مقالات

يوسفُ أيها الصِدِّيق! بقلم/ عبدالباري طاهر

بقلم/ عبدالباري طاهر

كوكبٌ من كواكب المجموعة الشعرية، سطعَ في سماء السبعينيات في اليمن كأحد ألمع شعراء القصيدة الكلاسيكية. حافظ بصرامة على الشكل الكلاسيكي للقصيدة العربية، مطورًا المضامين الوطنية والاجتماعية لعمود الشعر. لقد طوّعَ يوسف القصيدة الكلاسيكية لهموم ومعاناة شعبه وأمته العربية، تحول عنده عمود الشعر إلى صواريخ بعيدة المدى، وكانت القوافي قذائف تدكُّ حصون الإمامة والاستعمار، وتُزلزلُ أركان الاستبداد والطغيان والفساد.

كان يوسف ابن تهامة أحد أبرز الضباط الأحرار، وشاركَ ببسالة في تفجير ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، ولعل وجه الشبه بينه وبين يوسف الصديق في الثورة المصرية في المنحى اليساري قد جنى عليه. ومع ذلك فقد كان يوسف أكبر من صغائر الصراعات المتخلفة، أو الاستجابة والانجرار إلى مستنقعها ومياهها الآسنة والعفنة. فلم ينجر إلى خلافات وصراعات «القوى الميتة» وتفاهات خصوماتها، كما لم يقتربْ من صراع المصالح ولعبة الكراسي، ووقف بسلاحه وشعره مدافعًا عن الثورة والجمهورية والحرية والعدل رافضًا ألاعيب القوى الانتهازية في الثورة، ومُدينًا أساليب القمع والقهر ومحاولة المساومات على خط الثورة أو المتاجرة بشعاراتها وأهدافها.

كان صادقًا في موقفه وشعره. وكان التطابق بين موقفه وما يعلنُ في شعره يترك آثارًا عميقة في نفوس غالبية جماهير الشعب؛ لذا فقد تحولت قصائده إلى مناشير سياسية، وكان السياسيون والأدباء والمثقفون يتداولون قصائده الانتقادية كسلاحٍ فتاك في مواجهة الانحراف والفساد والطغيان.

كان يقرأ اتجاهات الريح الهوجاء التي أعلنت عن نفسها بصورة سافرة بعد الخامس من نوفمبر 67. وكان اعتزاز يوسف بيمنيته صادقًا وصافيًا وبعيدًا عن التعصبات الرجعية شديدة البلادة والتخلف.

يعتز بأفضل ما في اليمن، ويدين تخلفها وفساد وطغيان عتاولتها وزعماء الجهل فيها. يدافعُ عن العروبة والقومية في مواجهات التحديات الإمبريالية والصهيونية، ويبكي بمرارة عذابات شعبه ومعاناة أمته.

كيف يحلو على الشفاه النشيدُ

وطني والجراح فيك لحودُ

والقداسات للمبادئ أضحت

مزقًا داسها هنا رِعديدُ

وإناثُ الرجال فيك تناهى

لمداه غرورها المنكودُ

نتراءاهمُ فنحسبُ أنَّا

لم يغادر ترابنا النمرودُ

سكرت بالنعيم والشعب يشوي

روحَهُ الجوعُ والخطوبُ السودُ

كلّ فردٍ فيهم يحس بأنَّا

في يديه حثالةٌ وعبيدُ

لا يجيدون في الحياة سوى الهمـ

ـس بأذن والهمس حينًا مبيدُ

والتقارير كلّ يوم سيولٌ

منهمُ الإباء فيها الشهيدُ

يتلازم الوطني بالاجتماعي، ويقترنُ النعيم أو يتضاد «النعيم» والسكر بالنعيم مع الشواء لروح الشعب؛ فالسكارى بالنعيم هم شواء لروح الشعب، وهم من يدوسون المبادئ، ويريدون تمزيقها، وعندما يستجلي صورهم لا يرى فيهم إلا صورة «النمرود».

يوجهُ يوسف قوافيه نحو الطغيان والاستبداد، ويتجلى جدل السيد والعبد في علاقة متوترة بين الشعب ومجيدي كتابة التقارير التي يكون فيها الإباء فيها «الشهيد».

ويفتحُ العيون والبصائر على الملفات الحبالى بالمخازي في أجهزة القمع، وهي الملفات التي يصوغها الإفك والغباء الفريد، كما يعبِّرُ عنها شعر يوسف. ولا يدرك القيمة الإنسانية الرائعة والروح الثورية الشجاعة لهذا الشعر إلا من عرف ظروف السبعين في اليمن. ويوسف – كمقاتل بالسلاح والكلمة – لا يستسلم لقدره، وإنما يتحدى واقعه المرير.

يمنيٌ يهوى الحياة صراعًا

وعراكًا يشع منه الجديدُ

يمنيٌ عاف التمزق يشقى

في لظاه صباحنا المنشودُ

قصائد يوسف لوحة متكاملة للصراع الجمهوري الملكي في اليمن، ونقد عنيف وشجاع للممارسات البيروقراطية والممارسات القمعية لجهاز الدولة وأجهزة الأمن حينها؛ فقد تعرض المناضل الكبير والشاعر الشجاع للاعتقال أكثر من مرة، وسجل نقدًا مريرًا للسجن والسجان.

سوف نمضي ولن يموت الإباءُ

في دمانا يا سجنُ يا جزارُ

سوف نمضي خطًّا يصولُ اقتدارًا

وشموخًا ما خانها الأحرارُ

سوف نمضي لأننا قد أفقنا

منذ أيول فانحنت أقدارُ

نحن روح التاريخ أسرارهُ

ونحن الألحانُ والقيثارُ

نحن روح التاريخ مهما فعلتم

نحن مضمونه ونحن الإطارُ

خلف هذي القضبان نملك ما لـ

ـا تملك العاصفات والأخطارُ

بين هذه الزنازن السود يا أحـ

باب شاخ التعذيب والجزارُ

في فحيح السياط في خسة البو

تي تعالى الفدا، سما الإيثارُ

كلما عربد العذاب هتكنا

كبرياء الدجى فحل انكسارُ

كلما مارسوا الأجد مـن التـ

ـعذيب فينا تألقت أنوارُ

نعرف الحب صادقًا حين نسـ

ـخو بدمانا لتنضج الأثمارُ

بين ناب الزنازن الربد

نحن أقوى فيلركعُ الأشرارُ

يؤرخ الشاعر لهذه القصيدة بالعام 1978. وهذه الفترة العصيبة من أحلك فترات الصراع السياسي في اليمن، وكانت المعتقلات والتعذيب في المعتقلات من أبشع ما عرفت اليمن في تاريخها.

إنّ قصائد يوسف سجلّ حافل وأمين لمسار الحركة الوطنية وتطورها، والمآسي التي مرت بها؛ فقد دان الإمامة الكهنوتية؛ ففضح استبدادها وزَيْفَ وتهافتَ منطقها.

نتحدى جريمة ووباء

قهرت فيه وثبة العلياء

صنعت منه للوباء حقولاً

صهرته كالثلج في الرمضاء

صنعت منه متحفًا للمآسي

والرزايا والبؤس والأوباء

ألف عامٍ على الظهور يغني

ألف سوط للعصبة الجبناء

ولكن يوسف لا يقفُ عند تخوم نقد الإمامة المستبدة وإهالة التراب عليها بمجرد التطويح ببيت حميد الدين؛ فليوسف الثائر نظرة بعيدة الغور، عميقة الجذور، تنظرُ للمستقبل بنور الإيمان؛ فالمؤمن ينظر بنور الله – حسب القول المأثور.

 

أما آن يا ليل المرارة والأسى

لأكبادنا الجرحى تنامُ وتهجعُ

أما آن يا ليل المرارة والأسى

لأجفاننا من قسوة النار تنزعُ

ورغم مرور عقودٍ على قيام الثورة اليمنية سبتمبر، فإنّ ما يشكو ويتفجع منه يوسف هو الذي يحكم حياتنا، وما زال ليله ليل المرارة والأسى. وإنه ليصعب حقًّا دراسة قصيد يوسف بعيدًا عن قراءة يوسف الإنسان والمناضل. فإذا كان الأسلوب هو الرجل، فإنّ قصيد يوسف تعبِّرُ أصدق تعبير عن شخصه ومسلكه ومواقفه. إنّ شعر الشحاري قراءة صادقة وأمينة وصافية لروحه الطموحة، ولشجاعته الواصلة حدّ الفداء والاستبسال، ولنضاله الدؤوب ضد الطغيان والاستبداد والقمع.

أبدًا لن يعود ليلُ الرزايا

والعذاب المرير والأرزاءِ

أبدًا يا رفاقُ ما دام فينا

نخبة تنتشي بخمر الفداءِ

قد سحلنا عصر الطغاة لنحيا

في ثرانا بالعزة القعساءِ

ونسفنا السجن والسجان كيما

تشعر الروح ها هنا بالإباءِ

إنّ قصيدة يوسف قصيدة موقفٍ بامتياز؛ فهي زاد المقاتلين المدافعين عن الثورة والجمهورية والكبرياء والإباء الوطني بعد فجر السادس والعشرين من سبتمبر 62 في مواجهة جحافل جيش الإمامة التي احتشدت من حول الثورة؛ لتفتك بالفجر الجديد، ولتسفك دم أولئك الأحرار الذين تصدوا لمقارعة غول الإمامة وقهرها.

كان يوسف المقاتل الشجاع والشاعر الثائر ضد الحلول الوسطية وتلمّس الغفران من القوى البالية والرجعية، فقد كان يرى، وهو على حق، أنّ الدفاع عن الحق، والضغط باستمرار على الزناد هو الأسلوب الوحيد الذي يعرفه أعداء الثورة والجمهورية في العربية اليمنية في الستينيات.

وكتبنا مصيرنا يوم ثرنا

وسنحمي مصيرنا بالدماءِ

ومن العار والنذالة أنّا

ننحي للوسيط والوسطاءِ

ارفعوا الصوت واضحًا وجليًّا

نحن لسنا جماعة من هباءِ

وكان موقفه جليًّا وواضحًا في إدانة اللجنة الثلاثية، والتنديد باتفاقية جده بين الزعيم العربي جمال عبدالناصر والملك فيصل.

لا ولسنا صفرًا ولسنا قطيعًا

أو يتيمًا يُحاط بالأوصياءِ

نحن شعبٌ مثل الشعوب خلقنا

مثل شعب السودان رمز الوفاءِ

مثل شعب العراق رمز البطولات

ووكر القُوَّاد والشرفاءِ

نحن شعب يأبى الوساطات حتى

لو أتت من أحبة أوفياءِ

ويشحذُ أحرف القصيدة في مواجهة الانحرافات في خط الثورة، وصعود نجم من يُسميهم أشباه الرجال الذين امتطوا صهوة الثورة.

أبو ح بآرائي بغير توجّس

فلا خوف يؤذي مهجتي أو توقّع

ونسخر بالأشباه فينا تحولوا

رجالاً بلا حقٍّ يعز ويمنع

لهم كل شهر صهوة يمتطونها

وفي كل أسبوع من الشهر برقع

يغطون بالكبر البليد حقيقة

بأنهم من قبضة الإثم ضيعوا

لهم لغة كالأنبياء كريمة

وأفعالهم عار يشين ويصفع

ويحيي المظاهرة العارمة التي شهدتها صنعاء في 3 أكتوبر 67، وهي المظاهرة التي تفجرت في مواجهة اللجنة الثلاثية المنبثقة عن قمة الخرطوم عقب هزيمة 67 النكراء، والمشكلة من المغرب والعراق برئاسة محمد أحمد محجوب رئيس وزراء السودان.

دمدموا كما أردتم وصبوا

فوق هاماتنا سيول المناكر

لن تروا إلا الشموخ تعالى

وتسامى على جبين المنابر

دمدموا كما أردتم ولكن

سوف يجثو الدجى لوثبة ثائر

دمدموا كما أردتم فإنّ الـ

ـصبح آتٍ مهما كوتنا الخسائر

ويوسف المقاتل العنيد يدركُ عمق العلاقة بين التضحية (الفداء) والانتصار (ميلاد الفجر)؛ فللحب ثمنٌ غالٍ، إنه الشهادة، ففي قصيدة مرثاة أبي الأحرار محمد محمود الزبيري في 31 أبريل 56 بعنوان (ثمن الحب)

ثمن أنْ تكون الشهيدا

بالدم الحر فجرها المنشودا

ويوسف الشاعر كان من أوائل من أدركَ خطورة الأفكار الظلامية، وأثرها في التحرر والتفتح والاستنارة.

أتقنت منطق الكلام سلاحًا

تتحدى به الشروق المجيدا

قدرات الإنسان أصلب مما

يصنع الظلم هائجًا وحقودا

يولد الفجر حين تكتب روح

بالدم الحر فجرها المنشودا

وملاحم يوسف الثورية والبكائية لا تقف عند تخوم الوطن المنشود، وإنما تمتد وتلتحمُ بالوطن العربي الكبير؛ ففي قصيدة له بعنوان (باقون) يغني الصمود الفلسطيني، ويبكي نكبة فلسطين 48، ولكنه يقرأ الشموخ والصمود الفلسطيني الذي تحدى وبعناد إنساني يصلُ تخوم الإعجاز بقدرات خارقة، وبروح فدائية قلَّ نظيرها، ويصم الإرهاب الصهيوني مهينًا التواطؤ الدولي والصمت المخزي.

باقون ما سلب العداة إرادة

شماء ساخرة بكل مصابِ

باقون لا سود الخيام تهشمت

فيها شهامة صامد وثابِ

أقوى من الأقدار في فتكاتها

أيار يا شهر الجريمة قل لمن

منحوا الجريمة أنظر الأثوابِ

ما مات شعبي في الخيام ولم يمت

شعب تغوص جذوره بترابِ

عشرون عامًا ظن أنّ فداءهم

فقد الوجود بمنجل الحطابِ

عشرون عامًا ظن أن جذوعهم

سلبت حنين الشوق للإخصابِ

أيار يا شهر الطغاة توحدوا

سرًّا لقتل الأهل والأحبابِ

حدِّثْهمو أنّ الجريمة سوف لن

تمضي كما شاءوا بغير عقابِ

قالوا: السلام، وما السلام بشرعهم

يعني سوى التسليم للأذنابِ

قالوا: السلام، وما السلام سوى هوى

للأرض يصلب ساعة الإرهابِ

وعندما تعتقل إسرائيل المناضل العربي الفلسطيني الكبير المطران كابوتشي – مطران كنيسة القيامة بتهمة تخزين السلاح للمقاومة الفلسطينية في الكنيسة، وقامت الدنيا ولم تقعد، وتدخَّل الفاتيكان، فنقل إلى روما بعد أنْ سُجِن بضعة أشهر، وقد هز الشاعر موقف المناضل كابوتشي، في حين كان السادات يغرق إلى ما فوق الآذان في غزل غير بريء مع كيسنجر لزيارة القدس، والتحضير لكامب ديفيد.

 

قل للأحبة في الخيام

آيار يا شهر الآثام

كبر الصبي عن الحنان مزيـ

ـفًا وعن الفطام

واجتاز جبّار الخُطا

عهد الطفولة واللثام

وعلى صخور فدائه

هزمت دعاوى الاتهام

وانقض محمود الخطا

كالسيل جن بلا زمام

ومضى يعارك صولة الـ

غازي تناهى في انتقام

قل للأحبة في الخيام

آيار يا شهر الآثام

لولاكمو لتمزقت

أحلامنا في الانهزام

لولاكمو لاغتالنا

بؤس التعاسة والجذام

وتملكت خطواتنا الثكلى

سيوف الانحطام

كابوتشي يا فجر السلام

نسجته أكباد الخيام

كابوتشي يا ألق الصباح الـ

ـحر يا عطر الخزام

ما كنت دجال السلوك

ولا المُتاجر بالكلام

ما أنت موبوء الضمير

ولا المروع في الصدام

كنت القصيدة صولة

شماء للوطن الهمام

ما كنت رعديد الفؤاد

يجيد أخلاق النعام

وقصيدة «كابوتشي» تعتبر أعمق تعبير عن الموقف القومي التقدمي لهذا الشاعر الكبير والإنسان المناضل حامل هم أمته العربية، ومن أبرز رموز نضالها العادل والديمقراطي، والقصيدة شاهد عمق معرفة يوسف بطبيعة الصراع العربي الإسرائيلي والاستعماري ضد شعوب الأمة وأمانيها في التحرر والسيادة والاستقلال.

إنّ يوسف كواحد من شعراء «العصر الثوري»، وأحد ورثة تقاليد القصيدة الوطنية الثورية، وكامتداد وفيّ لأسلافه العظام من الشعراء: محمد سعيد جرادة، ولقمان، والزبيري، والموشكي، والبردوني، والحضراني، والمعلمي، فقد حافظ على تقاليد القصيدة الكلاسيكية وصورها وأخيلتها، ولكنه اقتحم بها، وحمَّلَها هموم الأمة والوطن والناس.

وتمتد تجربة يوسف الشعرية إلى أواخر الخمسينيات، وتحديدًا أثناء وعقب تخرجه من كلية ضباط الشرطة؛ فمن قصيدة له بعنوان (الضمير) مؤرخة في 59.

أنا لولاك لم أكن إنسانًا

يا ضميري ولن أعيش مصانًا

أنت حي في كل فرد مقيم

لست ميتًا وصامتًا وجبانًا

وتقدم القصيدة وصفًا عميقًا للضمير: حيًّا وميتًا..

أنت في بعضهم نشيد سلام

ورشاد يمزق البهتانا

أو ميتًا..

أنت في البعض واجم وصموت

وذليل وتلبس الأكفانا

ويناجي الضمير بشغف ووله..

يا هتاف السماء والحق في الـ

إنسان يا يقظة تهزّ جِنانًا

يا غناء الأجيال في مزود الأحـ

ـرار يا صيحة تبيد جبانًا

ليس يسمو الإنسان بالملبس الزا

هي إذا هدم الضمير وخانا

يعرف المرء بالضمير فإما كا

ن خيرًا في الحكم أو شيطانًا

كل شيء يهون إلا ضمير

بصق الناس فوقه خسرانًا

وإذا كان شعر أو قصيد يوسف حكرًا على الوطنية والقومية والتغني بها والدفاع بصدق وإخلاص عنهما، فإنّ الهم الوطني والقومي قد استحوذ على كلّ تفكيره، وصار جزءًا من نبض الفؤاد ويقظة الضمير وتأجج الإحساس والخبز اليومي.

وهناك بضع قصائد غزلية، أو بالأحرى جزء منها موجَّهٌ لزوجه الذي يثني على جلَدِها وصبْرها وتحمّلها المشاق معه في رحلة الكفاح الطويلة.

في يديها ترعرعت أحلامي

وجراحي ذاقت أبرّ التئام

أيقظت صحوة الحياة بروحي

كالروابي بعد احتلاب الغمام

حملتني «مطفرنًا» ليس في جيبي

سوى البؤس والأسى المترامي

يتهادى على ذراعي شعاع

ذهبي الرؤى ثري الوئام

كل شيء صحا أحاسيس روحي،

كلماتي، صبابتي، تهيامي

كل شيء صحا بهيًّا نديًّا

مشرقًا في حلاوة الآكام

فإذا الأمسيات صحوة روح

في ضلوعي فيّاضة الأحلام

في يديها ترعرت أحلامي

أيها الغارقون في الأوهام

واضح أنّ النفس الثوري، والروح العسكرية، ومفردات الحياة القاسية الحماسية، لم تفارق يوسف حتى وهو يخط بيمينه قصائد غزل وحب وعشق.

هذا الهوى المجنون في الأضلع

كالعاصف الموتور في الأضلع

أهداه سهدًا قلقًا مخصبًا

مرارة تسخر بالأدمع

أهداه خطوًا شامخًا يرتمي

في جاحمٍ ثاوٍ إلى زعزع

ويخاطب إنسانية المرأة..

نتبارى إلى متى نتبارى

فاحسم الأمر واهتك الأستارا

ليس في حوزتي، وربي عليم،

غير روح لا تقبل الأقذارا

ويوسف الشحاري من الشعراء القلائل الذين لا يستطيع الناقد أو القارئ الذي يعرفه عن قرب أنْ يصنع فاصلاً، ولو موسيقيًّا، بين يوسف المناضل والإنسان، ويوسف الشاعر. فيوسف الإنسان كان متواضعًا إلى حدِّ نكران الذات. كان واحدًا من ضباط الثورة، وأحد أبرز قياداتها الأمنية، ولكنه من الذين يمشون على الأرض هونًا. كان أصحاب مدينته الحديدة يسمونه المدير أبو فوطة. فهو يخالطهم إلى حد الاندغام، فهو بحقّ واحدٌ من الناس، ولكنه يمتاز عنّا جميعًا بأنه الإنسان الباسل الذي نذر نفسه لقضية آمنَ بها، فلم يتعيش بها، ولم يجعلها حرفة وهو ضابط يحتلُّ المراتب الأولى، ولكنه في كل لحظة ابن الشعب يحملُ هموم البسطاء، وينافحُ عن قضاياهم، ويتعرضُ للمعتقلات والسجون والمكائد؛ لأنه دائم الزلزال للاستبداد والطغيان والظلم.

ويبدو أنّ الشاعر قد أدرك عمق معاناته كإنسان إزاء همه الشخصي وقضاياه الذاتية معبرًا عن ذلك بِحيرة وألم ممض.

كلما قلت غدًا يندمل

في فؤادي جرحي المستبسل

خطف الواقع مني ومضة

للمنى فوق جبيني تصهل

وتهاويت فؤادًا صارخًا

لاكه الرعب الخبيث الأرذل

وتمشى في ضلوعي عاصف

للأسى يشنق روحي يسحل

ويُلاحظ أنّ يوسف، وهو يداعب روحه، ويناجي فؤاده وذاته، لم يستطع التخلص من مفردات الثورة ولغتها الثورية النارية.

وإني لأشكر من أعماق القلب التحية الرائعة والعظيمة للأب الروحي لجيل الثورة، المربي الجليل الراحل الأستاذ/ أحمد جابر عفيف الذي لم يكتفِ بفتح أبصار جيلنا على النور والعدل، وإنما كان يدأبُ على الاحتفاء بأبنائه ورفاقه بعد رحيلهم .

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى