مقالات

العشاء الأخير لهادي.. ماذا تبقى من شرعية مصلوبة في الرياض؟ بقلم| جمال حسن

بقلم| جمال حسن

عشرة أعوام مرت منذ تنازل صالح بالرئاسة لنائبه هادي، أكملها الأخير بإعلان نقل السلطة إلى مجلس رئاسي في طقوس نصفها مفاجئ ونصفها مُريب. كان المشهد الأخير مختلفًا جذريًّا عن سابقه، إذ جاء في مرحلة قاتمة تمر بها اليمن. بخلاف أن خفاياه أكثر من ظواهره، عدا ما يتركه من فراغ حول مضمون الشرعية.

جاء الإعلان الأخير مُفاجئًا حتى بالنسبة للحاضرين في مؤتمر الرياض المُقام وقتها، بينما كان نقل السُلطة لهادي مُمهدًا بمبادرة خليجية وتسوية سياسية. كما أنّ هادي جرى تنصيبه رئيسًا وفق كل أركان التشريع الدستوري، سواء عبر انتخابات أو اقتراع شعبي، وما تلاها من إجراءات دستورية. هذا بخلاف أن فترته الانتقالية كرئيس توافقي مشروطة بمخرجات مؤتمر الحوار.

وتعطلت لغة الحوار بواقع البندقية، مفضيًا لسيطرة الحوثيين على صنعاء. ثم حرب شهدت تدخلًا لتحالف عربي تقوده السعودية عنوانه إعادة الشرعية، وهو الكيان الذي أصبح هادي يُمثل رمزيته. فيما أخفقت العملية العسكرية خلال سبع سنوات، في إصلاح العرج الذي تقف عليه الشرعية.

ثم إنّ هذا التدخل لم يفضِ إلى عودة الشرعية إلى العاصمة المؤقتة عدن. وساهم في صياغة قوى مُتباعدة، إضافة إلى ما كانت عليه من تهلهل. وبدلًا من إصلاح عرجها جعلها طريحة الفراش، لتنتهي بعملية ترقيع فرضت على هادي -وأقول فرضت متأكدًا- نَقْل صلاحياته إلى مجلس رئاسي.

وعمومًا، تبدو عملية نقل السُّلطة في الرياض برمّتها مُلتبسة ومفتقرة إلى مضمون شرعي. صحيح أنّ وضع البلد استثنائي، وهو الذي أكسب رئاسة هادي مضمونًا شرعيًّا قائمًا برغم مرور السنوات وتعطل العملية السياسية. وحقيقة أن وضع كهذا لا يمكن له الاستمرار إلى الأبد. لكن مضمون نقل السلطة الأخير مليء بالعورات.

فالعملية تمت خارج اليمن، بما يُثيره الاستلاب السياسي للقرار اليمني من العامل الخارجي، حتى وإن حاول الإجراءُ التغطيةَ على ذلك بإجراء مراسيم نقل السلطة داخل السفارة اليمنية، باعتبارها أرضًا يمنية، لكن ذلك لا يزيل الالتباس حول سلامة الإجراءات؛ أي إن الرياض حرصت على إزالة أبسط المظاهر المُقنعة في جعل المراسيم تتم في اليمن، سواء في العاصمة المؤقتة عدن أو حتى المُكلا.

على صعيد آخر، أخذ مضمون المجلس الرئاسي منحى لافتًا في توزيع القرار السياسي بين مراكز قوى شكلتها الحرب، وكان للعامل الخارجي دورًا في ذلك. أي إنها أفردت مساحة لزعامات مُختلفة تخضع لبعضها تكوينات عسكرية تُسيطر على مناطق مختلفة، وبعضها مسنودة بدعم سياسي.

نُقطة أخرى مهمة؛ طبيعة توزيع الحقائب الرئاسية اعتمدت سياقًا مناطقيًّا، لا يقتصر على مناصفة المجلس بين شماليين وجنوبيين. إنما حرصت على أن يكونوا عناوين لتكتلات مناطقية مُختلفة.

وهذا نسق سبق وأشرنا له في مقالات سابقة، حول وجود رغبة في توجهات لتشريع مُحاصصة هووية كانت مناطقية أو طائفية في اليمن. على الأقل وإن لم تصِب توقعاتي، هذا يؤكد بصورة ما مدلول العملية، ما لم تحدث مُتغيرات في بنية العملية السياسية القادمة.

والمُرجح أن تلك المُحاصصة ستصبغ القرار السياسي ومآلاته، سواء اتخذت مسارًا عسكريًّا أو تفاوضيًّا ينزع للحل. كما أن رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي الساعي للانفصال، بعد تعيينه ضمن المجلس الرئاسي اليمني، أكّد في لقائه قيادات جنوبية عن سعيه لانتزاع حق شعب الجنوب في تقرير مصيره.

ولا نعرف إلى أي مدى لدى هذا المجلس تجانس في قراره، أو أنه أصبح مجالًا أوسع لتعدد الأهواء. وبينما وجود رئيس واحد ضعيف تحركه الأهواء، ليس أكثر سوءًا من رؤساء أقوياء محكومين بالأهواء. ولا نغفل أيضًا أن سُلطة الرئاسة حين تصبح محكومة بزعامات عديدة فإن قرارها السياسي يكون أكثر عُرضة للاختلال.

لكن سأعود لنقطة جوهرية؛ أي وجود وضع استثنائي، فهل يستحق أن يكون قراره السياسي بهذا التركيب الأكثر عُرضة للتضارب. وبصرف النظر عمّا إذا كانت هناك حسن نوايا ودوافع غايتها إصلاح مسار الشرعية، فإن سُلطة رئاسة تخضع لعدة زعامات تمتلك نفس التأثير، وربما تختل لمصلحة تكوينات مُسلحة على الأرض، لا يمكن أن نضمن عدم عُرضة قرارها السياسي للميوعة نتيجة تعطلها الدائم. وهذا يؤدي حتمًا إلى ضعفها أمام خصم موحد في قراره كالحوثيين، سواء في معركة أو تفاوض.

ولا يعني أن سُلطة الشرعية كانت موحدة، بل كانت مُهدرة لمصلحة قوى على الأرض، وكذلك لمصلحة أهواء مراكز أُخرى. لكنها على الأقل كانت تستطيع امتلاك بعض القرارات السياسية. هناك مسألة بديهية في السياسة، عدم الثقة بنوايا حلفائك. إنها لعبة مُعقدة وليس بالإمكان أن يتم تناولها بهذا القدر من الاستخفاف الذي نراه في اليمن، سواء كان اقتراحًا أو واقعًا سياسي.

كان هادي عُرضة لنقد واسع حول سلبية قراره وضعفه، كذلك حول وجوده كعائق أمام قرار الشرعية. وظهرت اقتراحات بما فيها لخبيرة أمريكية في موقع كارنجي بعنوان هالة الشرعية، وكذلك من كتاب يمنيين. وبالتالي كان الموضوع كيف يمكن التوصل إلى مضمون بديل لشرعية هادي، أو على الأقل نقل صلاحياته لمجلس رئاسي.

في أبريل 2016 أصدر هادي قرارًا بإقالة خالد بحاح عن منصبيه نائبًا للرئيس ورئيسًا للحكومة. وعيّن هادي اللواء علي محسن الأحمر نائبًا له، وأحمد عبيد بن دغر رئيسًا للوزراء. كان القرار يسبق بفترة قليلة انعقاد مفاوضات بين أطراف النزاع اليمني في الكويت. الغريب أن أبريل كان أيضًا هو الشهر الذي فوّض فيه هادي صلاحياته إلى مجلس رئاسي بقيادة رشاد العليمي.

معلومات مؤكدة، قالت إن هادي فاجأ الرياض وأبوظبي بتلك القرارات. ليس ذلك فقط، بل خالف قاعدة رئيسية كانت في طريقها للاختمار. فالمعلومات تؤكد أن تلك القاعدة المتوافق حولها، كانت ترمي بنقل صلاحيات هادي إلى نائبه. وحظي هذا التوجه بدعم المجتمع الدولي، وكذلك بموافقة الرياض وأبوظبي. على الأرجح كان هذا السيناريو مطروح ما لم يتراجع عنه أحد أطراف صنعاء، لكن المؤكد أنه حظي بتأييد الرئيس السابق صالح، المُتحالف مع الحوثيين.

وقتها اعتبره خالد بحاح انقلابًا على التوافق السياسي الذي أفضى إلى تعيينه رئيسًا للحكومة. وفق انتقال صلاحيات هادي إلى نائبه وقتها لم نكن نعرف مجرى المفاوضات. بحسب كثير من الخطابات المُعارضة لهذا القرار، اتُّهم هادي والإصلاح بسعيهم إلى تقويض مشروع السلام، مستندين بذلك إلى خلفية الأحمر السياسية والعسكرية، لكن هادي كان واضحًا في قراره؛ تقويض مسعى يختمر لنقل صلاحياته إلى نائبه. وبالتالي لم يكن الأحمر محل إجماع أطراف النزاع اليمني.

الأهم، أن هادي رغم بقائه في الرياض كان لا يزال مُعطلًا لشيء يدور في خفايا السياسة. ولا نريد الذهاب إلى أبعد من ذلك، فكل شيء سيتضح وفق المُعادلة التي ستحددها العملية السياسية أو العسكرية.

هل كان هادي حجرة عثراء بالنسبة لأكثر من طرف سياسي بما فيها الرياض، ينبغي إزاحته تدريجيًّا؟ ربما خيط الأحداث جرى وفق تلك الصورة. على أن الإفادة ينبغي أن تتخفف من الحتمية.

مسألة أخرى ينبغي أن أستعيدها، حولَ قيام السعودية بتغيير طاقم هادي الخاص بمن فيهم طبّاخوه. وجرى استبدال طاقمه اليمني بآخرين مُعينين من البلاط السعودي. هل كان ذلك مسعى لمحاصرة هادي، أو لأسباب أمنية رأتها الرياض؟

إذن حدثت المراسم الأخيرة في لحظة مُباغتة، حتى بالنسبة للمشاركين في مؤتمر الرياض. وبدلًا من دواعي حضورهم لتحديد ملامح توافقية، كانت أدوارهم تشريفية أو ضمن مشهد فُرجة فاجأ كل اليمنيين. مع أن الغالبية لم تعجز عن الذرائع المستورة بالاحتفاء، والتبجيل حد تشبيه مجلس الرئاسة بعمدان أوام الثمانية.

حضرت المُفاجأة، لكنّ كثيرًا من الأقنعة المُبهرجة بالمساحيق تساقطت، وإن ما زالت آلات الترويج الإعلامية وجيوش الناشطين تحاول إبقاءها. على الأقل بالنسبة لمن يعفي نفسه من إجهاد الأسئلة والشكوك. ما الدوافع؟ تلك مسألة سنعرفها حتمًا عبر خيوط من التداعيات، دون استبعاد أساليبها المراوغة التي ستعتمد على خطاب من حُسن النوايا.

ظهر هادي بعد العشاء الأخير، بصوت ينم عن آلام الصلب. لم يكن مسيحًا، فاليمن تكتظ بالمُخلصين الذين تنصبهم الحروب وتهافت السياسة. الأرجح أنه كان منزويًا في مائدة تخلو من الحواري. وهذا المشهد المُتبقي لنار عشاء طُبخت في عالم السياسة السُفلي. وكان صوت الأورغن الجنائزي مكتومًا وخفيًّا، بينما أنابيبه تخفي نار العشاء، وسط جلبة أهدرتها فرقة الأبواق النحاسية الضاجة بالطبالين. ولم يبقَ من الشرعية سوى الظهور الأخير لهادي الذي كسره حلفاؤه وخصومه على حد سواء، وكذلك بطانته.

ويبقى سؤال وحيد، إلى أي مدى يكتسب هذا المجلس شرعيته؟ أم أنه لحظة تساوٍ بين أطراف صراع، بما فيهم جماعة الحوثي. كان الحوثيون الطرف الوحيد الذي لم يعترف بتنصيب هادي رئيسًا ضمن مبادرة خليجية، كما اليوم لم يعترف بالمجلس الرئاسي. وفق ذلك تدحرجت كرة الحرب بسلاسة من أقصى الشمال إلى صنعاء في السابق.

وبينما لدى المجلس الرئاسي المفوض من هادي، مهمة التفاوض مع الحوثيين، سنتساءل عن موعد السلام. لكن عمليًّا أزالت الرياض معالم الشرعية، خلافًا لتعهد تحالف تقوده بإعادتها إلى صنعاء. وما بقي لهذا المجلس من شرعية سوى أجراس الحرب أو إجراء تفاوضي شكلي لملامح سبق وتم التهيئة له سواء في الجبهات أو خفايا السياسة، بحسب خيوط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى