دروس فلسطين بقلم| بثينة شعبان
بقلم| بثينة شعبان
قال الله عزّ وجلّ في كتابه الكريم: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}. منذ العام 1986، دعا الرئيس السوري المؤسّس حافظ الأسد من اليونان، خلال زيارتها، إلى “انعقاد مؤتمر دولي مهمته وضع تعريف للإرهاب، ووضع معايير للتمييز بينه وبين المقاومة”، ولكن لم يستجب أحد مما يسمى “المجتمع الدولي” لهذه الدعوة، لسبب بسيط، وهو أنّ التعريف الدقيق للإرهاب سيتوصّل حكماً إلى استنتاج مفاده أنّ الاحتلال هو أبشع أنواع الإرهاب، وأنّ احتلال الكيان الصهيوني للأراضي الفلسطينية هو إرهاب “دولة” بامتياز.
وفي العام 2002، اطّلعتُ على الخطّة الإعلاميّة للكيان الصّهيونيّ خلال زيارتي إلى أحد البلدان، وكانت تتضمّن دعوتين مهمتين؛ الأولى تتمثل في ترديد كلمتين على مسامع العالم هما “صدّام حسين”، والأخرى ربط أيّ اسم فلسطيني أو أيّ عمل يقوم به أيّ فلسطيني بالإرهاب.
ترافق هذا التضليل الخبيث على مدى عقود مع حملات تضخيم لقدرات الكيان الصهيوني و”جيشه الذي لا يُقهر” وقبّته الحديدية، التي ألغت، بحسب زعمهم، مفاعيل أيّ صواريخ، مهما كانت متطوّرة، إضافة إلى المقولة التي روّجوا لها بين ضعاف العقول والنفوس، وهي أنّ الطريق إلى واشنطن يمرّ حكماً عبر تلّ أبيب.
وقد نجحت أساليبهم في استدراج الكثيرين إلى اتفاقيات تطبيع مهينة تتنازل فيها دول التطبيع عن الكثير من سيادتها وإرادتها السياسية وطموحات شعوبها العربية، وعن الحقوق العربية، بما في ذلك حقّ عودة العرب إلى فلسطين، وعن حقوق العرب المسلمين في القدس.
وأصدر الصهاينة ضمن إعلامهم المضلل للسذّج عشرات الدراسات التي تروّج إلى أنّ الكبار من عرب فلسطين سيموتون، وأن الصغار سينسون بلادهم فلسطين، وبنوا على كلّ مقولاتهم هذه آمالهم وأحلامهم، واستطاعوا إقناع البعض، من الخانعين، بالسير في ركابهم، ولكن، وباعتراف مراكز دراساتهم للأمن القومي، أصاب صمود سوريا، جيشاً وشعباً وحلفاء وأصدقاء، مراهناتهم في الصّميم، لأنّ هذا الصمود أفشل مخططات “الربيع العربي” الذي كان هدفه تدمير تضامن دول الأمة العربية، وتدمير بلدان أساسية في جبهة المواجهة مع العدو.
وقد أبقى الصمود الأسطوري السوري جذوة المقاومة العربية للأطماع الاستعمارية الصهيونية حاضرة في قلب العروبة النابض، ما يؤهلها لإعادة استقطاب المتجذّرين بقضاياهم، وإن تساهلوا في جدوى الاستمرار لبعض الوقت أو شكّكوا فيه، إلى أن قرّر شعبنا الفلسطيني البطل أن يسطّر مرة أخرى انتفاضة جديدة دفاعاً عن المقدسات، مسجّلاً بتاريخه البطولي أسمى آيات الصمود والشهادة والاستبسال، لإعادة بوصلة المواجهة مع العدوّ الوجودي إلى حيث يجب أن تكون، ولإزالة العمى عمّن على أعينهم غشاوة وفي آذانهم وقر، ليقولوا كلمة الشعب العربي بأنّ الأرض لنا، وأننا جاهزون لنرويها بدمائنا ودماء أطفالنا، كي نضع حدّاً للذلّ والهوان الذي يفرضه صلف المستعمر الصهيوني وعنصريّته التي أوجد لها الغطاء السياسي واللغة الإعلامية التي تقدمها للعالم وكأنها ديمقراطية فريدة في الشرق الأوسط، بينما هي مجرد نظام فصل عنصري آخر مصيره كمصير أبارتايد البيض في جنوب أفريقيا.
قرّر الشعب الفلسطيني أن يمزّق اتفاق العار “أوسلو” بدماء أطفاله، وأن يكتب قضيته في غزّة والضفة والداخل بأيدي المجاهدين الصادقين المؤمنين بحقّهم في هذه الأرض، مهما بلغت الأثمان.
إنّ الدرس الأول المستفاد من هذه الملحمة التي سطّرها العرب الفلسطينيون في كلّ أنحاء فلسطين هو أنّ العدوّ لا يفهم إلّا هذه اللغة؛ لغة القوّة والمقاومة والانتصار للشعب والأرض، وأن لا مفاوضات ولا اتفاقيات ولا تطبيع يمكن أن يعيد حقوقاً أو كرامة شعب مهدور، ما لم يعِدها هذا الشعب بتضحياته وبسالته وتصميمه على دحر العدوان.
كما أنّ الدرس الثاني المستفاد هو أنّ القوّة في الوحدة، وأنّ وحدة الفلسطينيين في التصدّي سوياً، ومن كلّ بقعة من أرض فلسطين العربية الطاهرة، للاحتلال الصهيوني العنصري، هي التي ترعب العدوّ وتدفع به إلى إعادة حساباته.
وبقدر زهونا بهذا الموقف الفلسطيني الباسل، يأتي حزننا على ما فوّته بعض حكام العرب من فرص ألحقت الخسارة بهم جميعاً، لأنهم لم يقاتلوا صفّاً كالبنيان المرصوص، ولم يعبّروا عن وحدة الموقف ووحدة المصير، بل أنهكوا القضية العربية بتنازلاتهم المهينة لعدوّ غاشم، رغم أنّ العدوّ نفسه على قناعة تامة بأنّ هذه الوحدة العربية حقيقية وثابتة وتاريخية بينهم، لا تغيّرها تصرّفات أفراد من حكام الخنوع في أزمنة مختلفة ولأسباب متباينة.
وما انتصار الشعب العربي في كل أقطاره اليوم لملحمة فلسطين سوى دليل قاطع على أنّ قضايانا واحدة، وأنّ مصيرنا واحد، شاء البعض ممن تخاذلوا أم أبوا، وإلّا كيف يغادر مكتب الاتصال الإسرائيلي الرباط من دون تحديد موعد لعودته، خوفاً من هبّة الشعب المغربي نصرةً للقدس وفلسطين؟ وإلّا أيضاً لمَ أرسلت قوات الكيان تعزيزات قبالة بلدة مارون الراس، وهي ترى مئات اللبنانيين يتوافدون إلى معابر فلسطين المحتلّة ويقدّمون الشهداء في سبيل ذلك؟
ورغم ارتكاب العدوّ مجزرة أخرى جديدة في سلسلة مجازره، منذ دير ياسين وقبية وصبرا وشاتيلا في مخيّم الشاطئ، ومجازر أخرى في أرض فلسطين الطاهرة، ورغم ارتقاء أكثر من 200 شهيد إلى جنان الخلد حتى اليوم، فإنّ البيت الأبيض الواقع تحت سيطرة اللوبي الصهيوني لم يُدنْ، كما هو متوقع، أيّ إجرام إسرائيلي، رغم تشدقه بحقوق الإنسان، بل صرّح أنّ لـ”إسرائيل” الحقّ في الدفاع عن نفسها، وكأن العرب لا حقوق لهم في الدفاع عن أنفسهم، وأنّ أميركا تسعى لحلّ الأزمة بين “إسرائيل” و”حماس”، متجاهلةً بذلك الأسباب الحقيقية لانتفاضة الشعب الفلسطيني وقراره الشجاع بتقديم التضحيات لكسر شوكة الاحتلال والاستيطان العنصري البغيض وتحرير الأرض من دنس المستعمرين الغرباء من الصهاينة العنصريين المجرمين.
ورغم أنّ المجازر المتتالية ترتكب بحقّ العرب الفلسطينيين منذ عقود، فإنّ مجلس الأمن هذه المرة ليس على عجلة من أمره، كما كان عندما صوَّت لتدمير العراق وليبيا، ولن ينعقد إلّا بعد أيام من سفك الصهاينة للدمّ الفلسطيني، رغم عدم التعويل على انعقاده وعلى قراراته، فالدول الغربية يتحكَّم الصهاينة ولوبيات المال والمخابرات بحكوماتها، بل إنَّ التعويل يكون على إرادة الفلسطينيين في تلقين العدوّ درساً لا ينساه في المقاومة.
لقد أثبت الفلسطينيون بدمائهم أنّ المقاومة ليست إرهاباً، بل هي حق شرعي بكل قوانين الأرض والسماء، وسيكون على العالم أن يخضع لإرادتهم، وأن على العالم أن يعرف المقاومة الساعية إلى تحقيق الخلاص من الأبارتايد للصهيوني واسترجاع حقوقهم واستقلالهم، ويميّز بينها وبين الإرهاب، طال الزمن أم قصر.
ولكنّ الدرس المستفاد الأهمّ اليوم من أحداث هذا الأسبوع المشرّفة هو ألّا يقع الإنسان ضحية لمفاهيم الأعداء وأكاذيبهم، وأن يبقى محصّناً ومؤمناً بأنّ كلّ قوى الشرّ، لو اجتمعت في العالم كله، لا يمكن أن تقلب الحقّ إلى باطل والباطل إلى حقّ، ولو اجتمع دهاة العالم على ترويج الأكاذيب والمفاهيم وإنفاق المليارات لتسويقها بين شعوب الأرض، فإنّ حكاية المقاومين النّابعة من الأرض، واستبسالهم في الدفاع عنها، وسقايتها بدمائهم هي الَّتي سوف تكتب قصّة الانتصار وقصّة الشعب الذي ضحّى وقاوم وأنشأ أبناءه على أنهم أبناء القدس حيفا وعكّا ويافا والخليل وعسقلان، حتى وإن ولدوا في بلدان المهجر، فهم ينتمون إلى مدنهم وبلداتهم وقراهم الفلسطينية التي سيعودون إليها، ولو بعد حين.
إنّ قصّة ثورة الشعب الفلسطيني على الخنوع والذلّ والاستسلام والتطبيع لن تحرّر فلسطين فقط، ولكنها سوف تحرّر أيضاً الإرادات العربية المهزومة والمنكسرة التي وقعت ضحيةً لأكاذيب العدوّ وتضليله، وهو الذي عمل دائماً على كسب الحرب قبل أن تبدأ، من خلال الحروب النفسية والإعلامية والمفاهيمية التي أتقن إنضاجها وبثّها والترويج لها.
أتت ثورة شعب فلسطين لتتعلّم منه الشعوب الأخرى، وليضيف ملحمة إلى ملحمة الجزائر وجنوب أفريقيا وسوريا وفيتنام وكوبا، وكلّ ملاحم الشعوب الحرة التي آمنت بقضاياها ورفضت الانجرار وراء بائعي الأوهام والانكسارات والخوف والذلّ والخنوع.
إنّ فجراً جديداً يطلّ من القدس وغزة ومدن فلسطين كلها، والأمل ليس تحرير فلسطين فقط، وإنما تحرير الإرادة العربية من الوهن الذي أصابها أيضاً، والعودة إلى عوامل القوة الكثيرة الحقيقية، لنصنع منها المستقبل الذي نريد ونستحقّ.