مقالات

“اليسار اليمني؛ ظالم أم مظلوم؟”.. بقلم| عبدالباري طاهر

بقلم| عبدالباري طاهر

الكتاب صغير نسبيًّا، يقع في 71 صفحة، ويشتمل على: مقدمة، وأربعة فصول، ثم المراجع، وفهارس الأعلام، والأماكن. يهدي المؤلف الكتاب إلى الشهداء الذين سقطوا وهم يقاومون قمع الحاكم وطغيانه، إلى شبان وشابات الربيع العربي اليمني، وإلى كل من أسهموا قولًا وفعلًا في القضاء على حكم توريث الحكم، وتفكيك نظام الحكم العائلي.
المقدمة الضافية مكرسة للأحداث والمتغيرات التي شهدها حكم الإمامة والاستعمار البريطاني، وقيام الثورة اليمنية سبتمبر 1962، وأكتوبر 1963، والوحدة اليمنية 1990، مشيدًا بقابلية اليمن واليمنيين للتغيير، واعتناق الجديد، وهي ملاحظة غاية في الذكاء والأهمية. ويتناول الحروب التي مرت بها اليمن، والتحليلات المختلفة، وانقلاب 5 نوفمبر، وحركة 13 يونيو 1974، وفترة ترؤس الغشمي لشمال اليمن، وحكم علي عبدالله صالح الممتد لثلاثة وثلاثين عامًا، وانقسام المجتمع إلى مستغِلين، ومستغَلين -بكسر الغين وفتحها- ويتتبع نشأة الحركات السياسية لفَهم واقع اليسار، داعيًا الشباب والشابات لاستقاء الخبرات والمهارات التي تمنحهم النضج للتعامل مع الحاضر، وبناء المستقبل.
في الفصل الأول، يقرأ المؤلف التوجه القومي من التكوُّن إلى التحوُّل: حزب البعث العربي الاشتراكي. يتناول تاريخ نشأة الحزب باعتباره وارثًا للحركة القومية التي بدأت أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كردّ على التتريك، ويشير إلى بروز صيغتين: إما صيغة الحزب القومي السوري (سوريا الكبرى)، أو صيغة البعث، وحركة القوميين العرب الداعية إلى وحدة الأُمّة العربيّة.
كما يتناول تأسيس البعث 1974، وأول دستور ضُمِّنَ أهم أفكاره ومبادئه، وامتداده اليمني في النصف الثاني من خمسينيات القرن العشرين الماضي، كما يتناول الأسس النظرية للحزب، معززة بأقوال ميشيل عَفْلَق، وتعريف الوطن العربي، ويعرض منطلقات الحزب، وخلافاته مع الأحزاب الشيوعية، واعتبار الماركسية من أكبر الأخطار المحدقة بالأمّة، واعتبار الماركسية نفيًا لرسالة الأمّة العربية الخالدة (ص 26). ويرى البعث أن الصراع يؤدي إلى تجزئة الأمّة، كما يرفض فكرة الأممية على الإطلاق، ويشير الباحث إلى أن نظرية البعث ومسيرته خَلَت من مفهوم حرب التحرير الشعبية (ص27).
ويؤرخ لبداية تأسيس فرع للبعث في عدن بعام 1956، وامتداده إلى الشمال بالعام 1958، كما يشير الدكتور إلى أن الحركة لم تحقق الانتشار الذي حققته حركة القوميين العرب، والأمر ليس على إطلاقه؛ ففي المراحل الأولى كان حضور البعث فاعلًا وحيًّا، ولكنه تراجع بعد تبنّي حركة القوميين العرب الكفاحَ المسلح، ودعم مصر. وجليٌّ أن للخلاف السوري المصري بعد الانفصال دورًا مهمًّا؛ إذ تراجعَ دور البعث، خصوصًا في النشاط العلني العام، ثم إن الرهان على الحل السياسي، والاقتراب من خط الأحرار في الشمال، وتوجُّه حزب الشعب الاشتراكي، كان له أثر في هذا التراجع.

تبنى البعث قضية الكفاح المسلح، وأسّس “طلائع حرب التحرير الشعبي” برئاسة الضابط أحمد قايد الصايدي في العام 1966، بينما كانت حركة القوميين العرب قد قطعت شوطًا كبيرًا في حرب التحرير، وامتدت أو بالأحرى بدأت من الريف (ردفان)، وربما أن الانتصار عبر الانقلاب العسكري في كلٍّ من سوريا والعراق، والمشاركة الفاعلة في الـ26 من سبتمبر 1962، قد قلل من أهمية النضال السياسي والنقابي الذي كان حاضرًا فيه بقوة في الجنوب. ويرى الصياد أن الناصرية كانت من أهم الحركات القومية وأكثرها جماهيرية؛ حيث ألهم جمال عبدالناصر وتجربة الثورة المصرية، حلم الجميع. وحقًّا ما ذهب إليه الباحث؛ فالناصرية هي الحركة القومية التي وضعت الأمة العربية في قلب العصر، وقادت المواجهة مع الرجعيات العربية، والصهيونية، والاحتلال الاستيطاني لفلسطين، والإمبريالية والاستعمار، ودعمت الثورة القومية، وحركات التحرر الوطني.
كما يدرس حركة القوميين العرب، ابتداءً من العام 1948، عقب النكبة، وامتدادها في اليمن نهاية خمسينيات القرن الماضي، موجهًا نقدًا مريرًا لاعتبار الشيوعية من ضمن الأعداء في مرحلتها الأولى، ويحدد القوى التي شُكِّلت منها الجبهة القومية التي قادت حرب التحرير في جنوب الوطن، بالإضافة إلى دراسته البنية الطبقية والتكوين، ويتناول “تنظيم الضباط الأحرار” الآتي من فئات عديدة تنتمي للبرجوازية الصغيرة: معلمين، وطلبة، وتجار صغار، وكوادر حكومية متخصصة، ويقرأ التدخل العسكري في الحياة السياسية، وتأسيس التنظيم، وأهدافه، وثورة سبتمبر 1962.
في الفصل الثاني: يدرس تيارات التوجه الاشتراكي، فيقرأ “اتحاد الشعب الديمقراطي”، وهو الحزب الذي تكوّن بَدءًا كاتجاه ماركسي بزعامة المفكر العربي عبدالرزاق باذيب، ويقرأ الظهور المتأخر، عائدًا بالبداية إلى 1956 في الجنوب، و1958 في الشمال. والواقع أن “حزب الاتحاد الشعبي الديمقراطي” لم يعلن عن نفسه إلا عام 1961، وقبل ذلك كان تيّارًا فكريًّا يتجلى في نشاط المفكر باذيب، وبروز التيار اليساري في المؤتمر العام الأول للطلاب اليمنيين في القاهرة 1956، وتأسيس الجبهة الوطنية بزعامة الأستاذ محمد عبده نعمان 1955، محدِّدًا أسباب تأخر ظهوره، ويدرس الأساس النظري للحزب، والبرنامج والبعد الوطني، والجانب العربي والدولي، ودور الاتحاد في الحياة السياسية.
يدرس المفكر المهم تيار اليسار الجديد، والتحوُّل في التيارات القومية العربية: “حركة القوميين العرب”، و”منظمة البعث في اليمن”، كما يؤرخ لإنهاء حركة القوميين علاقاتهم بالمركز إلى 1968. والواقع أن الحركة في اليمن بدأت خلافاتها مع المركز في بيروت مبكرًا، وتحديدًا مع بدايات الخلاف مع المصريين حول خط الكفاح المسلح، ورفض الدمج القسري 1966، ووصول جورج حبش ومحسن إبراهيم للتوسط، ثم إن المنحى اليساري العمالي والفلاحي في تبنّيه فرع اليمن، مثَّلَ الركيزة الأساس.

ويؤرخ الدكتور لـتأسيس منظمة البعث “حزب الطليعة” بمطلع السبعينيات، وهو صحيح من حيث الإعلان، ولكن البعث اليمني بسبب من موقف القيادة السورية من مصر، ومن دعم الثورة اليمنية، بدأ التململ والخروج مبكرًا، منهم: يحيى على الإرياني، وعبدالواحد المرادي… وآخرون، وفي فترة لاحقة، سيف أحمد حيدر وآخرون، أواخر ستينيّات القرن العشرين الماضي.
كما يدرس التحولات في الاتجاهين القوميين الكبيرين: “حركة القوميين العرب”، والبعث اليمني باتجاه الماركسية، وتكوّن حزب العمل، والمقاومين الثوريين كانشقاق من “الحزب الديمقراطي الثوري”، وتكوين ما أطلق عليه فصائل اليسار الخمس: “حزب الوحدة الشعبية”. ويقرأ الأرضية المشتركة، والرؤية الواحدة لهذه الفصائل في تحليل الواقع اليمني، ثم يقرأ مظاهر أزمة اليسار في أبعادها التنظيمية والأيديولوجية والسياسية. ورغم صحة انتقاده، وتشخيصه لجوانب مظاهر الأزمة، إلا أن المبالغة في استعارة المصطلحات التي تخص واقعًا مغايرًا ومختلفًا هو الخطأ، بل الخطيئة؛ فالمجتمع اليمني لا يوجد فيه التفاوت الطبقي بالصورة الأوروبية أو الأمريكية، كما أنه مجتمع تتداخل فيه حدود الشرائح والفئات، وتتسم فيه الحدود الطبقية بالميوعة والضعف والتمازج، وهو ما تنّبه إليه ماركس وإنجلز في نمط الإنتاج الآسيوي بعد قراءة بيئات مصر والجزائر والهند، كما أن قراءة كتابات المفكرين: أحمد صادق، وبوعلي ياسين، وعلي الوردي، وإلياس مرقص، تؤكد ذلك، بل إن دراسة الواقع خير شاهد.
منذ قتل قابيل هابيل والصراع محتدم بين الأمم والشعوب، وبين الأفراد والجماعات في كل شيء، وعلى كل شيء. يتفق الجميع على وجوده، ويختلفون في التأويل والتفسير، والعلل، والأسباب، وحتى التسميات، والنص القرآني في المجمل، والتاريخ العام، زاخرٌ بذلك. الحركات القومية العربية، كتعصب شوفيني ورؤية رومانسية، قد جعلت الأمة، جسدًا وروحًا، واحدة، كلًّا لا يتجزأ، وأنكرت الصراع الطبقي الذي لم يأتِ به ماركس، ولم يبتكره إنجلز، وإنما هو حقيقة من حقائق الحياة، وسنة من سنن الكون؛ {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين} [هود: 118]. ولي عودة للموضوع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى