أنا إبنه، لا كما يحاول لصوص التاريخ الطارئون على التاريخ تصويره، ولا مثل ما يحاول بعض قطاع الطرق وأصحاب البنادق المستأجرة اخذه إليه!

كونوا كما تريدون أن تكونوا، ولكن لا تخدعوا أنفسكم أنكم ستجعلون اليمن باستخدام حثالاتكم في شماله أو جنوبه، في شرقه أو غربه سيكون كما تتخيلون!

بالنظر في كل هذه المقدمات فإن اليمن بالنتيجة سيظل هو اليمن، لا يمكن إلغاؤه تاريخياً ولا إزاحته جغرافياً.
لمزيد من التوضيح، اليمن قنبلة بشرية وسيبقى كذلك برغم كل محاولات إفقاره واستضعافه من قبل كل الغزاة الطامعين والمستعمرين، وتوالي كل أنواع المحن عليه، سيظل يثبت في كل يوم أنه بلدٌ قائم، وشعب يقف بكل جوعه وآلامه على قدميه داخل ارضه وخارجها.

لم ولن تتمكن أي قوة على وجه الأرض من ترويضه لخدمة مشيئاتها برغم كل امكاناتها التي استخدمتها في محاولاتها البائسة لإذلاله، هو هنا لا يشبه غيره بل يتفوق عليه في المنطقة والعالم بمراحل قصوى، من يعتقد أن اليمن بات في جيب هذه الميليشيا، أو تلك العصابة، أو أؤلئك الفئة من العملاء والمرتزقة يخطئ في قراءة هذا البلد ومجتمعه وقبائله.

لليمنيين ميزان حساس لتحديد خياراتهم في مراحل الصراع المختلفة، وللذهاب إلى ما يرون أنه الأفضل لهم في كل مرحلة.

لا أتحيز هنا إلى طرفٍ على حساب طرف في الصراع الدائر، فاليمن من منظور تاريخي أكبر بكثير من كل المتنازعين عليه اليوم الداخليين والخارجيين، وبالتأكيد فلا أحاول رفع معنويات اليمنيين لكنني أحاول استرجاع بعضاً من دروس ماضيهم.

تعرض اليمن في سنواته العشر الأخيرة لما يشبه ما تعرضت له أوروبا خلال حربيها العالميتين الأولى والثانية من حيث كثافة الحمم والصواريخ التي سقطت عليه مثلما لم تسقط على أي بقعةٍ في الأرض، ولربما زال اليمن مؤقتاً من الخارطة كدولة بسبب فقدانه (القيادة) الوطنية، وتآمر قوى عظمي عليه بتمويل إقليمي باذخ، وجشع عالمي من قبل شركات صناعة الأسلحة، لكنه لا يزال اليمن، أبناؤه متفوقون في أفضل جامعات العالم، في كل الميادين والتخصصات والعلوم والمعارف.

عندما طلبت مني شبكة تليفزيون دولية ترشيح يمنيين للحديث عن جوهر الأزمة في هذا البلد، لا وفي موضوعات أوسع قمت بطرح إسم بروفيسور يمني محنك فكان ردها ” نحن نريد شخصاً يمكن ترويجه في السوق وليس عالماً جباراً نضيع في سوقه”.

ثمة اليوم علماء من شباب وبنات اليمن ممن صنعوا أسماءهم في الساحة العالمية على أكثر من صعيدٍ علمي بجهد ذاتي تام، علماء ومبدعون، تضيق القائمة بسرد أسمائهم.

منذ زمن كانت قناعتي أن من لديه فكرةً في رأسه لن تستطيع أن تحول بينه وبين التقدم أميالاً نحو هدفه أي مؤسسة، وأن من لا يمتلك مشروعاً في رأسه لن تتمكن أي دولة من الدفع به شبراً واحداً للمضي إلى الأمام.

في ظل الصراع الذي يشهده اليمن أثبت كثير من أبناء اليمن أنهم أصحاب مشاريع تستحق الاحترام والاعجاب، بدليل أن دولاً وحكومات ألحقتهم بأفضل جامعاتها ومؤسساتها العلمية والحكومية والبرلمانية ، وفرشت أمام أغلبهم ما يشبه سجاداً أحمراً للوصول إلى غاياتهم.

في كل يوم يثبت المهاجرون النازحون من دولهم المنكوبة بفعل الحروب والمؤامرات كاليمن والصومال ولبنان والعراق وسوريا إلى دول في آسيا كالصين واليابان مثلاً وباتجاه الغرب إلى الولايات المتحدة وأوروبا.. يثبتون أنهم ليسوا فقط قادرين على تجاوز مشكلات بلدانهم الأصلية بل وعلى الأخذ بيد بلدان المهجر المتقدمة نحو مزيد من التقدم.

سيجيئ يومٌ على العالم لن يحتاج فيه إلى (عضلات) ولا إلى من لديه قبضة (فلوس) بل إلى من يمتلكون عقولاً قادرةً على خدمة الحياة وإيجاد حلولٍ لمشكلاتها المستجدة في مجالاته الصحة والتعليم والطاقة والمياه وغير هذا.. هذا ما أخذ يفعله اليوم شباب اليمن وغيره من الدول الفقيرة، الهاربون بجلودهم، الخارجون من لهيب المعاناة في أوطانهم وليس المبتعثون الخاملون، المترهلون في بلاد الآخرين بأموال طائلة كسفراء تافهين، أو طلابٍ مترفين ونزلاء شقق مفروشة!

لا أنشر هنا بياناً سياسياً بل أحاول رسم إطارٍ لحالةٍ، ظلت في التاريخ محتفظة بكل تعقيداتها ومعطياتها، إبتداءً وانتهاءً، إسمها اليمن!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى