مقالات

سقراط..ذبابة الخيل !! بقلم د . أحمد عبدالله الصعدي

بقلم / أحمد عبدالله الصعدي

عندما وقف سقراط في المحكمة عام 399 قبل ميلاد المسيح ، وكان في السبعين من العمر ، لم يكن له الكثير من الأنصار والتلاميذ كما قد نتصور اليوم ، فحملة التحريض ضده وتشويه أفكاره وتنفير الناس منه لاسيما الشباب ، ومن فلسفته ، بدأت منذ ربع قرن قبل المحاكمة . وقد ذكر في دفاعه ما تعرض إليه من التهم ومن حملات التحريض ، وبالخصوص مافعله الكاتب الكوميدي البارع أرستوفان ، الذي خصص مسرحية ” السحب ” للتشهير به . لذلك عمد سقراط إلى تفنيد دعاوى خصومه السابقين الذين لم يتقدموا بدعاواهم إلى المحاكم بل بثوها سموما بين عامة الناس ، ثم فند الدعاوى المرفوعة إلى المحكمة ، وشرح خدماته التي قدمها لمدينة أثينا وشعبها في أهم مايشغل البال في تلك الأزمنة وهي الحروب ، ويؤكد أنه لم يقترف أي من الخطيئتين الكبيرتين : الهروب من المعركة أو ترك جثث رفاقه بدون دفن ، وكان من يهرب من المعركة يحرم من الزواج كما تفيد بعض المصادر . والمعروف أن سقراط أبلى بلاءً حسنا في الحروب البلوبونيزية – بين المدن اليونانية – وأشترك في ثلاث من أكبر معاركها .

وفي الجزء الأخير من دفاعه – وكل ذلك هو كما رواه أفلاطون – يتحدث عن المهمة الجليلة التي انتدبته الآلهة لتأديتها، وهي إيقاظ الأثينيين من غفلتهم . لكن سقراط – رغم كل ما فعله به الأثينيون – لا يتعالى عليهم ويزدريهم ، بل يلومهم لوم الحريص على وضعهم والقلق على مصيرهم بين شعوب ودول تتطلع إلى ذرى المجد والرفعة والقوة والمنعة ، لذلك يشبه الشعب الأثيني بالحصان الكريم إلا أنه سمين وكسول ، ويشبه نفسه بذبابة الخيل ” النُّعرة ” التي تقوم  بلدغه لكي تخرجه من خموله وكسله . أما ردة فعل الشعب الأثيني الغاضبة عليه فيشبهها بردة فعل الشخص النائم على من أيقظه من نومه .

وقد أثار وصف سقراط للشعب الأثيني بالحصان السمين الكسول وبالإنسان الغارق في سباته انتباه بل واستغراب بعض مؤرخي الفلسفة اليونانية ، ويزداد استغرابهم عندما يعرفون أن أثينيا آخر معاصر  لسقراط توفى في عام إعدام سقراط هو المؤرخ الشهير فوكيديد (ثيوسيدس) قال عن الأثينيين أنهم أعتبروا الهدوء المريح إرهاقا خاليا من الراحة ، وأن حبهم للجديد تحول إلى شهوة حقيقية للتجديد ، ويقول عنهم أيضا : لقد خلقوا لكي لايهدأون ولا يدعون الآخرين يهدأون . ولحل هذا التناقض يرون أن مايقصده سقراط بالكسل والنوم هو كسل ونوم العقل ، وهذا ما يوضحه سقراط في بعض المحاورات الأفلاطونية  ، حيث يشير صراحة إلى أن القوة الحقيقية لاتكمن في امتلاك جيوش قوية وأحواض لبناء السفن ومستعمرات رغم أهمية المنجزات المادية ، بل في المستوى الأخلاقي للمواطنين وللدولة ككل ، وفي المكتسبات الروحية ، أي في الثقافة ، وليس في جعل الدولة أقوى فحسب ، بل وفي جعل المواطنين أفضل من الناحية الأخلاقية. وهنا يتحقق صدق سقراط وصحة تفسير موقفه ، فأثينا وجميع الدول – المدن اليونانية تلاشت سريعا بالمقاييس التاريخية وبقيت اليونان التي كلما ذكرت كانت تعني الفلسفة والثقافة. يرى بعض الأوروبيين أن الحضارة الغربية قامت على ركيزتين هما : الفلسفة اليونانية والمسيحية ، ويقول آخرون من المعاصرين : يخلق الإنسان أفلاطونياً أو أرسطياً ، أما ادموند هوسرل فيؤكد أن لأوروبا مكان وتاريخ ميلاد محددان هما : أثينا في القرن السادس قبل الميلاد ، أي في تلك المدينة التي كانت ذبابة الخيل أو النعرة تتجول في شوارعها تلدغ بأسئلتها الجدلية الباعة والمارة وأصحاب الحوانيت كي تخرجهم من نومهم العقلي موقظة كل انسان : إعرف نفسك ، هابطة بالفلسفة من السماء إلى الأرض ، كما قال شيشرون بعد عدة قرون مشيرا إلى سقراط .

(ملاحظة: في إحدى ترجمات “الدفاع” إلى العربية ترد كلمة ” المهماز” بدلا من ” ذبابة الخيل”) .

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى