مقالات

بايدن في جدّة.. أمركة أولويات السعودية بقلم| وسام إسماعيل

بقلم| وسام إسماعيل

منذ نشأة المملكة العربية السعودية، لم تشهد العلاقات الأميركية السعودية هذا المستوى من الاضطراب الذي طغى منذ تولي جو بايدن رئاسة الولايات المتحدة مطلع عام 2021. وإذا كانت الإدارات الأميركية المتعاقبة غضَّت الطرف عن السلوك السعودي الذي اعتاد مجافاة العقلانية في لحظات كثيرة، فإن الموقف الذي أعلنه جو بايدن منذ ترشحه إلى الانتخابات الأميركية شكل علامة فارقة يفترض التوقف عندها.

وإذا أمكن تقييم السلوك السعودي الذي يتّجه إلى الاستبداد على مستوى علاقاته الخارجية كانعكاس لسلوك الأسرة الحاكمة في الداخل السعودي، فإنَّ الثابت أنه لم يكن وليد لحظة سياسية مستجدة سببها انعدام الأمن الاستراتيجي على الحدود الجنوبية، وفق القاموس السعودي، أو نتيجة ذهول سببه ظهور أصوات معارضة للأسرة الحاكمة، بما قد يخلق رأياً عالمياً مناهضاً للنظام، كحال جمال خاشقجي.

المسعى السعودي لإرساء شكل من السطوة الإقليمية الشبيهة بتلك التي يحكم النظام بموجبها على مستوى الداخل السعودي، لم تفارق مخيّلة حكام المملكة منذ أن تحسسوا خطر تمدد القومية العربية التي وُلدت في مصر مع ثورة جمال عبد الناصر، إذ ارتكزت الأخيرة على جملة من المبادئ التي تفترض تحرراً للأنظمة والشعوب من علاقة عضوية مع القوى الاستعمارية.

أما موقف بايدن، فمن الممكن تفسيره وفق حيثيات ترتبط بالواقع الأميركي الداخلي الذي فرضه منطق دونالد ترامب، والذي تُرجم تكريساً لضعف البنية المجتمعية الأميركية، من خلال الفوضى التي أدت إلى اقتحام الكونغرس الأميركي، إضافةً إلى محاولة بايدن لإعادة بناء الصورة النمطية للولايات المتحدة، كمثال لبلد قادر على تطويع أي سلوك يخرج عن الإطار المُحَدد للمصالح الاستراتيجية الأميركية.

على مستوى الداخل الأميركي، حاول بايدن توجيه الرأي العام الأميركي نحو نبذ سياسات ترامب، عبر إظهار مدى إساءتها إلى رمزية الولايات المتحدة الأميركية. ومن خلال إظهار مدى إصرار ترامب على البقاء في مركزه، واستعداده للانقلاب على الأسس التي حكمت عملية الانتقال السلس للسلطة في الولايات المتحدة الأميركية، عبر التمسك بادعائه الانتصار في الانتخابات، والتهديد برفض النتائج الرسمية، ثم قيام أنصاره باقتحام الكونغرس، عمد بايدن إلى الإشارة إلى مدى تشابه سلوك ترامب وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، إذ رفض مسعى الاثنين، معتبراً أنَّه يناقض أدنى درجات المنطق العقلاني المتعارف.

وعلى الرغم من المنفعة المادية التي استطاع ترامب تحقيقها، إذ وقع والمملكة العربية السعودية على صفقات يتخطى مجموعها 450 مليار دولار، ركَّز بايدن على فكرة تحول المملكة إلى لاعب مستقل قادر على ابتزاز الولايات المتحدة الأميركية، بعدما شكلت لعقود كثيرة أحد مرتكزات الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط والعالم.

وخلال أكثر من عام ونصف عام من ولايته، عمد بايدن إلى إظهار إصراره على إعادة تطويع المملكة العربية السعودية، عبر عزل ولي عهدها والتشديد على ضرورة محاسبته باعتباره مسؤولاً عن مصير الصحافي جمال خاشقجي، إضافة إلى عرقلة بعض صفقات السلاح المقررة للملكة، وحظر مبيعات الأسلحة الهجومية لها.

حتى وقت قريب، لم تكن زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى المملكة السعودية مطروحة، إذ لم يتغير شيء من وجهة النظر السلبية للرئيس الأميركي تجاه السعودية وولي عهدها، غير أن جملة من العوامل المؤثرة في الموقع الحيوي للولايات المتحدة الأميركية فرضت تعديلاً على موقف الإدارة الأميركية، فالتعقيدات التي فرضت نفسها على المفاوضات النووية بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والولايات المتحدة الأميركية، بوسطة الـ4+1، معطوفة على التداعيات العميقة للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا على أمن الطاقة العالمي والأوروبي، إضافة إلى القناعة الأميركية بضرورة الالتفاف على التمدد الصيني بغية تقييده والحد من زخمه، دفعت كلها باتجاه ضرورة تبني سياسة براغماتية تساعد الولايات المتحدة في محاولة الحد من التأثيرات السلبية لهذه العوامل.

وإذا كان التسويق الخليجي لهذه الزيارة تم تحت عناوين تبدأ بناتو عربي شبيه بحلف شمال الأطلسي لناحية صلاحياته الأمنية والعسكرية والاستخبارية والاقتصادية، إضافةً إلى تظهيرها كاعتراف أميركي بالدور الحيوي العالمي للملكة العربية السعودية ومحورية ولي عهدها، وصولاً إلى اعتبارها اعترافاً من بايدن بشرعية ولي العهد السعودي وتفرده بوراثة العرش بعد أبيه، فإن الإدارة الأميركية جعلت عناوين الزيارة متعلقة بمصالحها الاستراتيجية والحيوية حصراً.

يقارب الرئيس الأميركي جو بايدن علاقاته مع الدول الخليجية انطلاقاً من أمن طاقة الولايات المتحدة الحيوية، إضافةً إلى الحاجة الأوروبية لنفط الشرق الأوسط بعد الأزمة التي سببتها العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.

إضافةً إلى ذلك، يمكن الجزم أنَّ الغاية العربية من الناتو العربي الذي تسوق المملكة السعودية لأهدافه لا تتوافق مع الرؤية الأميركية لكيفية التعاطي مع الجمهورية الإسلامية، فالهدف الأميركي من هذا التحالف لا يرتقي إلى مستوى التحضير لجبهة مفتوحة قد تتطور إلى حرب عسكرية ضد إيران.

إنّ الاستراتيجيات الأمنية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، في ظل التعقيدات الأمنية التي تعصف بالمنطقة والحرب في أوكرانيا، لا تضع مسار توتير الأجواء في المنطقة على رأس سلم أولوياتها.

وبناء عليه، إذا كانت الولايات المتحدة قد شجّعت بناء هذا التحالف، فإن سقف طموح الولايات المتحدة الأميركية تحدده أهداف محددة، تتمثل بالدرجة الأولى في دمج الكيان الإسرائيلي الذي لم يخرج لحظة واحدة عن ولائه لها، ضمن منظومة من الدول العربية والإقليمية التي ستضمن انتفاء أي فرصة لمشروع مقاومة شاملة تعيد الحقوق العربية، إضافة إلى مراكمة أوراق القوة اللازمة لترتيب شكل النظام العالمي الذي سيتشكل عند جلاء غبار المعارك الممتدة من أوكرانيا إلى اليمن مروراً بفلسطين.

من هنا، يمكن القول إن ملامح الزيارة الحالية للرئيس الأميركي للمملكة السعودية، ستتحدد وفق الرغبة الأميركية، بعيداً من الطموحات السعودية، من خلال الحديث عن إمكانية عدم مصافحة الرئيس الأميركي لولي العهد السعودي، إضافة إلى إقراره، خلال زيارته للكيان، بأن الحلّ الدبلوماسي هو السبيل الأفضل لإشكالية النووي الإيراني، وتأكيده أيضاً التزام واشنطن بأمن الكيان الإسرائيلي والحفاظ على تفوقه العسكري، وإعلانه أن دمج الكيان بمحيطه الإقليمي وتوسيع دائرة التطبيع لتشمل دولاً عربية وإسلامية أخرى هما الهدف من الهيكل الإقليمي (الناتو العربي)

لذلك، يمكن القول إن الحقيقة التي سترشح من زيارة بايدن إلى السعودية لن تقدم لولي العهد السعودي ما سوق له سابقاً، إنما ستعبر عن قرار حازم بتعديل الخيارات السعودية وفق منظور الرؤية الاستراتيجية الأميركية الحالية المتمحورة حول ضمان أمن الطاقة الأوروبي والأميركي والتزام الأمن الإسرائيلي كضرورة حيوية لمصالح الولايات المتحدة الأميركية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى