مقالات

منهجية النهب من الداخل.. آثار اليمن تاريخ مضى وحكايات مظلمة (2 – 2) بقلم| رياض الزواحي

بقلم| رياض الزواحي

قبل سنوات جمعتني جلسة مقيل مع أحد كبار مشايخ محافظة الجوف اليمنية في العاصمة صنعاء نسيت كثيرا من تفاصيل ذلك اللقاء ولم أستطع أن أنسى اني كنت بين اشرعة التاريخ اليمني القديم فكانت آثار حضارة الجوف ومدينة براقش العجيبة حاضرة في رفوف ديوان ومجلس الشيخ، فكل رف في المكان يحوي قطعة أثرية فريدة أو تمثال برونزي أو رأس ملك حميري من الذهب الخالص أو سيف ملك من ملوك سبأ وحمير وقتبان كنت أتسائل كيف يمكن لشيخ أن يحتفظ بهذا الكم الهائل من القطع الأثرية في قصرة دون خوف من المسائلة القانونية وان كان حتى عضوا في البرلمان اليمني الذي لا يقرأ ولا يكتب معظم أعضائه كيف ولماذا تساؤلات كثيرة لم أستطع أن أجيب عليها إلا بعد سنوات.

عندما فاحت رائحة الكثير من كبار قادة الدولة وقادة الجيش كأهم تجار لتهريب الآثار تحت غطاء القانون الذي فصلوه حسب مقاسات مصالحهم الشخصية فكانوا أثرياء لدرجة لا يمكن أن يصدقها شخص يعرف بحال اليمن الذي يعتبر من الدول النامية ويعيش معظم سكانها تحت خط الفقر وأيضا كثير من المدن التاريخية الأثرية ظلت لسنوات طويلة متاحف مغلقة للنافذين والمشائخ والقادة العسكريين ولم يعرف عنها الكثير من جيل الثمانيات والتسعينات فقد كتب عليها السجن بقرارات رسمية شفوية من سادة القوم، وكأن لوحة مكتوبة بخط الفاسدين على واجهتها.

مغلق حتى الانتهاء من أعمال النهب
كما كان حال مدينة براقش الأثرية في الجوف قبل عشر سنوات والتي تعتبر من أقدم المدن التاريخية اليمنية وأكثرها ثراء بالقطع الأثرية النفيسة. هذه المدينة عرفت في النقوش اليمنية القديمة المسندية باسم يثل وكانت العاصمة الدينية لمملكة معين تميزت بأسوارها المنيعة والمحصنة وتمثل إرث حضاري غاية في الجمال والروعة والتحصين، أيضا احتلها أليس غاليوس، أحد قادة الإمبراطور الروماني (أغسطس) خلال حملته العسكرية على أرض اليمن السعيد بين العامين (25-24) قبل الميلاد وحجم الكنوز التي استخرجت منها عن طريق بعض البعثات الأثرية عندما استعان بها بعض تجار السلطة كبيرة لكن أكثر من 90 % من هذا الكنوز تبخرت وظهرت بعد سنوات في دول الخليج ومتاحف أوروبية كما هو الحال في بقية المدن الأثرية اليمنية في مأرب وشبوة وحضرموت وتعز وعدن وغيرها من مدن اليمن، باستثناء آثار محطمة ومشوهة بفعل النبش والتنقيب العشوائي والتي سرقة بعضها من قبل السماسرة الصغار من المتاحف في وضح النهار وهرب الجناة في ظلمة الليل وظلمة قانون هزيل، ناهيك عن قصص أخرى ينسجها الفاسدين من القادة العسكريين لتغطية صلتهم بجرائم تهريب الآثار، والأمثلة كثيرة.

على سبيل المثال في 29 نوفمبر 2008م، أذاعوا ونشروا خبرا في بعض وسائل الإعلام الرسمية منها وكالة سبأ للأنباء عن إحباط سلطات الأمن بمديرية عبس بمحافظة حجة اليمنية محاولة لتهريب 110 مخطوطات أثرية ذات قيمة عالية، و2000 عُملة نقدية يعود بعضها إلى ما قبل الإسلام، وبعضها إلى العصر الإسلامي، وبحسب المَحاضر الرسمية فإن ثلاثة أشخاص استقلوا سيارة “جيب” تحمل لوحة (الجيش) متجهين من مدينة عبس إلى مدينة “ميدي” الحدودية لتهريب دفعة مما بحوزتهم من آثار إلى عصابات تنتظر على الحدود مع السعودية بعد جمعهم هذه الآثار من عدد من مديريات وأرياف اليمن، غير أن السلطات الأمنية أحبطت المحاولة، وتم مصادرة المضبوطات وأحالتها إلى هيئة الآثار بصنعاء، وأظهرت التحقيقات أن المهربين يعملون ضمن شبكة من المتاجرين والمهربين الذين تم ضبطهم في قضايا آثار أكثر من مرة، آخرها نهاية العام 2006، في مديرية منبّه بصعدة، وبعد أسابيع أطلق سراحهم بتوجيهات عليا وقانون يحمي من خلفهم، وفي نفس العام أيضا أعلنت الهيئة العامة للآثار والمتاحف والتي كانت من أفقر الهيئات الحكومية اليمنية وأكثرها بؤساً اختفاء قطعة أثرية نادرة لتمثال مصنوع من البرونز على شكل راقصة، لا يقدر بالمال وتعود إلى حُقبة ما قبل ميلاد المسيح عليه السلام وجل من لا يسهو ظهر المثال في أحد المتاحف الأوربية بعد تهريبه عبر وسطاء محليين أصبحوا سماسرة يقومون بالتنقيب عن الآثار من المواقع التاريخية المعروفة على امتداد كل محافظات اليمن وبحماية مشايخ و بعض كبار القادة العسكريين، وعند القبض على أحد كبارة هؤلاء القادة العسكريين بعد ثورة 21 سبتمبر 2015م ويدعى مقولة نسبة الى قرية في سنحان في أطراف صنعاء، عثر في منزلة على متحف متكامل يحوي الآلاف القطع الأثرية الحميرية والسبئية و وآثار تعود للحقبة الإسلامية والدول المتعاقبة التي حكمت اليمن في العهد الإسلامي وعندما تم التحقيق معه ومع حاشيته قال هذه هواية شخصية هواية جمع الآثار وكل الزملاء (القادة) لديهم نفس الهواية وهذه حكاية من ضمن الآلاف الحكايات التي رويت ولم تروى عن فرادة وغرابة نهب تاريخ اليمن وبشكل ممنهج وفي وضح النهار.

وقبل هذه الواقعة بعامين تقريبا شهد اليمن حوادث لا تصدق لنهب الآثار، من أبرزها تعرض موقعين أثريين في محافظة إب اليمنية للنهب والسطو من قبل جماعة قبلية مسلّحة، على الرغم من الحراسة المشددة. ويعود تاريخ هذين الموقعين إلى الحضارة الحميرية، وقد تم سرقة الكثير من محتوياتهما من الكنوز الأثرية الذهبية والبرونزية والحجرية والجنائزية الثمينة، كانت وجدت داخل قبر برونزي يعتقد أنه يعود إلى الملك الحميري “شمر يهرعش وآخر يعود لامرأة، ربما تنتمي لعائلة “ذي ريدان” التي حكمت اليمن قبل الإسلام، إضافة على أن الحادثة أدت إلى إتلاف أجزاء كبيرة من مكونات الموقع الأثري بما افقده قيمته التاريخية وشوه معالمه بصورة بشعة بكل تفاصيل الكلمة.

أما متحف العود الأثري في مدينة إب، فقد تعرض لسرقة 48 قطعة كانت قد عثرت عليها البعثة الأثرية الألمانية من جبل العود إضافة الى موقع “الخربة همدان” في الجوف، والشاهد على حضارة “معين” أحد أهم الحواضر اليمنية القديمة وعاصمتها (قرناو) مفتوح أمام عمليات السطو والنهب والنبش والحفر المنظّم، وغير المنظّم.

وفي نفس العام 2008، وفي مناطق مختلفة في اليمن تم ضبط خمس محاولات تهريب آثار، جميع المتهمين فيها من خبراء شركات النفط العاملة في اليمن بالشراكة مع قادة عسكريين كبار (قادة الويه) لم يتم الإفصاح عن أسمائهم خوفا من سطوتهم وتحكمهم بمفاصل الجهاز الأمني وتجاوز مجموع المضبوطات الأثرية في هذه المحاولات ثمانين قطعة أثرية، ما بين تماثيل وسهام وقطع نقدية وغيرها وفقا لمحاضر شكلية، وآخر هذه المحاولات كانت بتاريخ الأول من مايو 2008م، حيث تم على إثرها ضبط خبير فرنسي بحوزته 8 تماثيل برونزية و5 تماثيل حجرية مزورة حسب إدعاء مخرج الخبر طبعا و15 عُملة بخط المسند، و3 أختام حجرية حسب محاضر الاستدلالات، أما في بداية عام 2009م بتاريخ 24 يناير تحديدا تم ضبط خبير ايطالي في مجال الغاز بحوزته ستة تماثيل, فيما ضبط خبير ايطالي آخر بتاريخ 4 مارس 2009م وبحوزته ستة تماثيل برونزية، إلى جانب ضبط خبير ايطالي ثالث بتاريخ 23 مارس 2009م وبحوزته ستة تماثيل برونزية أيضا و17 لوحا حجريا، و12من رؤوس السهام وثلاث تمائم نحاسية. وفي الرابعة تم ضبط خبير فرنسي بتاريخ 26 مارس 2009م بحوزته تماثيل برونزية وسهام وقطع مختلفة وتم إطلاق سراج الجناة خلال ساعات وأعلن عن ضبط القطع الأثرية ولم تظهر في أي متحف يمني سوى منازل كبار المسؤولين اليمنين والخليجين أيضا.

يؤكد تقرير رسمي أن عدد البعثات الأثرية الأجنبية العاملة في اليمن بلغت 14 بعثة من: فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، روسيا، أميركا، كندا، أستراليا وبلجيكا.

ومع ازدياد الشكاوى وحالات الاشتباه بالبعثات التي تقوم بأعمال التنقيب في المناطق الأثرية اليمنية، ناهيك عن عمليات الشراء المباشر من قبل بعض البعثات الأجنبية للآثار من قبل بعض المواطنين في الجوف ومأرب وشبوة والسفر بها من اليمن كتذكار وهذه إحدى المظاهر الغريبة لتهريب الآثار من اليمن تفردت بها عن سائر دول العالم و بعض المصادر أشارت إلى أن البعثة الفرنسية التي عملت في محافظة الجوف قامت بشراء قطع أثرية من المواطنين بشكل مباشر والمصيبة ان عمليات تهريب الآثار إلى خارج اليمن كانت تجري بشكل مستمر من مختلف المنافذ البحرية والبرية والجوية وتسهيلات يقدمها كبار قادة الالوية في الجيش وكبار المشائخ دون أي عواقب يخشون أن تترتب على جرائمهم الكبرى في نهب أثار بلادهم فالسلطة هم من يمثلونها وينفذونها وهم من يضعون القانون الذي يحميهم أيضا.

ولعل أشهر عمليات التهريب التي حدثت في العام 2005م محاولة مجموعة من الأشخاص تهريب أكثر من 700 قطعة أثرية، من قبل عصابة يتزعمها شخص عراقي، عُُثر في مسكنه على 788 قطعة أثرية تعود إلى حضارات يمنية قديمة متعاقبة قبل الإسلام وبعد محاكمة هذا التاجر العراقي محاكمة سطحية شكلية وعقوبة مخففة، تم اطلاق سراحه بعد أسابيع وتهريبه إلى خارج اليمن عن طريق أحد قادة الالوية والضغط لإيقاف الحملة الصحفية التي أثيرت حول هذا القضية التي كانت الأبرز خلال تلك الفترة ولعب فيها القانون الهزيل دورة في افلات الجناة من العقوبة إضافة الى قضية العراقي شاكر إياد الذي اتهم بتهريب وحيازة مئات القطع الأثرية الهامة، وقضت المحكمة بتغريمه عشرة آلاف ريال فقط (تسعة دولار) تقريبا والإفراج عنه، وإلزام هيئة الآثار بدفع قيمة المضبوطات التي بحوزته، وأخذها.

لهذا انبهرت العجائب أيضا من احكام القانون اليمني وليس الرأي العام اليمني فقط وحتى رئيس الهيئة العامة للآثار أن ذاك (باوزير)، ولأنه يعرف واقع الحال ويعرف من هم كبار تجار تهريب الآثار في اليمن (قادة الدولة) تمنّى على استحياء في تصريح رسمي أحكاما أكثر قسوة وعقوبات أشد ضد مهربي الآثار، لاسيما وقانون الآثار رقم /8/ لسنة 1997، والذي اعتبره الكثيرين بانة قانون يدلل المهربين والعابثين بآثار البلاد، ينص بند العقوبات فيه على معاقبة المتاجرين بالآثار بالسجن مدة لا تقل عن سنتين، ومعاقبة مهربي الآثار بالسجن مدة لا تقل عن 5 سنوات ولم ينفذ على أحد من المهربين للآثار خلال السنوات الماضية أبدا.

ولعل المشكلة الأساسية التي كانت تشجع المشائخ والقادة العسكريين الذين كانوا الحكام الحقيقيين للبلد على مدى عقود ماضية، هي ان القانون النافذ للآثار “فيه الكثير من الثغرات والقصور” التي تحقق مقاصد “المجرمين”، فضلاً عن أن أدوات الجريمة تتطور باستمرار” والقانون في ركود لا يواكبها.

وهذا ما دفع هيئة الآثار إلى إعادة النظر في قانون الآثار، ليكون رادعا وحازما ويواكب تطوّر الجريمة في شقيها (التهريب والاتجار)، وكذلك التشويه والتدمير للمواقع الأثرية والحمد لله تم إعادة النظر باستحياء والتشاور مع القادة العسكريين وأخذ رأيهم فكان قانونا غريبا ولا يحاكي حتى القوانين العربية والأجنبية بأي شكل من الأشكال مما يعني سيطرت مافيا الآثار حتى على مصدر التشريع في مجلس نواب الذي يعتبر 90 % من أعضائه مشائخ ولم يتم حتى إنجاز قانون إنشاء محكمة الآثار كضرورة ملحة تفرضها الحاجة إلى مكافحة جرائم التهريب والتزوير، مثلها في ذلك مثل المحاكم النوعية: المحكمة التجارية ومحكمة الأموال العامة.
لهذا ضلت كثيرا من الأحكام القضائية التي صدرت بحق من ثبت إدانتهم بتهريب الآثار أو الاتجار كانت أحكام هزلية ضعيفة ولم يقدم عسكري كبير أو شيخ نافذ من قادات مافيا نهب أثار اليمن الى اي محكمة أو جهة مختصة حتى اليوم، ولهذا يرى كبار أساتذة القانون في عدد من الجامعات اليمنية تعليقا على قضايا تهريب شهيرة خلال السنوات الأخيرة في تصريح لوكالة سبأ للأنباء قبل سنوات أن قانون الآثار ساعد على انتشار جرائم نهب وتدمير المواقع الأثرية، وذلك بإعطاء المواطن إلى ما قبل عام 1997 حق التملك للآثار وشجّعه على المتاجرة والتصرف بها في البيع والشراء والتصدير.

وعلى الرغم من أن الآثار ملكية عامة إلا أن القانون قد أعطى المواطن، خصوصا أصحاب القدرة في بداية الأمر الحق في تملّكها، كما خص قانون الآثار رقم /8/ لسنة 1997 الهيئة العامة للآثار والمتاحف وحدها بمسؤولية حماية الآثار وصيانتها وترميمها، وهو ما أعطى الهيئة حق السماح لمالك العقار بالقيام بعملية الترميم والصيانة، زيادة عن عجزها في حماية المواقع الأثرية كما ان النصوص العقابية التي نص عليها قانون الآثار تحقق الحماية الجنائية الكافية للآثار”، و المــادة /40/ التي “كتفت بفرض عقوبة الحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر أو بغرامة لا تتجاوز 15.000 ريال، أو بالعقوبتين معا لكل من حاز أثرا منقولا بالمخالفة لأحكام هذا القانون، أو خالف شروط الترخيص له في الحفر الأثري أو نقل بغير إذن كتابي صادر من الهيئة أثرا مملوكا للدولة أو نزعه من مكانه، حول المباني أو الأراضي الأثرية إلى مسكن أو حظيرة أو مصنع أو مخزن أو زرعها أو أعدها للزراعة أو غرس فيها أشجارا أو أقدم على الاعتداء عليها بأي صورة كانت مع إزالة ما أحدثه و، الفقرة الثانية من المادة /39/ والمعدلة في القانون رقم /8/ اكتفى بمعاقبة كل من يهدم أو يتلف أو يزور عمداً أثراً منقولاً أو ثابتاً أو يشوّهه أو يغيّر أو يطمس معالمه أو يفصل جزءا منه أو يتعمد إخفاءه أو يشترك في ذلك بعقوبة الحبس لمدة لا تزيد عن ثلاث سنوات، أو بغرامة مالية تساوي الأثر أو بالعقوبتين معاً.

أما الفقرة الثانية من المادة “والتي عاقبت كل من سرق أثرا أو جزءا من أثر مملوك للدولة أو اشترك في ذلك بالعقوبات المنصوص عليها في أحكام الشريعة الإسلامية مع مصادرة جميع الأشياء المستخدمة في تنفيذ الجريمة لصالح صندوق دعم الآثار وحتى الشريعة الإسلامية لا تعاقب في هذا البند بعقوبة الحد الشرعي، ولكنها تعاقب بعقوبة تعزيرية وهي الحبس مدة لا تزيد عن ثلاث سنوات، وذلك لوجود شبه الملكية العامة، والتي تسقط حد قطع يد السارق، بمعنى انهب كل آثار البلد نعم كلها ولن تقطع يدك وبالقانون والشرع أيضا في بلاد اليمن فقط.
ومازال للحديث بقية عن عجائب نهب أثار العربية السعيدة، وإن غدا لناضره قريب!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى