مقالات

عن الإنسان في “الهضبة”.. سجن شكّلته الجغرافيا والسياسات الخاطئة بقلم| فايز الأشول

بقلم| فايز الأشول

يمكن للجغرافيا أن تشكّل التاريخ ومصائر الشعوب، كما يرى روبرت كابلان في كتابه “انتقام الجغرافيا”. وبالنظر إلى الخريطة الديموغرافية لليمن، فإن الكثافة السكانية تتركز في المرتفعات الشمالية التي سكنها الإنسان اليمني منذ القدم، وتناسلت فيها العشائر والقبائل من أجل العيش على الأمطار الموسمية، والعراك مع التضاريس لبناء المدرجات الزراعية.

وبسبب التزايد السكاني الذي استمر في النمو بلا هوادة، تقلّص نصيب الفرد من الأراضي الصالحة للزراعة إلى أقصى الحدود، لتشتعل النزاعات في المرتفعات من أجل البقاء، وتطوِّر القبائل تحصيناتها الدفاعية ببناء الحصون والقلاع في أعالي الجبال، وتتطلّع للبحث عن موارد أخرى للعيش في السهول والسواحل.

كما مثلت تضاريسها الوعرة وعزلة سكانها ملجأً للهاربين من بطش الحكام في وسط وشمال الجزيرة العربية، وبيئة خصبة لنشر الفِرَق والمذاهب الدينية وحركات الإسلام السياسي، ومخزونًا بشريًّا للطامعين في السلطة.

هذا التشابك بين الجغرافيا والقبيلة، والدين والسياسة، أفرز صراعات وحروبًا، وإحساسًا بالغبنلدى سكان السهل والساحل والصحراء من سطوة الجبال التي صارت توصف بـ”الهضبة الزيدية”.

وللخلاص من هذه المعضلة التاريخية، قامت ثورة الـ26 من سبتمبر 1962، التي كان من أهدافها “إقامة حكم جمهوري عادل وإزالة الفوارق والامتيازات بين الطبقات”. بعدها توحد اليمن في 22مايو/ أيار1990، وأعلنت السلطة في صنعاء قيام التعددية الحزبية والسياسية، وشهدت البلاد انتخابات نيابية ورئاسية ومحلية، لكن جميع السلطات المتعاقبة منذ قيام الثورة، فشلت في كسر طوق العزلة عن سكان “الهضبة”؛ فقد احتل المقاعد في البرلمان والمحليات شيوخ القبائل، بنفوذهم ومؤهل “يجيد القراءة والكتابة”، لتقرر لجنة الأقاليم المنبثقة عن “مؤتمر الحوار الوطني” برئاسة الرئيس عبدربه منصور هادي في فبراير/ شباط2014، تقسيم البلاد إلى ستة أقاليم، وحشر الكثافة السكانية في إقليم “آزال” الذي يضم محافظات: صنعاء، عمران، صعدة وذمار، بدون منفذ إلى البحر أو موارد، لتندلع الحرب، وتبقى المرتفعات مخزون السلاح والقبائل التي تحارب لتعيش، وتعيش لتحارب. فكيف سيتحقق الاستقرار لبقية الأقاليم بجوار صندوق الذخيرة؟

ظلم مركب

في هذا السجن الذي شكلته الجغرافيا والسياسات الخاطئة، يرزح السكان تحت ظلم مركب؛ فهم مظلومون ويُظلم بهم.

هذه المرتفعات التي انطبعت في ذاكرة النُّخَب كـ”هضبة زيدية”، لا يعرف معظم سكانها شيئًا عن الإمام زيد بن علي. يستعجلون ساعات مقيل القات ليجمعوا صلاتي الظهر والعصر، ويسترخون في الساعة السليمانيّة طويلًا، وبعدها تأتي تأدية صلاتي المغرب والعشاء على سجادة فردية.

لا يستهويهم البحث عن موروث سيد قطب ولا حسن البناء، ولا مقبل بن هادي الوادعي ولا الألباني. إنه مجتمع محكوم بالعادات والتقاليد والأعراف القبلية التي لم تترك مجالًا للصدفة في تسيير شؤون حياتهم اليومية.

يموت الكثير مبكرًا بنيران الحرب، ويتزوج الكثير مبكرًا في ظل الحرب، وينجبون البنين والبنات بكثرة فـ”الأقدار بيد الله، والرزق على الله”.

في عموم أرياف “الهضبة” تمثل الإذاعات المحلية المصدر الأول للمعلومات، للنساء وكبار السن، فيما “الواتس” ومن بعده “الفيس بوك” الأكثر استخدامًا من قبل الشباب الذين ينشئون صفحاتهم ومجموعاتهم مع أصدقائهم ومن يتشابهون معهم في التفكير والقناعات.

تقول جيسكاكيتنغ، عالمة النفس بجامعة كولورادو: “إذا وضعت مجموعة من الناس المتشابهين فكريًّا في غرفة، فإن مواقفهم تصبح بشكل عام أكثر تطرفًا”.

تدابير قاسية من أجل العيش

دمّر قصف طيران “التحالف العربي” عشرات المدارس، وتخلى الكثير من المدرسين عن مهنة التعليم مع توقف صرف مرتباتهم منذ العام 2016، وتسرب الأطفال من مقاعد الدراسة إلى جبهات القتال وحقول زراعة القات التي صارت المهنة الأولى للكبار والصغار، والبديل المتاح لتوفير متطلبات العيش الأساسية.

توسعت زراعة القات أضعاف المساحات التي كانت مزروعة قبل الحرب، وازدحمت المحاكم والنيابات، خصوصًا في محافظة عمران، بالمتنازعين على الميراث والحواشي الصخرية لدفنها بالتربة، وتقارب الحفر العشوائي للآبار الارتوازية، وتعمق البحث عن المياه في جوف الأرض حتى وصل إلى 800 متر، مع تزايد أصناف الأسمدة والمبيدات التي تستخدم لتسريع نمو أغصان “البلوط”- النوع الأعلى قيمة مالية، الذي صار له مستهلكون في الجوار.

لقد اهتدت النخبة في “مؤتمر الحوار الوطني” إلى أن السلام والتعايش والمواطنة المتساوية ستتحقق بالنظام الاتحادي، وعزل “الهضبة” في إقليم البؤساء. وواجهت الحكومة (المعترف بها دوليًّا) الجهل والفقر والمرض بقطع المرتبات عن عشرات الآلاف من الموظفين. يفكر العقلاء في الطريقة المثلى للخروج من المأزق، بينما يتجادل الحمقى حول من كان السبب.

وقف الحرب يبدأ من هنا؟

في العام 2013،بدأت السعودية في بناء جدار أمني عازل على الحدود مع اليمن، لمنع تهريب المخدرات والسلاح، وتسلُّل الفقراء إلى أراضي المملكة، بعد أن ظلت عقودًا تنفق الأموال على الزعامات القبلية التي وقفت حجر عثرة أمام محاولات بناء الدولة.

السعودية التي تزرع 100 ألف هكتار من المحاصيل الغذائية في 27بلدًاليس من بينها اليمن، بهدف تحقيق أمنها الغذائي، تعجز عن تأمين حدودها الجنوبية مع صعدة، رغم المليارات التي أنفقتها وصفقات شراء الأسلحة، وهي اليوم عالقة في مستنقع الحرب للعام السابع دون أن تلوح أي استراتيجية للخروج منه.

الإنسان وليس الأحجار من يشكّل سور المدينة، كما يقول أفلاطون. ولا سلام، ولا استقرار، ولا تنمية، إلا بالتعليم والاستثمار في الإنسان، فوقف الحرب يبدأ من هنا.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى