مقالات

الحقيقةُ من دون “فيلتر” بقلم/ ليلى زغيب

بقلم/ ليلى زغيب

هي محاولة للإضاءة على عالمين يتشكّلان في عصرنا هذا: عالم وهمي تصنعه القوى الرأسمالية المتوحشة بتقنياتها وإمكانياتها الضخمة، وعالم آخر حقيقي يُصادَر حقّه بالظّهور في الفضاء الذي أُريدَ له أن يكون فضاءً افتراضياً

في مؤتمر “Mobile world congress MWC” المُنعقد في مدينة برشلونة في إسبانيا في العام 2016، وخلال اللّقاء الصّحافي الخاص بإطلاق هواتف “سامسونغ Galaxy S7- S7 edge”، التقطت عدسة الكاميرا صورةً مرعبة جمّدت الدّم في عروق مُستخدمي الإنترنت.

حازت الصّورة أكثر من 120 ألف تعليق فور نشرها في صفحة الرئيس التّنفيذي لشركة “فيسبوك” مارك زوكربيرغ، وأثارت قلق الجمهور حول مستقبل البشرية الآيل نحو التحكّم بالعقول والسيطرة عليها من خلال تقنية الواقع الافتراضي، مُستعيداً في تعليقاته أدبيات رواية “1984” الشهيرة للكاتب جورج أورويل.

وثّقت الصّورة حينها لحظة اجتماع السّالب والمسلوب والحاكم والمحكوم. الحاضرون منفصلون عن الواقع. يُشاهدون بوجوه خالية من التّعبير عرْضَ الهواتف الجديدة من “سامسونغ” عبر نظارات الواقع الافتراضي، فيما يمرّ زوكربيرغ بين الحضور بخطوات واثقة وعينين ثاقبتين وابتسامة منتصرة، وكأنّه يسير في الواقع وحيداً، بل كأنّه يحتلّه وحده!

فتحت الصورة الحديث والنّقاش حول إشكاليات تبدأ من إخضاع الشعوب لحقل سيطرة التكنولوجيا المتحالفة مع القوى السياسية والاقتصادية، ولا تنتهي عند سؤال الواقع وواقعيّته ومدى مصداقيّته.

قد تسأل أيّها القارئ: لماذا أستعيدُ هذه الصورة في هذه الأيّام، بعد مرور ما يقارب 6 سنوات على الحدث؟ في الحقيقة، هي استعادةٌ لنقيضٍ واضح وصارخ لما نشهده اليوم في منصّات التواصل الاجتماعي من صور وفيديوهات وبث مباشر لما يجري في أرض فلسطين من أحداث “حقيقية” تُصنع بالدّم والروح.

من جهة أخرى، هي محاولة للإضاءة على عالمين يتشكّلان في عصرنا هذا: عالم وهمي تصنعه القوى الرأسمالية المتوحشة بتقنياتها وإمكانياتها الضخمة، وعالم آخر حقيقي يُصادَر حقّه بالظّهور في الفضاء الذي أُريدَ له أن يكون فضاءً افتراضياً وهمياً يُلبّي مصالح صانعيه.

وعليه، يمكننا تمثيل هذين العالمين بصرياً بصورتين متناقضتين: صورة مارك “المرعبة” التي تُحيل إلى التحكّم والسيطرة والواقع “الوهمي”، وصورة فلسطين التي أعادت الحقيقة المُغيّبة في هذا الفضاء، والتي لا تكفّ إدارة القائمين على منصات التواصل عن مصادرة حقّ أهلها في تبيانها.

“القدس أقرب” هو الشّعار الذي اعتمده مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي في إحياء يوم القدس العالمي، وفي التفاعل الحيّ والمباشر مع ما يحدث في أرض فلسطين. يبدو الشّعار “ضربة معلّم”، إذا ما أردنا تفسير دلالاته في دائرة الفضاء الافتراضي. أن نتحدّث عن القدس يعني أننا نحكي عن مكان حقيقي واقعي؛ هذا المفهوم الذي بات يختلط علينا بفعل التقنية. حوّلت تكنولوجيا الإعلام والاتصال، بتقنياتها المتطوّرة ومجالاتها الواسعة، المكانَ في هذا الفضاء الافتراضي إلى عالم مصطنع مشبع بالرّموز غير الحقيقية المتشكّلة وفق رؤى الإمبراطوريات الإعلامية وأجنداتها، وأصبحت الأحداث في هذا المكان المصطنع غير واقعية وأقرب إلى المشهدية.

الفلسطيني في ساحة المواجهة. في يده الأولى حجارة أو زجاجة حارقة، وفي يده الأخرى هاتف. نعم، هاتف ذكيّ يصوّر، ولكن صورة حقيقيّة من دون “فيلتر” أو محاولات إخراجية فنّية. هنا، الحدث حقيقي والمعنى واضح. هنا، الدّماء والشّهداء والأبطال والأرض والحقّ ضدّ الباطل والخير ضدّ الشرّ. كُل هذه المعاني اجتمعت في المكان المقدّس “القدس”. أعاد لنا الناشطون الفلسطينيون بعضاً من الحقيقة النّاصعة: حقيقة الإنسان الواعي الفاعل والمسؤول، وأهمية المكان بالنّسبة إلى الإنسان، وأسئلة الأصل والتّاريخ والجذور التي لا تكفّ إيديولوجيا التّقنية وأدواتها عن تفكيك معانيها وإفراغها من جوهرها ودفعنا إلى نسيانها.

الحقيقةُ النّاصعة لا محلّ لها في هذا الفضاء الافتراضي. سُرعان ما تُصادَر وتُلغى من الوجود. في الفضاء الافتراضي، لا مجال لبروز شيء سوى الإنتاج والسّوق والتّفاهة واللامعنى. المطلوب تعمية قلوب الشّعوب وأبصارها وجعلها رماديّة مُحايدة لا تمتلك أدوات التّمييز بين الحق والباطل. لذا، تُلغى الصّفحات والحسابات الخاصة بالنّاشطين الذين ينقلون الحقيقة، ليخلو هذا الفضاء لمحتوى لا يُزعج التّحالف الثلاثيّ الأضلاع: مُنتجي التّكنولوجيا، واللّوبي السياسي، واللوبي الاقتصادي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى