انكشاف الجهوزية الأميركية بسبب كورونا
كتب / منذر سليمان
من أبرز تداعيات جائحة كورونا حالة الإرباك داخل المؤسّسة العسكرية الأميركية، وتضارب التصريحات الرسميّة حول انعكاساتها على حالة “الجهوزية” للقيام بمهامها وفق الاستراتيجيات المعدّة، رافقها حجب قادة البنتاغون معلومات حقيقية عن إصابة طواقمها البحرية، ما أخرج 4 حاملات طائرات عملاقة وما لا يقل عن 5،000 جندي من “الخدمة.. في مواجهة الصين، ومن ثم إيران”، وذهب بعض المحلّلين العسكرين إلى توصيف الأمر بأنه انهيار للمنظومة السائدة وتقويضٌ لجهوزية القوات العسكرية.
تكهّنت صحيفة “واشنطن تايمز” المحافظة في 31 آذار/مارس، بجدية تَحدي كورونا وأنه “الأعظم أمام القيادات العسكرية الأميركية منذ عقود”، والتي سعت إلى مزاوجة استمرار حالة “التأهّب بين القوات في مراقبة تهديدات الأعداء، وفي الوقت نفسه تحصين القوات النظامية من تفشي الوباء”.
واستدركت الصحيفة بالإشارة إلى طبيعة بنى القوات المسلّحة وهياكلها، بفروعها كافة، التي كانت، ولا تزال، “حاضنة وناقلة للأمراض في آن معاً.. والتي ستتأثّر جهوزيتها على الأرجح نتيجة لانتشار الوباء.”
المحافظة على الجهوزية العسكرية في القوات الأميركية تستند إلى قاعدة مركبة من الاعتبارات، أبرزها بالطبع الموارد والمعدات والأسلحة المطلوبة لكل فرع من فروعها المتعددة. المفهوم عينه لدى القيادات العليا في المؤسّستين السياسية والعسكرية ينطوي على جملة مستويات: الأولوية تحاكي التطابق بين الاستراتيجيات المعتمدة وقدرة القوات على مواجهة التحديات المطروحة، الصين وروسيا مثلاً، وبلورة توجهات جديدة وفق الحاجة.
وهناك بعد تجاري في مسألة الجهوزية، يُستخدم كمبرر للحصول على ميزانيات إضافية خارج الميزانيات السنوية المقررة، وما يرافقها من أسلحة جديدة أو أخرى بحاجة إلى التحديث، كلما حانت الفرصة.
مفهوم الجهوزية، وفق تعريف وزارة الدفاع الأميركية، ينطوي على “قدرة القوات العسكرية على القتال وتنفيذ المهام المسنودة إليها”، ويشكّل “أداة تستخدمها الولايات المتحدة للتأثير في آليات تفكير الدول الأخرى وتصرّفها”. (صحيفة “واشنطن بوست”، 19 آذار/مارس 2020).
معيار الجهوزية لدى القوات المسلحة يستند إلى مدى “تطابقها مع حلقات الجهوزية وأهدافها.. وضع القوات، مدى انجازها لتدريباتها، أسلحتها، ومصادر إمدادها”. التزود بالمؤن والذخيرة وما شابه يعتمد بشكل واسع على سفن سلاح البحرية ومخازنها المنتشرة على رقعة جغرافية واسعة.
صيانة تلك المخازن عمل مستمرّ للحفاظ على صلاحيتها. عدد من دراسات البنتاغون أشار إلى “الحالة الرثة” لعدد لا بأس به من تلك المواقع، تفاقمها “طواقم صيانة غير متمرسة وتعاني من الالتزام بإنجاز مهامها وتخطيها المواعيد المقررة”. (صحيفة “واشنطن بوست”).
النخب الفكرية الأميركية ومراكز الأبحاث أكدت أيضاً التداعيات المتتالية لتفشّي الوباء، متسائلة عن الآليات المتوفّرة “للإبقاء على جهوزية القوات العسكرية.. لحين الاستدلال على لقاح مضاد تحقن به القوات”.
وأعربت عن اعتقادها بأن حالة الإرباك ستستمرّ “لنهاية السنة الحالية وبداية العام 2021، وربما تبلغ نسبة التردي نحو 10-20%” (معهد “بروكينغز”، 22 نيسان/أبريل الجاري).
ينبغي التشديد على أن ما تتعرض له القوات العسكرية الأميركية نتيجة تفشي الوباء، هو مسألة عرضية حتى لو طالت مدتها، ولا سيما أن أعداد المصابين تبقى ضمن نسبة متدنية مقبولة هي 10-20%، وفق إحصائيات البنتاغون و”تطميناته”. وباستطاعة القيادات العسكرية العليا تعديل أولويات “المهام الاستراتيجية” لتتناسب مع مجمل الأوضاع العامة، كما هو الحال في القوات العسكرية للدول الكبرى الأخرى.
السيناريو الأسوأ للبنتاغون، والناجم عن تقويض جهوزية بعض الوحدات العسكرية، يكمن في “انهيار سريع لحالة القوات العسكرية، كما شهده بحارة حاملة الطائرات روزفلت”، معطوفاً على “اضطرار القيادة العسكرية إلى إغلاق بعض القواعد العسكرية الرئيسة أو وضع وحدات بأكملها في الحجر الصحي لعدة أسابيع”. (صحيفة “واشنطن تايمز”، 31 آذار/مارس).
تنامي المخاوف المذكورة لم يمنع الرئيس الأميركي من الاستمرار في منسوب تصعيد التوتر مع إيران، بدءاً من انسحابه من الاتفاق النووي وإلى اللحظة، بتصديره “تعليمات” صادرة عن القائد الأعلى للقوات المسلحة لسلاح البحرية الأميركية في مياه الخليج، “بتدمير أية زوارق إيرانية، إذا ما تحرشت بسفننا في البحر”. (تغريدة الرئيس ترامب، 22 نيسان/أبريل).
قرار الرئيس ترامب، عبر تويتر، استند إلى رواية سلاح البحرية الأميركية، قائلاً إن “11 زورقاً حربياً تابعاً للحرس الثوري الإيراني قام مراراً وتكراراً بسلوكٍ خطيرٍ ومضايقات ضد السفن البحرية الأميركية العاملة في المياه الدولية.”
في تلك الأثناء، أطلقت إيران قمراً اصطناعياً وصل إلى مداره المعدّ بنجاح، ما أثار موجة نقدٍ شديدةٍ وتجديدٍ لنزعة المواجهة العسكرية، بالزّعم أن طهران تنوي التمكن من “إطلاق رأس نووي” باستخدام التقنية عينها، من دون دليل. جاء الرد سريعاً، ومن عدة مستويات في موسكو، بأن لإيران الحق في إطلاق أقمار إصطناعية، ولا سيما أنها لا تنتهك بذلك القوانين الدولية.
وفي الفترة الزمنية عينها، شهدت مياه البحر الأبيض المتوسط اعتراض مقاتلةٍ روسيةٍ من طراز “سوخوي-35” طائرة استطلاع أميركية “من طراز بي-8 بشكل خطير وغير آمن، بينما كانت تحلق في المجال الجوي الدولي”. وأوضح بيان للبنتاغون أن المقاتلة “الروسية قامت بإجراء مناورة صدامية، وبسرعة فائقة على مسافة 25 قدماً مباشرة أمام الطائرة” الأميركية، دامت نحو 42 دقيقة.
بالتزامن مع حادثة الاعتراض، أصدرت قيادة القوات الفضائية في سلاح الجو الأميركي بياناً يشير إلى “إجراء موسكو اختباراً لصاروخٍ مضادٍ للأقمار الاصطناعية” (15 نيسان/أبريل). أما على الأرض، فقد شرعت روسيا في تعزيز وجودها في شرق نهر الفرات من الأراضي السورية بمواجهة مباشرة مع القوات الأميركية، ولا تزال احتمالات الاشتباك “المحدود” بينهما مرجّحة أكثر من ذي قبل.
كما شهدت الآونة الأخيرة تضافر عددٍ من “التحديات” للنفوذ الأميركي، أبرزها في الحركة النشطة للسفن الحربية الصينية في بحر الصين الجنوبي، إضافةً إلى قرار بكين تعزيز الطلعات الجوية والدوريات البحرية التي تجوب المياه على مَقربة من جزيرة تايوان.
من جانبها، نشرت القوات الأميركية قوة بحرية بديلة من حاملة الطائرات “روزفلت”، قوامها السفينة البرمائية “أميركا”، وعلى مَتنها 5 مقاتلاتٍ من طراز “إف-35” وعدد من المروحيات للمرابطة في مياه بحر الصين الجنوبي، مقابل حاملة الطائرات الصينية الحديثة “لياونينغ” التي دخلت الخدمة مؤخراً، وذلك إضافة إلى القطع الحربية الأخرى في المحيط الهادئ، التي حافظت على ابتعادها عن مصادر الاحتكاك بالفيروس، وبقيت “سليمة”، وتستطيع تنفيذ مهامها العسكرية المرسومة إن اقتضى الأمر.
كما أن الأوضاع في كوريا الشمالية لا تسرّ الجانب الأميركي، سواء في إطلاق الأولى تجربة صاروخية ناجحة مؤخراً، أو في ما يتردّد بأن الوضع الصحي للزعيم كيم جونغ أون “مقلق”، عقب أنباء مصدرها موقع إلكتروني ممول من “مؤسسة الدفاع عن الديموقراطية” في واشنطن، تزعم أنه تعرض لعملية جراحية، وحالته “حرجة .. وغاب عن الظهور في احتفال مركزي” لبلاده. ولا تزال التقارير غامضة حول حقيقة الأوضاع في العاصمة بيونغ يانغ، باستثناء زيارة فريق صيني “يتضمن اختصاصيين في الطب” إلى العاصمة.
بعض النخب الفكرية الأميركية، ممثلة في نشرة “فورين بوليسي”، حذرت من استسهال الانجرار خلف “إشاعات مزوّرة حول وفاة وشيكة لكيم جونغ أون.. وربما الإشاعة المقبلة قد تزعم أنه اقترب من شنّ هجوم نووي”، وحثّت صنّاع القرار، لا على توخي الحذر فحسب، بل أيضاً على انتهاج سياسة أكثر واقعيّة لتفادي اندلاع نزاع جديد، من ضمنها تطبيع العلاقات وتبادل السفراء. (24 نيسان/أبريل 2020).
من غير المرجّح أن تقدم الولايات المتحدة على اتخاذ إجراءاتٍ لتعديل حجم وجودها ورقعته في شبه الجزيرة الكورية، حيث لا يزال شبح انتشار وباء كورونا ماثلاً، بينما ستستمر التعزيزات العسكرية الأميركية في مياه الخليج ومضيق هرمز وبحر العرب، وقد تتدحرج الأوضاع إلى اشتباك محدود ومحسوب من الطرفين، درءاً لاندلاع حربٍ مباشرةٍ مكلفة ومدمرة للمنطقة.
عند إضافة عامل النفط وما تعرضت له الأسواق العالمية من انهيار في أسعار الخام الأميركي وتقلّص في أسعار النفط الأخرى، باستطاعة المراقب التكهن بنشوب اشتباكاتٍ عسكريةٍ محدودة من شأنها رفع أسعار النفط الخام إلى مستوياتٍ أعلى بقليل مما هي عليه الآن، كما يطالب بذلك قطاع منتجي النفط الأميركي. كما أن لإيران مصلحة موازية في التأثير والاستفادة من ارتفاع أسعار النفط، وتبقى الخشية من تدهور الأوضاع وانزلاقها نحو الأسوأ هي الفيصل.
سوريا ستبقى ساحةً للصراع والتنافس ومحاولة تأخير واشنطن قرارها بالاضطرار إلى الانسحاب، وخصوصاً عند الأخذ بعين الاعتبار تقلص حجم التواجد العسكري للأسطول السادس الأميركي في مياه المتوسط، والتفاته إلى منطقة الخليج لمساندة القوات الأخرى، والذي فسّر كأحد العوامل التي عزّزت جرأة القوات الجوية الروسية على تحديها للقوات الأميركية في المنطقة.
إحدى ركائز الانتشار العسكري والنفوذ العالمي لأميركا تستند إلى القدرة الفائضة لسلاح بَحريّتها، ويبدو أن كورونا أحدث انكماشاً غير مسبوقٍ في قوّتها البحرية تسعى جاهدة إلى إخفائه.