مقالات

“كوخ العم توم” بين قانون الاستعباد في أمريكا وسياستها تجاه فلسطين بقلم| عبدالباري طاهر

بقلم| عبدالباري طاهر

في ستينيات القرن العشرين الماضي، قرأت رواية “كوخ العم توم” التي كتبتها هيرييت بيتيتشر. بقيت الرواية بوقائعها الفاجعة في الذهن.

الرئيس الأمريكي أبراهام لينكولن عندما استقبل الساردة هيرييت، فرش لها السجادة الحمراء كرؤساء الدول، قائلًا لها: “أهلًا بـأصغر امرأة أشعلت أكبر حرب”.

اعتُبرت الرواية إنجيلَ تحرير الجنوب الأمريكي (حرب التحرر من العبودية). يشبه صمود العم توم الكثيرَ من قصص الأنبياء والمصلحين الكبار. فالعم توم -بطل الرواية- رمز ضحايا العبودية في أمريكا، وهو البطل الذي قاد إلى إشعال نيران الثورة في نفوس الأفارقة الزنوج، وقصة المعاناة والتعذيب والقمع الذي تعرض له، جديرة بإشعال أكثر من حرب.

العم توم مؤمن مسيحي صادق الإيمان، يواجه الاضطهاد والقمع بعناد وصبر عجيبين.

وأنا أعيد قراءتها، تذكرت قصة يحيى بن زكريا- يحيى المعمدان، عندما طُلب منه التراجع عن إيمانه أو شقه بالمنشار فرفض.

رواية العم توم، وسردية العذاب الشنيع الذي تعرض له “العبيد” من اضطهاد وقمع غير مسبوقين في التاريخ البشري كله، آثارها قائمة حتى اليوم في العديد من مناطق العالم، وبالأخص في المنطقة العربية. فمعاملة العبد أقسى، بما لا يقاس، من معاملة البهيمة؛ فهو مملوك روحًا وجسدًا لسيده. زوجته ليست زوجته، وابنه ليس ابنه، ولا يحق له الاعتراض على شيء، ومن حق سيده تعذيبه كما يشاء وكيفما يشاء، حتى قتله، ولا يُساءل عن ذلك.

يتعامل معه سيده ككائنٍ حياتُه كلها ملك لسيده، ولا يحق له أن يتزوج، ويحرّم القانون تقديم أي لحم أو شراب للملوّنين، كما يحرّم القانون إيواء الهاربين، أو تقديم العون لهم، أو تقديم الأكل أو الشرب أو الملابس لهم.

نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا سابقًا، وطبيعة النظام العنصري المدعومة أمريكيًّا في فلسطين، هو استمرار للنظام في جنوب أمريكا الشمالية قبل التحرير، ولا تزال آثاره وامتداداته قائمة، رغم الإنجاز العظيم لثورة مارتن لوثر كنج- داعية الحقوق والمساواة الذي اغتيل عام 1968.

رواية العم توم ثمرة تواصل مع العبيد، وتعايش معهم عن قرب، وهي نتيجة اطلاع واسع بعذاباتهم ومعاناتهم المرعبة.

توم مملوك لسيده الطيب شلبي، المطالَب بسداد ديونه للنخاس هالي. يقدم شلبي لهالي الجارية إليزا وابنها هاري، وتوم، لسداد الدين؛ فتهرب إليزا وهاري، ويبقى توم.

يباع توم للنخاس القاسي هالي، فيعامله بقسوة، ثم يبيعه. ينتقل توم إلى أسرة طيبة، ويَعِده ربه الجديد بالعتق، ولكنه يُقتل قبل إعتاقه. من جديد يباع توم لمالك أشد قسوة، فتبدأ رحلة عذاب جديدة.

توم مسيحي تقِيّ، يحس بمعاناة الآخرين أكثر من الإحساس بمعاناته هو، ويشفق حتى على جلاده.

تسرد الرواية معاناة العبيد، والقوانين الشديدة القسوة، والممارسات الأبشع من القوانين، كانتزاع الطفل الرضيع من حضن أمه لبيعه بعيدًا عنها، والتفريق بين الزوجين، وبيعهما بعيدين عن بعضهما.

سوف أركز فقط على مأساة توم كرمز العبودية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.

الكوخ -كتوصيف الرواية- مبني من جذوع الأشجار بجوار منزل السيد، وبجواره بستان صغير مليء بالفريز والتوت، ومختلف أنواع الثمار والخضار بفضل عمل العم توم وزوجته- طاهية مطبخ السيد. وفيه سرير مغطى بغطاء أبيض من الثلج، وسجاد وسرير آخر؛ أما الحائط، فمزين بصور تحكي مشاهد من الكتاب المقدس، وصورة للجنرال جورج واشنطن مرسومة وملونة على نحو يمكن أن يدهش ذلك البطل، على حد تعبير الرواية.

أما توم، فهو اليد اليمنى للسيد شلبي. قوي البنية، عريض الصدر، مفتول العضلات، أسود اللون، تقاطيع وجهه الأفريقية تدل بصدق عن رصانة وثبات، وحس مرهف يمتزج بطيبة وإحسان، كوصف الرواية.

الفصل الثامن: يتحدث عن تسليم “البضاعة”، وترى الراوية أنه لم يذهب أحد للجنوب وعاد حيًّا، وأنهم يقتلونهم، ويجعلونهم يعملون في الزراعة. الأولاد ينظرون تارة إلى والدهم المباع، وتارة إلى أمهم.

صعد توم إلى العربة، وأخرج هالي القيد ووضعه في رجلَي توم. في السفينة استلطفته طفلة طلبت إلى أبيها التاجر شراءه. تعلقت به الطفلة غاية التعلق، وطلبت من والدها عتقه. وعدها الأب بالعتق، ولكنه قُتل قبل الوفاء بالوعد، فبيع توم لنخاس جشع وقاسٍ. حزن توم على الطفلة إيفا التي أحبته كأب، وأحبها كابنة.

في منزل السيد الجديد “لغري”، تبدأ رحلة العذاب الأقسى، والإهانة والإذلال. رأى بيده الكتاب المقدس، فقال له: متدين؟!

قال: أجل.
قال له: سأنتنزع ذلك. ليس لدي عبد يصلي أو ينشد، ليس لدي من يرحمك. لن تجد في قلبي فسحة رحمة؛ فانتبه!
لغري مداعبًا كلابه، ومخاطبًا توم والعبيد: ربّيتها على اقتفاء أثر الزنوج فانتبهوا، وهي على استعداد أن تجعل أحدكم طعامًا لعشائها.
لديه عبدان: سامبو وكويمبو، درّبهما على الأعمال الوحشية كالكلاب. تضيف الساردة: “والعبد يصبح طاغية إذا أُعطي الفرصة”.

عرف لغري أن توم يد عاملة من الدرجة الأولى، ومع ذلك شعر بكره شديد نحوه؛ لأنه صعب المراس.

قال لسامبو: لقد وعدتك بواحدة- هذه المرأة.
فزعت المرأة: لقد تركت زوجي في نيو أورليانز.
قال سامبو: أنتِ لي الآن.
قالت: لن أكون، يمكنك قتلي كما يحلو لك، والأفضل أن تعجّل بذلك.
بدأ يلعب بسوطه: ماذا تفعلين أيها الغبية لوسي؟ ركلها بحذائه الثقيل، وضرب وجه توم بسوطه، وغرس دبوسًا في رأس لوسي. أنت المرأة، وحاولت النهوض. تقدم توم لمساعدتها، ووضع ما جمعه من قطن في كيسها.
خافت عليه المرأة: لا تفعل سيؤذونك.
قال: أستطيع التحمل.
قال سامبو: إن توم مصدر إزعاج؛ فقد ملأ سلة لوسي. كل واحد من العبيد مطالب بملء سلته من القطن، ولكن توم ساعد لوسي في ملء سلتها، وقامت الأخرى بملء سلته على مرأى من المسؤول.
وزنت سلة توم فكانت مطابقة. تقدمت المرأة. قال لغري: أيتها الدابة الكسول، الوزن ناقص، ووعد بمعاقبتها.
قال لغري: تعال يا توم سأرقّيك، وأجعلك مسؤولًا، وستقوم الليلة بأول مهمة لك؛ خذ هذه البنت واجلدها.
توم: اعذرني سيدي، لا تطلب مني ذلك!
لغري: ستتعلم درسًا مفيدًا لم تعرفه من قبل.
ثم أخذ جلد بقرة، وضرب وجه توم، وانهال عليه باللكمات.

توم: طوع أمرك في أي شيء، ولكن ما تطلبه مني باطل، لن أفعل ذلك أبدًا.
نظر لغري مشدوهًا. ماذا قلت أيها الحيوان الأسود؟! ربما تظن نفسك سيدًا. تعلّم سيدك ما هو صحيح! تعتقد أنه خطأ جلد تلك البنت؟
توم: أعتقد ذلك يا سيدي. إن أردت أن تقتلني فاقتلني.
لغري: لدينا كلب ورع. ألستُ سيدك، دفعت ثمنك، وأمتلكك جسدًا وروحًا؟!
توم: لا، لا، لا، روحي ليست ملكك.
لغري: سامبو وكويمبو، اضربوا هذا الكلب حتى لا يستطيع أن يتعافى بعد شهر.
رقد توم يئن وينزف في مخزن مهجور. الليل رطب، والحشرات كثيرة؛ مما زاد من أوجاعه. ضوء يسطع في وجهه، أعطته إحداهن ماء.

أشكرك سيدتي.
لا تقل سيدتي: إنني أمة مثلك. قامت بتضميد جراحه، أثنت على شجاعته. هؤلاء الذين تضحي من أجلهم سينقلبون ضدك. تساءل: ما الذي يجعلهم قساة؟ لا أريد أن أصبح بلا إحساس.
فقدت زوجتي، وأولادي، وبيتي، وسيدي الطيب الذي وعد بتحريري بعد أسبوع. لا يمكن أن أكون شريرًا. طلب منها أن تقرأ شيئًا من الكتاب المقدس. قرأت كاسي: “يا أبتِ، اغفر لهم؛ فإنهم لا يعلمون”.
أيقظه لغري؛ انهض يا حيوان. وقف توم. لغري: اركع وتوسل إليّ، واعتذر عما فعلته بالأمس.
لم يجبه. لا يمكنني أن أفعل ذلك. لقد فعلت ما اعتقدته صائبًا، وسأفعله مرة أخرى إذا سنحت لي الفرصة.
لغري: هل تحب أن تربط إلى جذع شجرة، وتوقد النار من حولك.
توم: يمكنك أن تجلدني، تجوعني، تحرقني.
لغري: سأجعلك تخضع، ولن ينفعك أحد.
توم: سيأتي من يساعدني.
رد لغري ساخرًا: من؟
توم: الله الجبار. لكمه لكمة أوقعته أرضًا، وتوعده ثم انصرف.
عرضت عليه كاسي الهرب، فرفض، وعندما هددت بقتل لغري نصحها: كلا، كلا، كلا؛ أمرنا الله أن نتبع خطاه، ونحب أعداءنا، ونصحها بأن تهرب هي وإيميلين، رافضًا أن يهرب معهما. هربتا معًا: كاسي، وإيميلين، فانتقل السخط إلى توم. ضُرب ضربًا شديدًا للاعتراف. لم يعترف؛ فضُرب حتى الموت.

أهمية الرواية

بعد أقل من عشرة أعوام من صدور الرواية، اشتعلت الحرب ضد نظام العبودية في الجنوب الأمريكي، وفي زمن قياسي أصبحت الرواية أكثر مبيعًا بعد الكتاب المقدس. وللأمة العربية كلها نصيب وافر من معاملة الاستعمار القديم والحديث على أمتنا كهنود حمر، وبزراية وانتقاص ودونية، كما تعامل الأمريكي الأبيض مع الزنوج الأفارقة، وكان غرس الكيان الإسرائيلي في فلسطين، ذروة العنصرية والتمييز.

الشعب الفلسطيني الآن يعاني ما عاناه الزنجي الأفريقي في الجنوب الأمريكي، أو الأفريقي في وطنه في جنوب أفريقيا، نقلا عن “خيوط”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى