العنب.. رمزية الحضارة في اليمن القديم بقلم/ حفظ الله العميري
بقلم/ حفظ الله العميري
ارتبط اليمنيون منذ الأزل إرتباطاً وثيقاً بالأرض والزراعة، حيث تعتبر الزراعة، في اليمن القديم وحتى وقتنا الحاضر، عاملاً رئيسياً وركيزة أساسية لإقتصاد اليمنيين، وارتبطت مواسم الزراعة بأشهر السنة، ومنها سمى اليمنيون أشهرهم الحميرية مثل “ذو علان، ذو الصراب، ذو المذرا” وغيرها، ومنها اتخذ أشجاراً كرموز تاريخية وحضارية له مثل “اللبان، والمُر والشذاب، والعنب، والقمح”، واكتسبت طقوساً ومعتقدات شعبية، وذهب الأمر الى ترميزها، وبنى لها اليمني التماثيل وذكرها في النقوش، واشتق منها منتجاته، وقدسها أحياناً كما هو الحال مع العنب.
يعتبر اليمنيون القدامى أول من أطلق على العنب “وين” وترجمتها العنب أو الكرم وانتقل هذا اللفظ كإسم معروف للنبيذ إلى اللغة اللاتينية والإنجليزية بالمصطلح “wine”، وذكر ذلك في قصيدة “ترنيمة الشمس” الحميرية، التي اكتشفها الباحث الدكتور “يوسف عبد الله” في مديرية قانية محافظة البيضاء، وظهر في البيت الثالث عشر كلمة “وين” “وين مَزْر كن كشقحك” وترجمتها ” والكرم صار خمراً لما أن سطعت”.
يقول الباحث الدكتور عبد الجليل العريقي في بحث عن النباتات المقدسة في الحضارة اليمنية القديمة “إن قدسية العنب أثرت في الحضارة اليمنية القديمة على العمارة والفن اليمني القديم، حيث كانت أوراق العنب والثمار من الموضوعات الزخرفية المحببة التي استخدمها الفنان اليمني بصور مختلفة على العناصر المعمارية ، كما زخرفت بها واجهات المباني وأبدان وتيجان الأعمدة، والصفائح الحجرية والرخام التي تستخدم لتغطية وتزيين جدران المباني من الداخل ، وتعد الأعمدة الثمانية الأضلاع ذات التيجان الهرمية التي عثر عليها في القصر الملكي المسمى “شقر” في شبوة عاصمة مملكة حضرموت من أفضل الأمثلة على استخدام أوراق العنب والثمار عنصر زخرفي على العناصر المعمارية ، حيث استخدمت الأوراق على شكل أشرطة زخرفية طولية على بدن العمود ، تخرج منها عناقيد صغيرة بشكل متبادل، كما استخدمت لزخرفة تيجان الأعمدة على شكل شريطين عرضيين في أعلى وأسفل التاج”.
قدس اليمني القديم شجرة العنب وخصص لها إلها باسم “ذات مزر” ويعني “إله الخمرة” وكان يسقي النبيذ المصنوع منها للآلهة، ويهديه لزوارها، وجسدها في كثير من النقوش، وزخارف التماثيل والمصنوعات الصغيرة، ومنها التمثال البرونزي الشهير لامرأة قديمة والذي عثر عليه أثناء التنقيب في مدينة “تمنع” عاصمة مملكة “قتبان” من قبل المؤسسة الأمريكية لدراسة الإنسان في بداية الخمسينات من القرن العشرين، ووضع على العملة النقدية فئة العشرون ريالاً، وتظهر المرأة في وضعية الجلوس تنتشر أمامها أوراق العنب بشكل متقن.
وترجح المصادر التاريخية إن من أهم أسباب تقديس شجرة العنب عند اليمني القديم واعتبارها من الرموز الدينية لإله الشمس بسبب دورها في نموه ونضوجه وتحويله إلى نبيذ، بالإضافة إلى أن اليمني القديم كان يعتبرها شجرة الحياة، وترمز للخلود، وللصراع المستمر بين الخير والشر.
استمر ارتباط اليمنيين تاريخياً ووجدانياً بالعنب حتى وقتنا الحاضر، ومنها نسج اليمني أغانيه وغزله بحبيبته، ولا زلنا نتذكر السنيدار وهو يطربنا برائعته الجميلة “يا جانيات العناقيد .. طاب العنب طاب يا غيد”، وأبو بكر سالم “يا زارعين العنب مابا تبيعونه” وأيوب طارش “يا عنب يا عنب” وفيصل علوي “حالي يا عنب رازقي” وحتى تجسدت في التراث الشفاهي “اللامادي” منها على سبيل المثال تغزل اليمني بعيون حبيبته “حُبيبي انفدا عيونك السود.. ذي هم عنب عنقود جنب عنقود” وغيرها من الأهازيج والأغاني والأمثال الشعبية.
يتميز العنب اليمني بمذاقه اللذيذ، وتعدد أصنافه، فمنه “الرازقي، العاصمي، الأسود العادي، الحاتمي، الزيتوني، الجوفي، بياض عادي، قوارير، اطراف قريمي، بياض فشان، جبري، اسود حدرم، اسود الدوال، الحسيني، اسود عذاري” وكل صنف له طعمه الخاص ومميزاته عن الصنف الآخر .
وتشتهر اليمن بأجود أنواع الزبيب “العنب المجفف” ويستخدمه اليمنيون للإستطباب من بعض الأمراض وكنوع من الهدايا الثمينة، حيث كان يُهدى للملوك القدامى، وعند عقد القران في بعض المناطق يرش الحاضرون الزبيب على يد العريس ووالد العروس تعبيراً عن الفرح ببدء الشراكة الزوجية، وهناك اعتقاد بأن الزبيب يزيد القدرة الجنسية، لذلك يعتبر رفيق شهر العسل لليمنيين ويستخدم بكثرة لهذا الغرض حتى الآن .
يواجه العنب خطراً حقيقياً في الوقت الحاضر بسبب شح الأمطار وقلة المياه في مناطق تواجده، واستبداله بشجرة القات، بالإضافة لضعف القدرة الشرائية للمواطنين بسبب الحرب والوضع الإقتصادي وإقفال الموانئ والمطارات، وهو ما حد من تصديره للخارج وحتى نقله بين المحافظات اليمنية بسبب النقاط الأمنية والجمارك المضاعفة، ويتوجب على الدولة والمنظمات العاملة في التنمية دعم مزارعي العنب والإهتمام بهذه الفاكهة التاريخية والرمز الحضاري النباتي لليمنيين.