مقالات

من مدرّسة في ريف شبوة إلى مناضلة في ثورة 14 أكتوبر بقلم| أوراس الإرياني

بقلم| أوراس الإرياني

في عصرنا هذا يطول الحديث عن تحرر المرأة، ودورها في المجتمع، ويتكرر كل يوم بكثرة. والمرأة ببساطة هي عندي قيمة كونية وجمالية لا تعلوها أي قيمة أخرى. لهذا، أخذتني الحروف والدموع لزيارة أمي “راقية حريري” والكتابة عنها، لا لكونها أمي فحسب، بل أيضًا لأنها أم لأجيال من أبناء هذا الوطن، حيث انخرطت في مجال التعليم في سن مبكرة، وذهبت في مطلع الستينيات من القرن العشرين الماضي للتدريس في ريف شبوة، وعادت. ثم كانت معلِّمة في كلية بلقيس للبنات، كما أنها انخرطت في العمل السياسي وهي في ريعان شبابها، فكانت ناشطة ضمن منظمة الجبهة القومية، وقد ساهمت مع رفاقها في تحرير الجنوب من المستعمر البريطاني، وبالتأكيد هي من مؤسسي اتحاد نساء اليمن.

كانت جدتي لأمي تقول لي إنها كانت تُلبِس أمي “الشيدر” (عباءة تلبسها المرأة في عدن عند الخروج من البيت)، وهي تخلعه وتضعه عند صاحب الدكان وتذهب إلى اللعب والمرح دون أن تغطي شعرها وتعزل مسامات جسدها عن الهواء النقي. فالشرف عند أمي ليس في “شرشفة” الجسد وتغطيته من أنظار الرجال، وإنما يكمن في وعي المرأة بحقيقة وجودها، وباعتبارها إنسانًا مستقلًّا بذاته تمامًا كالرجل، والشرف في نهاية المطاف هو ضميرها الشريف والسوي، وفي هذا المستوى عاشت أمي حياتها حتى النهاية. كانت لا تنكسر، ولا تخضع لقيود المجتمع البائسة، ولا لتلك التقاليد الجاهلية التي تحتقر المرأة وتقمع إنسانيتها.

دائمًا تحضرني ملامحها وهي تعطيني تفاحة قبل ذهابي إلى المدرسة، إذ تقول لي: كُلْهَا هنا في المنزل فقط؛ فغيرك في المدرسة لا يملك تفاحة! فكبرتْ في رأسي الأسئلةُ مع مرور الأيام والسنين، ومنها: لماذا أنا أملك تفاحة وغيري لا يملكها؟ لماذا لا نكون أنا وغيري نملك تفاحة؟

طبعًا تلك التساؤلات المؤلمة ظلت باستمرار تقودني إلى مسألة العدالة والمساواة.

عشتُ مع أمي إلى أن رحلَت عن الحياة في عام 2001، ولا شك أنّ تلفاز عدن كان أول ما يبدأ البث يقوم بتشغيل النشيد الوطني، فتقف أمي وتغضب إذا لم أقف معها احترامًا لمكانة الوطن الجميل. لقد كانت محبتها للوطن تجعلني أراها الوطن بعينه. ستظل هي وطني الحقيقي والوحيد أينما وليت وجهي، وحتى آخر لحظة من العمر. هي قصيدتي الجميلة التي تكتبني كل يوم بالدموع على ورقة الصمت. وأتذكّر في عام 1990، بالتحديد في 22 مايو، كنتُ حينها أبلغ من العمر 7 سنوات، ولا أعرف ما الذي يحدث. غير أنّي كنتُ أرى السعادة الغامرة تطغى على وجه أمي وهي تعلّق أعلام اليمن الموحد على شبابيك بيتنا، وربما كنتُ أسمع نبضات قلبها تخفق كنبضات الوطن. لم أرَ قط سعادةً تُشبِه سعادةَ أمي تلك التي رأيتُها على وجهها في نفس ذاك اليوم التاريخي الفريد، يوم الوحدة. وفي كل مناسبة وطنية أرى السعادة تغطي وجه أمي وهي تعلق العلم اليمني وتشغل النشيد الوطني في آلة التسجيل، فأشعر بالأمل رغم كل شيء. حتى في زواجها من أبي ناضلت حتى التعب، ذلك أنّ أهلها رفضوا ارتباطها من رجل “شمالي”، إلا أن أمي لم تكن تأبَهُ لمثل هذه الأمور ولا تخاف من شيء أثناء مسيرتها على درب الحب، حتى إنها انتصرت في الأخير وتزوجت من أبي الحبيب. شجاعة أمي كانت نابعة من وعي إنساني عميق، من قلب كبير بحجم البلاد كلها.

عشتُ مع أمي في عدن، وفي العطل الصيفية كنتُ كالعادة أذهب إلى صنعاء لقضاء العطلة هناك. وفي إحدى العطل الصيفية وأنا في صنعاء، حدث حريق في بيتنا، فاتصلوا بي قائلين إنّ أمي تعرضت لحادث حريق!

أمّا حنان أمي الصادق فقد جعلها تقول لهم: لا تخبروا أوراس، أرجوكم دعوه يستمتع بعطلته. وأمّا أنا فلم أتأخّر أبدًا عن حالة أمي؛ إذ قطعتُ تذكرة سفر عاجلة، وركبتُ الحافلة عائدًا إلى عدن، وفي الطريق إليها غادرتني هي، نهائيًّا، ومن دون أي وداع، نعم غادرتني أمي بعيدًا عن الحياة، تاركةً شرخًا عميقًا داخل روحي، شرخًا يكبر مع الوقت أو كلما اعتراني الشعور بالحنين. وداعًا أيتها المعلمة والمربية.

قبر أمي جنوب الوطن

وقبر أبي في شماله،

آه، كم أشعر بالوحدة!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى