مقالات

من أنت؟ اليمنيون وحمولات الأسماء التمييزية بقلم| محمد عبدالوهاب الشيباني

بقلم| محمد عبدالوهاب الشيباني

في مايو 2019، توجهت الزميلة هدى جعفر لي ولآخرين بمجموعة أسئلة تتصل بقيام الكثير من الأشخاص إخفاء القابهم ، أو حذف اسم معين من تسلسل اسمائهم ،او استعارة لقب غير موجود في العائلة التي ينتسب إليها؛ وأرادت أن تعرف من المشمولين بذلك الاستطلاع، دلالات هذه الاستعارة، أو الانتحال في السياق السياسي والاجتماعي في اليمن، باحثة عن العوامل التي أدت إلى ازدهار هذه الظاهرة، وما الذي يقدمه هذا “الانتحال” من مزايا للشخص في اليمن كدولة قبلية؟

ارتأيت حينها أن المجتمع اليمني ، بتنوعه، وعلى امتداد جغرافيته الطبيعية ، لم يزل محكوماً بعلاقات ما قبل الدولة والمواطنة، وأعني تلك العلاقات التقليدية المتخلفة “العشائرية والقبلية والبدوية” التي تعيد تمثيل أدواتها على أساس مناطقي وطبقي واضح في موجات الصراع المتعاقبة في البلد غير المستقر، وإن التشكلات المدينية القليلة التي ظهرت هنا وهناك في التاريخ القريب ، لم تصمد طويلاً أمام قوة الإرث وقساوته، وإن ” الإمحاء الجزئي للرموز الخارجية المعبرة عن التفاضل الاجتماعي، هو تعبيرٌ عن قطيعة عقدية مع المظاهر الأكثر قِدماً للنظام التقليدي، مضاعفاً المستضعفين السابقين باستراتيجيات تهدف إلى محو آثار وضعيتهم الاجتماعية السابقة. من بين تلك الاستراتيجيات تبني اسم شهرة جديد يسخِّر الرغبة في كسر وصم اسم يمكن أن يكشف الأصل الاجتماعي لحامله” كما يقول فرانك مرميه في كتاب شيخ الليل – اسواق صنعاء ومجتمعها ص104

لهذا لا غرابة أن يتمترس بعض السكان خلف هوياتهم التجزيئية المتخلفة، بما فيها أسماء والقاب الأسر والعائلات ، التي توفر للأشخاص أنواعاً متعددة من الحماية الاجتماعية والسياسية، وبمقابل ذلك أيضاً يعمد آخرون الى إخفاء القابهم وانتماءاتهم المناطقية والعشائرية، حتى لا تنقلب وبالاً عليهم ، في ظل أوضاع محكومة بالضغائن والدم، وتسترشد بالأسماء والألقاب لتحقيق مآربها. أما النوع الثالث فيعمل على إضفاء انتسابات جديدة لاسمه العائلي لاكتساب مكانة ما ، او تسهيلاً لتحقيق منافع، ما كان ليحققها لولا هذا الانتحال.

بعد ثورة سبتمبر1962، مثلا عمد الكثير من أبناء الاسر الهاشمية الى اخفاء القابهم العائلية، خوفا من التنكيل والاضطهاد فكان الشخص المنتسب لبيت حميد الدين من بعيد يكتفي بـ”حميد” بدلا عن حميد الدين فيصير حميد اسماً لا لقباً وانتسابا عائليا ، وكذلك “شرف” بدلا عن شرف الدين وهكذا, لكن مع الظاهرة الحوثية اليوم بدأ الناس يتحسسون إنتماءاتهم السلالية والقابهم العائلية ويكابدون لإبرازها ، لأنها صارت تحقق لهم مكانة إجتماعية وسياسية في ظل سلطة تكرِّس هذه الظاهرة وتمدها بالحياة.

أعرف كثيرين ، من سنوات طويلة بأسمائهم والقابهم القروية البسيطة، وصاروا الآن في هوياتهم ينتسبون الى بيوتات هاشمية كبيرة، كالمهدي والمتوكل والشامي، ليحققوا من ورائها مكاسب أقلها الذوبان في جسم السلطة الطارئة، والإنتفاع منها.

حتى سنوات قليلة كان الانتماء للقبيلة القوية الحاكمة (حاشد) والتي ثبَّتت، بالحق والباطل على مدى عقود، رموز “مشيخ الجمهورية”، بمثابة ميزة إضافية تمهد لأصحابها كل المسالك الوعرة وتفتح أمامهم كل المغالق في الوظائف العليا، والتجارة والمقاولات ، وتملك أراضي الدولة والمواطنين، في السهول والأودية الخصبة، مثل ” تهامة واب وابين ولحج”، واقتسام مناطق الثروة في حضرموت وشبوة ومأرب.

بعد أحداث يناير 1986، في جنوب اليمن، اضطر الكثير من أهالي أبين وشبوة مثلا، الى إخفاء هوياتهم تجنبا لعملية الايذاء التي مارسها الطرف المنتصر على خصومه، لكنها صارت بعد جائحة الجنوب في 94 مصدراً للقوة والسطوة في المناطق التي أخضعها تحالف الحرب؛ وقبل ذلك أخفى أبناء واقرباء السلاطين والمشايخ والأسر الكبيرة، القابهم ليتكيفوا مع الوضع الجديد الذي فرضه واقع الثورة، لكنهم مع الوحدة عادوا للمطالبة بسلطاتهم وثرواتهم التي أممتها الحكومة، اعتمادا على القابهم وانتماءاتهم. وبعد احداث اغسطس 2019 في عدن، شكلوا مجلساً سياسياً بمباركة دول التحالف ورعايتها.

أكثرنا يتذكر أن واحدا من قرارات حكومة ” جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية” في سبعينيات القرن المنقضي، كان الغاء الألقاب التي تشير الى أسماء المناطق والاكتفاء بأسماء الأشخاص وتسلسلها العائلي، في خطوة اعتُبرت آنذاك الغاءً للتمايز. لكن بعيد الوحدة عاد الكثير من أهالي عدن والمحافظات الجنوبية لإبراز القابهم العائلية والمناطقية، التي تحدر منها أباؤهم وأجدادهم الشماليين، لاعتقادهم انها ستكسبهم صفة المواطنة النقية في الوضع الجديد، قبل أن يعودوا مرة أخرى لإخفائها، مع هوجة التمييز المناطقي في مدينة عدن ومحيطها خلال السنوات القليلة الماضية.

التمايزات الطبقية والاجتماعية، التي تشير إليها وتعبِّر عنها الأسماء والألقاب لم تزل فاعلة، بل وتزداد ضراوة مع هوجة الصراع الدائر، واستجلاب النعرات التي كان من المفترض قد تخلص منها المجتمع بعد قرابة ستة عقود من الثورة والتحولات التي اجتاحت العالم، لكنها صارت الآن واحدة من مشغلات التقاتل على السلطة في البلد المنكوب.

هناك ظاهرة مرتبطة بالوعي الثقافي الشائه، وهي ظاهرة التراتبية الاجتماعية واحتقار المهن، والتي ارتبطت كثيمات ثقافية اجتماعية بعهد الإمامة الطويل، ويعاد تكريسها وبقوة في هذا الوضع الكارثي، وهو تقسيم المجتمع الى سادة وعبيد؛ يتعالى فيها السادة على مهن يقوم بها بسطاء الناس، فالحلاق والجزار والحجَّام والمقشِّم “زارع الخضروات” والمقهوي، في عُرف هؤلاء ووعيه خلقوا ليمارسوا هذه المهن ، التي يتأفف منها وينبذها الأسياد. لهذا صار الكثير من هؤلاء المنتمين لهذه المهن يخفون القابهم، ويتركون مهنهم هروبا من هذا النبذ والتحقير الذي يطال أبنائهم في المدارس والحواري، حتى أن الجيل الثاني من الأبناء الذي أراد التخلص من هذا الثقل التمييزي، لم ينج تماماً من”محاولات تصديق التخلي عن مهنة وضيعة متوارثة بتبني لقب جديد يفترض أن يصبح امتيازاً للجيل الثاني من حيث الوضع الاجتماعي تتخذ، حسب الأوساط التي تتلقى فيها ، صيغاً مختلفة”، حسب مراميه، والذي يرى أيضاً أن:

“تقارب الغاية المرجوة من هذا التغيير للاسم، أي محو الوضع القديم، استراتيجية بعيدة المدى تتطور وفق الجيل الجديد. وفعلاً، فاسم الشهرة الجديد لا يستخدمه إلاَّ أولئك الذين يجهلون القديم، على حين تستمر الإشارة إلى والدهم بالاسم الذي يريد التخلص منه”

الانقسام الواضح في المجتمع بسبب الازمات المستديمة التي قادت الى الحرب، أعاد الى السطح المشكلة الطائفية في البلاد، والتي وإن لم تزل تتخفى في المعطى المناطقي (شمال وجنوب) ، أو (مطلع ومنزل)، فالإشارة الى مطلع- واحيانا الشمال- أو منزل، هي تصريحا واضحا لمعنى طائفي في الوعي المأزوم (شعبيا كان أو نخبويا). فأهل مطلع والشمال، هم “الزيود” (الشيعة) وأهل منزَل والجنوب، هم الشوافع (السنة).

الصوت العنصري الفج، والحاضر داخل مفاعيل الحرب، لم تعد حاضنته سلالية صرفة، بل صارت مناطقية وقروية ناعقة تجرِّم الآخر، وتُلبِسه كل اعتوارت الصراع في الماضي والراهن، على نحو تعالي الصوت الاجوف في الجنوب ضد كل ما هو شمالي، وهو الامر الذي جعل الكثيرين يخفون هوياتهم والقابهم، حتي يستطيعون العبور من نقاط يتحكم بها مسعورون مناطقيون، ليصلوا الى مناطق في الجنوب، هروباً من جنون المتحاربين، أو البحث عن فرص جديدة للإقامة والعمل في مناطق شُهد لها تاريخيا بالتسامح وقبول الاخر، ويريد لها العنصريون الجدد أن تكتسي بمزاجهم الطارد والدموي أيضاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى