مقالات

الرواية اليمنية بين جارالله عُمر وفيصل جلّول بقلم| سامي كليب

بقلم| سامي كليب

ليس أكثر إخلاصا من إنسان يحفظُ ذاكرة الراحلين ويكتب عنهم بعد خفوت حضورهم في الذاكرة الجماعية. وليس أكثر صدقا من كاتب اختلف مع من يكتب عنه في بعض المراحل السياسية، لكنه ما حفظ من الخلاف غير الصفات الحسنى لمن رحل. هذا ما فكّرتُ به وأنا أقلّب بشغف الكتاب الجديد للكاتب والصديق فيصل جلّول عن بلدٍ أحببناه سويا حتى شغاف العشق، هو اليمن، وأما عنوان الكتاب فهو ” مختصر أخبار اليمن في مرويات جارالله عمر“.

وجارالله عمر لمن يجهله، هو ذاك القيادي الاشتراكي اليمني الذي كان متّقد الحيوية والحضور، متدفّق الأفكار والتحليل، مُعارضا شرسا لكن تحت سقف الوطن، مُحتَرَما من معارضيه قبل الموالين، نابضا قلبه على قضايا العرب، حالما بعالم العدالة والمساواة، راغبا في مصالحة اليمنيين مع اليمنيين لكن بالديمقراطية وليس بفرض الوحدة فرضا، قبل أن ترديه رصاصةُ حاقدٍ وهو يخطب على منبر إسلامي تابع ل ” التجمّع اليمني للإصلاح”. قال القاتل في حينه إنه قام بفعلته الشنيعة تلك لان جارلله ” علماني كافر”.

لعلّ كثيرين مثل فيصل جلول ومثلي، ما كانوا يذهبون مرّة الى اليمن دون المرور بالرجل الشديد السُمرة والقصير القامة والنحيلها نسبيا والذي رسم القدر والعمر على وجهه خطوط العمر والتاريخ حتى تكاد تُشبه تعرّجات التاريخ اليمني ودهاليزه، وهو المفكّر والسياسي العالي المقام والسريع البديهة والعميق المعرفة، ذلك أن تحليل وفهم الأوضاع في اليمن، يبقيان ناقصين دون العبور بداره وسماع أخباره.

كتاب فيصل جلّول يروي سيرة القيادي الذي أثار في زمنه جدلا كبيرا وأسال حبر معظم الكتّاب العرب بلسانه، فهو تركه يتحدّث بوصفه شاهدا أساسيا على مرحلة مهمة من التجربة السياسية اليمنية خلال القرن العشرين، لكن الكاتب أضاف الى ذلك، ومن خلال معرفته العميقة باليمن، ومعاشرته للكثير من قادته وأهله، ومن خلال اقامته فيه وعمله في بعض صحفه لفترة غير قصيرة، أضاف تحليل أوضاع اليمن وتقلباته وحروبه ووحدته، واستهلّه بما يليق بعصرنا الحالي، أي تأثير ما وُصف ب” الربيع العربي” على اليمن وأحواله، حيث ألقى هذا الربيعُ عليه جورَه وأهوالَه.

يقول جلّول عن أول لقاء مع الراحل الكبير : “التقيت جارالله عمر في سنوات الوحدة اليمنية الأولى. كان طرفا أساسيا في الحزب الاشتراكي اليمني يمثل التيار الشمالي في الحزب بل يتزعمه، وواكبتْ معرفتنا سيدة لبنانية هي زوجة دبلوماسي فرنسي مقيم في العاصمة اليمنية. كانت تستضيفنا معا عندما أزور اليمن، في منزلها التقليدي الجميل في ” بستان السلطان ” في صنعاء القديمة وبخاصة عندما كان هذا القائد الاشتراكي اللطيف وزيرا للثقافة. كان حريصا في تلك الفترة التي شهدت توترا شديدا بين الرئيس صالح ونائبه البيض، على تجنب القتال والحرب. كان يعتقد بان “المؤتمر الشعبي العام” يريد الحرب لكي يستأثر بالسلطة. قلت له ان رئيس الجمهورية يقول ” إنك لا تريد حل مشكلة التعايش بين الاشتراكي والمؤتمر في السلطة عبر توحيد الحزبين وان علي سالم البيض وافق على الدمج بينما انت ترفضه بقوة “. قال لي انه يُصِرُّ بالفعل على عدم الدمج وعلى حل المشاكل بالمزيد من الديمقراطية والتعددية، لكنه يرى ان ما يعد لليمن أخطر من هذا بكثير وقال محذرا ” اهل الجبال في الشمال اهلي. يراد عزلهم وتجويعهم وأنا أخاف عليهم من مصير قاتم لكن حزب المؤتمر يتلهى بألعاب سياسية صغيرة”. سنعرف بعد 15 عاما معنى هذا القول عندما طُرِحَ مشروع الأقاليم الستة وحُشِرَ ” أهل الجبال ” في إقليم” أزال” المقفل.

نقرأ في الكتاب، مراحل عديدة من حياة جارالله عمر، ابتداء من ولادته في العام 1942 لأب معلّم في كتاتيب القرى والذي توفي وكان الطفل ما زاله في شهوره الأولى، ولأمٍ صارت أرملة وهي في السابعة والعشرين من عمرها، مرورا باليتم الذي أوصله الى الماركسية عن طريق المعتزلة، والالتحاق بكلية الشرطة للحصول على دبلوم الحقوق، ثم التعليم في الكلية وشكوك المصريين به وبرفاقه بسبب المحاضرات عن الوطنية والقومية ، والمشاركة في الحرب الأهلية بين الملكيين والجمهوريين، والالتحاق بحركة القوميين العرب عام 1962 ، وانقلاب السبعين، والعلاقة بين الشمال والجنوب، وتجربة السجن،وصولا الى أسرار صراعات الحزب الاشتراكي والاغتيالات والمجازر والتفكك والوحدة والانفصال وصعوبة فصل القبيلة عن الدولة، وكلّ ذلك بلسان جارلله عمر نفسه لا بلسان الكاتب، الذي صاغ ما قاله الراحل، بلغة عربية سهلة وجميلة ومتقنة وبكثير من المحبة.

مرويات الاسرار

أسرار كثيرة نكتشفها في مرويات جارالله عمر، وبعضها يُذكر للمرة الأولى، واذا كان الحديث عن كتاب يفترض عدم الإفصاح عن أهم ما فيه، كي يتسنّى للقارئ الاهتمام به والتمتع بمضمونه والإفادة من دروسه، فإننا نكتفي بقليلها كي نشجّع على قراءة كثيرها. من الاسرار مثلا ما يرويه القيادي الاشتراكي عن الجنرال إبراهيم الحمدي الرئيس السابق للجمهورية العربية اليمنية، فيقول :

” كان الحمدي رجلا ذكيا ومناورا بارعا وصاحب مشروع بناء دولة بمواجهة القوى التقليدية. استفز مقتله الحزب الاشتراكي وتعهد سالمين بالثأر من قتلته. اصدر امرا كتابيا بهذا الخصوص وأمر بتجهيز الحقيبة المتفجرة وإعداد الفدائي المرشح للتنفيذ وأمره بان ينتقم للحمدي وقال له ان قتلت الغشمي ستتحقق الوحدة اليمنية. وكان صالح مصلح قاسم ( هو وزير الدفاع الأسبق واحد ابرز قادة الجنوب. قتل في مجزرة المكتب السياسي في عدن في 13 يناير كانون الثاني 1986 ) قد اشرف على اعداد هذا الفدائي واسمه مهدي تفاريش. انا رأيت بأم العين نص قرار سالمين بتصفية الغشمي ( المقدم احمد حسين الغشمي رئيس الجمهورية العربية اليمنية في العام 1978 والمتهم بتدبير اغتيال الحمدي وتولي السلطة مكانه. حكم ستة اشهر فقط قبل اغتياله ). كتب تفاريش وصيته وتم تصويره وأقيم له حفل وداعي في مديرية ” الشعيب “. كان يحمل مسدسا في وسطه ومسدسا احتياطيا في اسفل ساقه حتى اذا لم تنفجر الحقيبة يستخدم مسدسه. وكان يعرف بطبيعة الحال ماذا في الحقيبة”.

مثل هذا السرّ وغيره، يضيف كثيرا على الأرشيف اليمني والكتب التي تحدّثت عن تاريخ اليمن ودور جارالله عمر فيه، وبينها مثلا كتاب ” مذكّرات جارالله عمر-الصراع على السلطة والثروة في اليمن” والذي كان ثمرة حوار أجرته ليزا ودين وحرّره وقدّم له الكاتب اللبناني المتخصص ايضا بالشأن اليمني فواز طرابلسي.

مقدّمة لفهم التاريخ والمستقبل

لعل مقدمة الزميل فيصل السياسية الشاملة أعطت لهذه المرويات نكهة الحداثة المرتبطة بمرحلة عربية معقّدة في ظلال ما وصف بالربيع العربي، أو قل أعطتها حقّها، لان الكثير مما وصل اليه اليمن لاحقا، قيل في مرويات القيادي الاشتراكي التي ربما لم ينتبه اليها كثيرون في وقتها، أو ربما انتبهوا وما أعاروها الاهتمام المطلوب، فسقطوا في فِخاخ كان جارالله عمر قد نبّههم اليها .

في مقدمته غير المحايدة تماما، يعتقد الكاتب أن حرب اليمن دخلت في متاهات التعقيدات الكبرى، وأن أمل السعودية بربحها يتضاءل كثيرا ذلك أنه يتطلب حربا برية واسعة، والرياض ليس قادرة عليها بعد تفكك التحالف الذي قادته، وهو في تحليله لما يجري منذ ” عاصفة الحزم” التي تحوّلت الى عواصف كثيرة تعصف بالجميع، يفنّد مصادر ومرتكزات القوة والضعف عن الأطراف المتحاربة على أرض اليمن.

ويقول فاجأ ” الربيع العربي ” اليمنيين الذين كانت بلادهم تشهد صراعات متداخلة ابتداء من اقصى شمال البلاد حيث تعاقبت الحروب الستة لمجابهة ” أنصار الله ” مرورا بصنعاء والتنافس الحاد على السلطة بين احزاب ” اللقاء المشترك ” المعارضة التي تستند الى عمق قبلي والى الاسلام السياسي وصولا الى الحراك الجنوبي الذي يطالب منذ العام 2007 باستعادة الدولة الجنوبية السابقة وفك الارتباط مع دولة الوحدة”.

ويضيف :” شهدت شهور ” الربيع العربي ” اليمنية خلطا معقدا للأوراق انتهى الى انتقال السلطة من الرئيس الراحل علي عبد الله صالح الى نائبه عبد ربه منصور هادي عام 2012 من دون ان يؤدي هذا الانتقال الى نهاية سعيدة للازمة اليمنية التي دخلت في مسار اخر وتعددت وجوهها فيما يشبه اللعبة الشهيرة المعروفة باسم “الماتريوشكا” الروسية”.

لعل تعبير ” الماترويشكا” مناسب تماما لحرب اليمن وتحولات الأرض والسياسة والتحالفات، ذلك أن الحرب تُشبه تلك اللعبة الروسية التي كلما فتحتَ إحدى علبها تكتشف بداخلها واحدةً مماثلة ولكن بحجم أصغر، وحبذا لو استخدم عبارة ” “ماتريوشكا مقلوبة”، ذلك أنه كُلما فُتحت جبهة في الحرب اليمنية تكشِف عن واحدة أكبر منها لا أصغر. لكن الكاتب أراد التعبير في ذلك التشبيه عن تعقيدات ودهاليز ما يحصل محليا وإقليميا ودوليا.

وبعد التحليل المستفيض يصل جلّول الى خلاصة مفادها:” ان الوقت لا يلعب لصالح بؤساء اليمن الذين يعانون من جائحة الكورونا وسوء التغذية وانهيار بنية بلادهم التحتية ولكن طول امد الحرب لا يلعب ايضا لصالح المملكة العربية السعودية التي قد تجد نفسها مضطرة لتحمل نتائجها الى حين اعادة النظر بكامل جيوبولتيك شبه الجزيرة العربية والبحر الاحمر. وفي الوقت الضائع قد تظهر ” شياطين ” جديدة”

ويقول : “من الصعب التنبؤ بالسياسة التي كان سيعتمدها جارالله عمر لو بقي حيا مع الظن الغالب بانه لم يكن ليرفض سياسة حزبه التي اوصلته الى طاولة الحوار الوطني كقوة سياسية وازنة لكني لست متأكدا من انه كان سيؤيد ” عاصفة الحزم ” او سيلتحق بالتحالف الذي التأم بين ” انصار الله ” و الرئيس علي عبدالله صالح قبل اغتياله كان جارالله يتمتع بخيال واسع اعانه دائما على شق طرق سياسية غير متوقعة عندما يكون هو نفسه صاحب القرار” .

كتاب ” مختصر أخبار اليمن في مرويات جارلله عمر” جدير فعلا بالقراءة لما فيه من روايات مهمة وأسرار جديدة واضافات ضرورية لمن يريد فهم ما حصل ويحصل في اليمن الحديث والغالي على كل عربي صادق. صدر الكتاب قبل أسابيع قليلة في طبعته الأولى عن معهد الأبحاث الاسكندينافي لحقوق الانسان في اليمن. وهو بات متوفّرا في الكثير من الدول العربية. ويمكن طلبه من المعهد نفسه على عنوانه البريدي أو من جلول عبر صفجاته على شبكات التواصل الاجتماعي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى