مقالات

السياسة الخارجية للاتحاد السوفيتي ( روسيا )تجاه اليمن الجنوبي 1967 – 1980

الحلقة الثالثة
                             بداية التحالف بين موسكو وعدن
بقلم دكتور / حسن زيد بن عقيل
وضع الاتحاد السوفيتي معايير في علاقته بنظام جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ، ولم يتجاهل طبيعة التنافس الاستراتيجي مع الولايات المتحدة. هذا التقييم ساعد في تشكيل العلاقة بين البلدين. السوفييت على علم بالصراع بين الجناحين اليساريين للسلطة ، سالم ربيع علي (سالمين) وعبد الفتاح إسماعيل (فتاح). وتمسكهم بالواجهات الأيديولوجية للماركسية (الأقرب إلى الديماغوجية) ، هكذا كان السوفييت ينظرون إلى يسار الجبهة القومية . باستثناء فترة قحطان الشعبي وعلي ناصر محمد ، احترم السوفييت والمجتمع الدولي حكمهم.
تميزت فترة سالمين وفتاح بسيطرة اليسار المتطرف . وشهدت العلاقة مع السوفييت في هذه المرحلة تقلبات حسب موازين القوى في قيادة الجبهة القومية . لذلك نقسم هذه العلاقة مع السوفييت إلى أربع مراحل مختلفة بحسب الرئاسات الأربع التي كان لأهوائها السياسية تأثير مباشر على سياسة الدولة وهي: 1 – قحطان الشعبي 2 – سالم ربيع علي 3 – عبد الفتاح إسماعيل 4. – علي ناصر محمد. كل من هذه الرئاسات خصوصياته في علاقته مع الاتحاد السوفيتي.
الرئيس قحطان محمد الشعبي 
حكم من 30 نوفمبر 1967 حتى 22 يونيو 1969 ، وكان قحطان الشعبي أول رئيس لجنوب اليمن. حدد في خطابه الأول شكل الدولة الجديدة ، نظام جمهوري و على أسس الديمقراطية الشعبية. وقال إن هذا النظام الجمهوري  لن يكون شبيه بـ “الديمقراطية البرجوازية العربية” المعروفة.
كانت هزيمة مصر وعدد من الدول العربية في حرب الأيام الستة ضد إسرائيل بمثابة صدمة وبداية نهاية الاشتراكية القومية الناصرية التي كانت مناهضة للاستعمار. عندما أعلن الرئيس قحطان الشعبي رفضه لـ ( الديمقراطية البرجوازية العربية ) ، هذا انعكس بشكل مباشر  على  حركة القوميين العرب و كان تعبيرا عن بداية التحول في الحركة ، و هذا إنعكس ايضاً على أيديولوجيتها و قادها نحو اليسار الماركسي . بداية  التحول إلى اليسار شهدته وطبقته الجبهة القومية في عدن التي كانت طليعة تلك القوى الثورية في العالم العربي . تزامن التحول في عدن مع ظهور الجبهة الشعبية و الديمقراطية لتحرير فلسطين وجبهة تحرير ظفار ومنظمات صغيرة في دول عربية مختلفة .
 بعد ثلاثة أشهر من الاستقلال ، في أوائل فبراير 1968 ، قام وفد عسكري برئاسة وزير الدفاع علي سالم البياض بزيارة مهمة إلى موسكو ، لكن لم يتم الإعلان عن أي اتفاق بعد الزيارة . عند عودة وزير الدفاع من موسكو ، طرد الخبراء البريطانيون من القوات المسلحة اليمنية. في 25-28 يونيو 1968 وصلت سفن سوفيتية إلى ميناء عدن وتكررت تلك الزيارات بهدف إحياء ميناء عدن وتنشيطه. بالطبع لم يمر هذا الحدث دون تعليق الدول الغربية التي أعلنت فورًا عن وجود قاعدة عسكرية للاتحاد السوفيتي في عدن.
أول وفد عسكري سوفيتي يزور عدن كان بقيادة الجنرال ألكسندر نجراسك واستغرقت زيارته أربعة أيام ، درس خلالها المتطلبات العسكرية للجمهورية. في أغسطس ، وقع البلدان على أول اتفاقية مساعدات فنية وعسكرية. بعد ذلك ، زار الاتحاد السوفيتي عدة بعثات عسكرية يمنية  منها في نوفمبر وديسمبر 1968. واصل الاتحاد السوفييتي تكثيف الاتصالات مع القيادة في عدن رغم معرفته بالانقسامات داخل قيادة الجبهة القومية ، لكن استمر النهج المعتدل للقيادة رسمياً حتى بعد أحداث مارس 1968. في أزمة مايو 1968 ، طالب سفير الاتحاد السوفيتي مراراً وزير الدفاع بدعمه . خلال النصف الثاني من عام 1968 ، كانت هناك زيارات متبادلة بين عدن وموسكو لمناقشة القضايا العسكرية والاقتصادية والثقافية. وكان من أهمها زيارة وزير الدفاع السيد محمد صالح العولقي و تم خلالها توقيع اتفاقية فنية وعسكرية بين البلدين. في يوليو 1968 جاءت الدفعة الأولى من الأسلحة ، ثم في يناير 1969 وصلت شحنة كبيرة أخرى من المعدات العسكرية السوفيتية ، بما في ذلك 10 مقاتلات من طراز ميغ 17 ، وصواريخ جو – أرض ، ومدافع مضادة للطائرات ، ومعدات رادار محمولة ، وذخيرة وقطع غيار  . يرافق هذه المعدات العسكرية خمسون خبيرًا عسكريًا. في يونيو 1968 قامت مجموعة من السفن السوفيتية بزيارة عدن من المحيط الهندي وتكررت هذه الزيارة.
كانت أول زيارة رفيعة المستوى من جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية إلى الاتحاد السوفيتي هي زيارة الرئيس قحطان الشعبي . واستمرت أحد عشر يومًا من نهاية يناير إلى أوائل فبراير  1969. وخلال زيارته ، تم التوقيع على اتفاقيات مهمة بشأن المساعدة الاقتصادية والفنية. وتشمل إنشاء مصنع حديث للأسماك ، وبناء أسطول صيد حديث ، وإنشاء مركز تدريب وبحوث في جمهورية اليمن الجنوبي. كما وافق الاتحاد السوفيتي على تدريب يمنيين في الاتحاد السوفيتي. في المقابل وافقت الدولة على استقبال البعثات الفنية السوفيتية لدراسة المياه المحيطة بجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية. أسفرت زيارة قحطان الشعبي عن توقيع اتفاقيات علمية وتعليمية.
في الواقع ، يعود الفضل إلى الرئيس قحطان الشعبي في إقامة العلاقة مع الاتحاد السوفيتي ، مع الحفاظ على القوات الاتحادية الجنوبية وتطويرها. بعد رحيل المستعمر البريطاني اتفق الرئيس قحطان الشعبي مع الاتحاد السوفيتي على تقديم المساعدة في تشكيل وتطوير القوات المسلحة للبلاد ، و ذلك قبل أن يتولى الجناح اليساري للجبهة القومية  الحكم و الذي نسب إليه كل منجزات قحطان الشعبي له . نعود إلى الوثائق الرسمية. ومنها أحد القرارات السوفيتية الصادرة بهذا الشأن تقول (بناءً على أوامر من مجلس وزراء الاتحاد السوفيتي رقم 2419 في 8 ديسمبر 1968 ورقم 148 في يناير 1969 ورقم 735 في 17 أبريل 1970 بإرسال خبراء و أفراد عسكريون إلى جنوب اليمن). صحيح أنه بعد 22 يونيو 1969 ، أصبح جنوب اليمن أكثر اعتمادًا على الدعم العسكري والاقتصادي السوفيتي ، لكن هذا لا يعني أن العلاقة بين البلدين بدأت بعد 22 يونيو 1969 أو إنها أصبحت عميقة من الناحية الاستراتيجية. نلاحظ أن التغطية السوفيتية للبرنامج الحكومي الأول للجبهة القومية  بعد الاستقلال كانت مقيدة بسبب الصراعات في عهد قحطان الشعبي. تعامل السوفييت بحذر وحذر شديد مع هذا الواقع. كان الخبراء السوفييت متشككين في عقلانية يسار الجبهة القومية . كما أشارت التقارير السوفيتية بوضوح إلى المشاكل الداخلية في الجبهة القومية و المشاكل سياسية التي تواجه جنوب اليمن بشكل عام . و كذا تحدثت الصحف السوفيتية عن المشاكل التي تواجه الرئيس قحطان الشعبي و قد شددت عدت مرات على ضرورة الوحدة بين “القوى الوطنية” في جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية. قحطان الشعبي كان زعيما لامعا ورجل دولة استلم دولة جديدة وفقيرة وكان تحت تهديد ثلاث دول ــ شمال اليمن والسعودية وسلطنة عمان ، وهذه الدول مدعومة من بريطانيا والولايات المتحدة اللتين تعتقدان  أن  مصالحهم مهددة في المنطقة بوجود نظام اليمن الجنوبي المستقل. في هذا المناخ السياسي تأتي حركة 20 مارس 1968 التي كانت بمثابة رد فعل وتأديب لليسار الطفولي في الجبهة القومية الذي يسعى إلى تدمير الجيش النظامي المؤهل وتصفية كوادره الفنية واستبداله بجيش التحرير الشعبية غير المؤهلة علميا. هذا اليسار الطفولي موجود في دول الشرق ، حيث يستطيع تشكيل الجمهوريات  و يحاول من خلالها ترجمة الأفكار اليسارية ، لكن فكرة القائد ( الأنا ) بقيت أقوى في عقليته من نبل ومثالية الأفكار الماركسية. وهذا ما حدث بالفعل في 20 مارس 1968 ، الجيش الاتحادي كان يخضع للأنظمة والقواعد المعروفة في كل الجيوش النظامية ، بينما يخضع جيش التحرير الشعبي للقائد (للفرد ، الزعيم ). وهنا وقع الخلاف بين الجيش الاتحادي  وتيار ( الأنا – الزعيم القائد الفذ ) و هذا الذي يحبه و ترقص له أذان اليسار في الجبهة القومية (سالمين وفتاح). لكن روح الوطنية عند الجيش الاتحادي ظهرت على الواقع من خلال  تعاملها مع الاحداث التي صنعتها قوى اليسار ، تعامل الجيش  معهم  مثل الأب الرقيق مع أبنائه.
باختصار ، حركة 20 مارس 1968: في ليلة 19-20 مارس ، حاول ضباط من الجيش والشرطة بقيادة حسين عثمان عشال تصحيح مسار الثورة . خرجت وحدات من الجيش و احتلت محطة الاذاعة و قطعت عددًا من شوارع عدن ، واعتقلت ثمانية من قيادات اليسار و قيادات شعبية ــ ما مجموعه  160 شخص . في مساء يوم 20 مارس ، أغلقت الحدود والموانئ . وطالب الرئيس قحطان الشعبي  بتشكيل حكومة جديدة وتخليص البلاد من خطر اليسار المتطرف.
عارضت النقابات العمالية والمؤسسات الجماهيرية الأخرى الانقلاب . و في نفس اليوم هرب من السجن 16 من المعتقلين . في ظل هذه الظروف الصعبة  دعا قائد الجيش الجنود إلى العودة إلى ثكنته ، و وعد بعدم معاقبة المعارضين. تم بعد ذلك إطلاق سراح جميع المعتقلين ، وأعيدت  بعض الشخصيات اليسارية إلى مناصبهم الحكومية السابقة .
في مايو 1969 وقع خلاف بين الرئيس قحطان الشعبي و وزير الداخلية محمد علي هيثم. في 19 يونيو ، عزل الرئيس الوزير بمفرده. واتهم نواب من اليسار الرئيس بالسعي لإقامة دكتاتورية وحرمان الجبهة من قيادة السلطة. تحت الضغط أعلن الرئيس قحطان الشعبي استقالته.
في 22 يونيو أعلن الجناح اليساري للجبهة القومية سيطرته على الإذاعة وأعلن عن  قرارات اللجنة المركزية بشأن استقالة الرئيس قحطان من جميع مناصبه وتشكيل مجلس رئاسي من خمسة أعضاء: رئيس مجلس الرئاسة سالم ربيع علي ، ورئيس الوزراء محمد علي هيثم ، والأمين العام للجبهة القومية عبد الفتاح إسماعيل ، وعضوية محمد صالح العولقي وعلي أحمد ناصر عنتر. وشكلت حكومة جديدة. طرد منها كل أنصار قحطان الشعبي ، وفر عدد كبير من كبار ضباط الجيش الوطني إلى الخارج . و هذا العمل سمي بـ “حركة التصحيح”.
كاتب و محلل سياسي يمني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى