استطلاعات وتحقيقاتالأخبارمحليات

حصة اليمن من النفط ومعه من التغيرات المناخية!

صنعاء – لطف الصراري

سواء في أوقات السلم أو في زمن الحرب الدائرة في البلد منذ سبع سنوات، يتلقى اليمن صفعات التغيرات المناخية وحيداً كأي بلد محدود الخيارات، معدم الإمكانيات، وغير مستقر. ليس هناك ما يكفي من الإحصائيات لخسائر البلد المحشور بين الصحراء والبحر، خسائره جراء الكوارث المناخية التي مرت عليه حتى الآن. ولا تتوفر له إمكانيات الرصد والإنذار المبكر بالكوارث وخطط الإحصاء، وكذلك تغيب الرؤية الاستراتيجية لمواجهة تغيرات المناخ لدى الدولة التي قسمتها الحرب نصفين: شمال تسيطر عليه سلطة لا تكترث للتخطيط المستقبلي ولا تؤمن بالتفسيرات العلمية للظواهر الطبيعية، وتعتبرها ضمن المشيئة الإلهية، وجنوب باتت تسيطر عليه سلطتان رئيسيتان رهنتا مصير اليمن لقوى إقليمية ودولية ولا ترى في البلد أكثر من ميدان صراع، وأرضٍ واعدة للاستثمار متعدد الأوجه. المناخ ليس من بين هذه الأوجه على أية حال، على الرغم من أن اليمن ضمن قائمة من 47 بلداً منخفضة الدخل ومتضررة من السلوك البيئي للدول الصناعية.

يطل اليمن من الغرب على آخر 800 كيلومتر تقريباً من ساحل البحر الأحمر عند أقصى امتداده جنوباً حتى “باب المَنْدَب”، ومن الجنوب يمتد ساحله، باتجاه الشرق، على ما يقارب 1500 كيلومتر عبر خليج عدن وبحر العرب إلى نهاية حدوده مع سلطنة عمان. هذا الامتداد الساحلي الطويل يوازيه امتداد داخلي، حيث البرّ اليمني الذي ينتهي بصحراء المهرة وحضرموت والجوف في الشرق، وبالجبال والوديان الخصيبة عند صعدة وحَجّة في الغرب، وهو شريط برّي يقع بكامله على الحدود مع المملكة العربية السعودية.

من هذا المنظور يمكن رؤية أبرز مصدرين للتغيرات المناخية يقع اليمن تحت تأثيرهما: الأعاصير والعواصف المدارية والاستوائية المتشكلة من جهة بحر العرب والمحيط الهندي، وزحف الصحراء من جهة الربع الخالي. غير أن هذين المصدرين لا يختصران جميع الأضرار المناخية على البلاد… فهناك “التصحر” بمفهومه الأممي الذي صار متداولاً في الحيز العلمي منذ مؤتمر نيروبي 1977، بدلاً من “زحف الصحراء”، وهناك تدهور وتملّح الأراضي الصالحة للزراعة، شحة المياه، التلوث البيئي، اختلال مواسم ومعدلات هطول الأمطار، ارتفاع درجة الحرارة وعدم استقرارها… وغيرها.

التصحر
على الرغم من دمج مصطلحي “زحف الصحراء” و”التصحر” في كلمة واحدة، إلا أن الفرق بينهما يظل كالفرق بين وجهي العملة. أدى اعتماد اليمنيين على الخشب كوقود تقليدي لطهي الطعام والتدفئة وتشييد سقوف المنازل، إلى بروز ظاهرة “التحطيب الجائر” التي لم تفلح الحكومات المتعاقبة في الحد منها. ومع تنامي عدد السكان منذ منتصف ستينات القرن العشرين الماضي، وانفتاحهم على وسائل الحياة الحديثة، ومنها غاز الطبخ، واستخدام الأسمنت والحصباء والرمل في البناء، تنفست الأرض لبعض الوقت من التجريف الجائر لغطائها الأخضر. غير أنها عادت للاختناق أضعاف ما كانت عليه مع تكرار أزمات الغاز المنزلي وارتفاع أسعاره، ناهيك عن ارتفاع أسعار مواد البناء الحديث مقابل تدنّي معدل دخل الفرد وتدهور القيمة الشرائية للعملة الوطنية باستمرار. وصلت أزمة الوقود ذروتها على إثر نشوب الحرب في البلاد وتوسع رقعتها واستطالة أمدها إلى اليوم، ولم يكن أمام المواطنين سوى اللجوء لقطع الأشجار بدون تفريق بين أعمارها وأنواعها [1].

بحسب “الاستراتيجية الوطنية للتنوع الحيوي- 2004″، تشكل الغابات والمراعي ما يقارب 40 في المئة من الأراضي اليمنية، وتشكل الصحاري القارية والساحلية معظم الأراضي على مساحة 57 في المئة.

خلال سبع سنوات من الحرب وأزمة الوقود المتفاقمة، طال الاحتطاب المساحات الخضراء، ووصل معدل قطع الأشجار في العام 2021، إلى 60 ألف شجرة يومياً، أي بإجمالي يقارب 22 مليون شجرة سنوياً. هذه الكميات المهولة من الحطب تستهلكها الأفران والمخابز ومطابخ العائلات العاجزة عن الحصول على غاز الطبخ في عموم البلاد [2]. علاوة على ذلك، هناك مظاهر أخرى لتعرية الأرض من كسائها الأخضر، كالتوسع العمراني، في المدن وأريافها، والذي غالباً ما يتسم بالعشوائية، واستصلاح أراضي جديدة لزراعة القات على حساب زراعة المحاصيل الغذائية والنقدية. عند هذه النقطة تحديداً، نشير الى ارتباط زراعة القات بالاستهلاك الجائر للمياه التي غالباً ما تُنتزع من الآبار على فترات تتراوح بين أسبوع إلى عشرة أيام لكل دورة ريّ. كما ترتبط زراعة القات بشيوع استخدام مبيدات حشرية فتاكة تقضي على التوازن البيئي بالضرورة، وتؤثر على صحة الإنسان والحيوان معاً، ومنها أنواع يصل قطر فعاليتها السُّمّية عشرات الأمتار في محيط المزرعة.

زحف الصحراء: قصة قناة مائية وأخرى للفساد
في آب/ أغسطس 2013، زرت مأرب في مهمة صحافية لاستطلاع العلاقة بين تعثر المشاريع التنموية، والاعتداء على أنبوب النفط وخطوط الطاقة في مديرية “الوادي” أو “مديرية مأرب” حسب التسمية الرسمية. مساحة هذه المديرية توازي نصف مساحة المديريات الـ12 التي تشكل إجمالي مساحة المحافظة (17405 كم مربع). حينها كان عدد سكان المديرية الصحراوية قرابة 50 ألف نسمة، وهذا رقم تقديري بناءً على تعداد العام 2004، ونسبة النمو السكاني المقدرة بثلاثة في المئة. بالمقياس نفسه، كان يفترض أن يزيد عدد سكان محافظة مأرب إجمالاً من 238.522 نسمة في 2004، إلى 360.174 نسمة في 2021.

غير أن الحرب جعلت من مأرب قبلة للنازحين من جميع المحافظات التي اندلع القتال فيها، حتى وصل تعداد السكان فيها حالياً قرابة ثلاثة ملايين نسمة، معظمهم يتركزون في عاصمة المحافظة ومحيطها. ومنذ اشتد تصعيد الحوثيين (“جماعة أنصار الله”) لهجومهم على المحافظة الغنية بالنفط، تضاعفت مشقة الحياة وخطورة المعارك على السكان، في الوقت الذي استقبلت فيه المدينة قرابة 54 ألف نازح جديد من المديريات الريفية ذات التضاريس الجبلية.

تمتد مديرية “الوادي” من نهاية الحدود الإدارية لمدينة مأرب، وتحاذي الحدود الإدارية لمحافظات الجوف، شبوة وحضرموت، فيما يتركز سكانها في الجزء الغربي من المساحة التي تلتهمها الرمال.

أكثر الخدمات التي شكا السكان هناك من غيابها تمثّلت بالتعليم، الصحة، وحماية أراضيهم من التصحر. تحدثوا أيضاً، بمرارة، عن حرمانهم وأبنائهم من أولوية التأهيل والتوظيف في المشاريع والمنشآت النفطية التي أقيمت على أراضيهم منذ منتصف ثمانينات القرن العشرين الماضي. كان بينهم رجل جليل الهيئة وقليل الكلام اسمه أحمد بن سَمْرة. تحدث الآخرون أكثر منه عن إسهامه في تنمية الصحراء لدرجة تضحيته برأسماله التجاري الضخم من أجل استصلاح أراضي زراعية وتمويل قناة خرسانية بطول ستة كيلومترات، من سد مأرب إلى حوض ترابي تكفل هو بحفره أيضاً بقطر 40 متراً وعمق 35 متراً. فعل ذلك بموجب اتفاق شفاهي مع مدير هيئة حكومية لتطوير أراضي المناطق الشرقية، على أن تُصرف له ميزانية المشروع، التي تأخر صرفها بسبب البيروقراطية المركزية للحكومة، إلى العام التالي. غير أن ما حدث لاحقاً لـ”التاجر” الذي قرر التحول إلى مزارع، كان صادماً ومحبطاً، إذ قضى الأعوام السبعة عشرة التالية في متابعة الحكومة لاستعادة أمواله التي أنفقها على شق القناة بإشراف مهندسين تابعين للهيئة ووفق مستندات رسمية بمبلغ إجمالي وصل الى مليون دولار.

مثلما تعدت إسهامات بن سمرة نطاق مزارعه إلى دعم مزارعين آخرين في منطقته، لم تتوقف خسائره عند تحويل الحكومة لأمواله إلى دين معدوم. فإضافة لنفقات المتابعة خلال تلك السنوات، أوقفت إدارة السد ضخ المياه إلى المزارع المستفيدة من القناة، ومنها مزارعه التي استصلحها في قلب الصحراء، حالِماً باستعادة الخضرة المفقودة لأرض أسلافه. وبسبب الجفاف والزحف المتسارع للرمال وتوقّف هيئة التطوير عن تزويد المزارعين بأشجار السرو لتحويط مزارعهم، تفاقمت الخسارة بفقدانه خمس مزارع برتقال جراء الجفاف والتصحر، واضطرته الرمال لبناء منزل جديد بعد أن اقتحمت سور منزله.

تعريج في الحيز الصحراوي نفسه
قبل أن تأخذ الحرب الدائرة إلى اليوم منعطفها الأكبر في آذار/مارس 2015، اعتاد بعض أصحاب المظالم والمطالب الخدمية في مأرب، الضغط على الحكومة المركزية عن طريق تفجير أنبوب النفط أو استهداف أبراج الكهرباء المنتَجة من محطة غازية بقدرة 400 ميغاوات، تزود العاصمة صنعاء ومحافظات أخرى بالطاقة. ومن أعاجيب سياسة تنمية تلك المناطق حينها أن بيوتها لم تعرف الكهرباء إلا في العام 2011، وعلى الرغم من ذلك لم تُربط من المحطة الغازية بل من مولدات شركة “صافِر” التي حلّت بدلاً من شركة “هنت” الأمريكية في تنقيب واستخراج النفط. أما مدينة مأرب، فكان يتم توفير جزء من احتياجها عبر خط مستقل من المحطة الغازية، وتغطية النسبة الأكبر عبر شراء الطاقة من متعهدين تجاريين، وهو النظام الذي ساد بعد العام 2011 على جميع المدن، مع فارق أن الحكومة لم تعد تدفع قيمة وقود الديزل للمتعهدين.

لا تزال الطاقة المشتراة من متعهدين نظاماً سارياً إلى اليوم، خاصة في مناطق سيطرة سلطة صنعاء، وكلفة الوقود الباهظة التي كانت تتحملها الحكومة صار يدفعها المواطنون الراغبون بإضاءة منازلهم. أما المحطة الغازية التي كان يجري تجهيز المرحلة الثانية من تطويرها إلى 800 ميغاوات، فلم تتعافَ من تأثير الاعتداءات المتكررة على خط امتدادها إلى العاصمة. ومثلما اعتاد المتجاسرين على أسلاك الكهرباء والأبراج التي تحملها، اعتادت الحكومة حينها الإصغاء لأصوات التفجيرات بدل النظر في مطالب ومظالم السكان: كانت تخضع لمطالب المعتدين، وتصرف أموالاً طائلة من خزينة الدولة، عبر وسطاء حكوميين ومحليين، من أجل السماح للفرق الفنية بإصلاح الأعطال. ومع نجاح كل عملية ضغط مماثلة، تحول الاعتداء على خطوط نقل الطاقة وأنبوب النفط إلى قناة فساد تبدأ من البنك المركزي وتنتهي بأقل من ربع المبلغ في أيدي المعتدين، سواءً كانوا أصحاب مظالم أو مدفوعين من قبل نافذين للحصول على المال. وعلى عكس قناة بن سمرة التي التهمت أمواله بلا تعويض وآلت إلى الجفاف، انتعشت قناة الفساد تلك، مخلّفة أعطالاً كبرى في محطة توليد الطاقة، وتلوثاً بيئياً جراء النفط الخام المتسرب إلى التربة وألسنة اللهب التي كانت تطال المزارع القريبة من مواقع تفجيرات الأنبوب.

وفقاً لهذه المعطيات، يمكن ملاحظة نوعين من علاقة الإنسان بالأرض: انتهازية بالنسبة للحكومة وشركات التنقيب عن النفط، ولامبالاة عدائية بالنسبة للسكان المحرومين من عائدات الثروة المستخرجة من أرضهم. وما يثير التعجّب والإعجاب معاً في قصة أحمد بن سمرة وتلك القناة المائية التي ربما تكون رمال الصحراء أكملت دفنها خلال الثماني سنوات الماضية، أن أنبوب النفط لم يتعرض لأي اعتداء في أرضه. عندما سألته إذا ما كان فكر يوماً باستخدام وسيلة الضغط التي اعتادت الحكومة على الاستجابة لها، أجاب دون تلكؤ: مستحيل. الأنبوب والكهرباء ملك الناس وليس ملك الحكومة. بدا من حديثه أن الأعوام السبعة عشرة التي قضاها في متابعة استرداد نقوده، بددت غبنه من انتصار الفساد الحكومي عليه، وصار منشغلاً بمواجهة الخصم الذي لا ينام: زحف الصحراء.

تكمن هنا أيضاً مفارقة بين سلوكين متناقضين تجاه الأرض والإنسان: الأول ينطلق من رؤية حكومية قائمة على الفساد وإنفاق جزء من عائدات النفط لامتصاص ما يتصاعد من غضب سكان المحافظة الغنية، ليس بإنشاء مشاريع تنموية، بل في صورة ترضيات نقدية يستحوذ على أكثر من نصفها الوسطاء. أما الثاني فيمثله مواطن أطلق العنان لحلم كبير بتحويل الصحراء إلى سلة غذاء وبساط أخضر، دون أن يدخر مالاً ولا جهداً، ودون أن يبحث عن منظمة دولية تموّل مشروعه الكبير [3]. ومع توقف مشروع المصدّات النباتية للرياح، على الرغم من المطالبة باستمراره، ساد اعتقاد لدى سكان صحراء مأرب، بأن الدولة – حينها – تعمدت إهمال المشروع لكي تجبرهم على إخلاء الأرض من أجل توسيع رقعة الاستكشاف والتنقيب عن النفط.

هكذا وجدت الصحراء في الهوس بالوقود الأحفوري، وطول فترات الجفاف وشحة الأمطار، وغياب الرؤية المستقبلية، عوامل مساعدة على تكوين اسمها كأكبر صحراء متصلة على وجه الأرض. ولا يقتصر تمددها على مأرب فحسب، بل على الجوف، حضرموت، المهرة، الحديدة، وإلى حد ما، صعدة وحجة، وفي محيط عدن حيث “لَحْج الخضيرة” التي طالما ورد وصفها بهذه الصيغة في قصائد الشعراء الغنائيين.

هذه الأراضي، إضافة لمزارع “الأحواض الجبلية” ووديان السهول [4]، كانت سرّ الوفرة الغذائية التي فقدها اليمنيون واحتفظت بها الذاكرة وكتب التاريخ وآثار نظم الري في اليمن القديم، الذي يأتي سد مأرب كأبرز شواهد عظمته الغاربة. لوث النفط الأرض والهواء، ولم ينل اليمنيون حظهم من الثراء النفطي كما في دول الجوار الخليجي، وفي الوقت نفسه، فقدوا أرضهم الخضراء وعلاقتهم الحميمة بها بسبب أنظمة الحكم المستبدة وأطماع الغزاة، وفي أخفّ الأحوال، سوء الإدارة.

عبر العصور، طمرت رمال الصحراء أخصب أودية اليمن القديم والحديث، أما اليمن المعاصر، وطبقاً للمصطلح الأممي المدمج، فبلغت نسبة “التصحر” فيه عام 2014، بين 90-95 في المئة من إجمالي مساحة البلاد. وهذه المساحة المتصحرة “مقسمة بين أراض رملية صحراوية وساحلية وقارية وجبال وأراض سكنية وطرق” [5].

تلوث البيئة – عرض موجز
في فقرتها السادسة، تُلزم المادة الرابعة من قانون حماية البيئة (1995)، سلطات الدولة المعنية بإعداد خطط التنمية الاقتصادية بـ”جعل التخطيط البيئي جزءاً أساسياً من التخطيط الشامل للتنمية في جميع المجالات الصناعية والزراعية والعمرانية والسياحية وغيرها، لتجنب الآثار البيئية السلبية في المستقبل”. ومع أن القانون الذي يتكون من 95 مادة وعشرات الفقرات، يشترط “التقييم البيئي” لكافة الأنشطة الاقتصادية والاستثمارية في البر والبحر والجو، إلا أنه في مضمونه العام – وهذا طبيعي في عالم الهوس بالنفط والصناعات القائمة عليه – يُبدي مرونة إزاء التلوث إذا ما حدث كأمر واقع، بشرط التعويض المالي المناسب عن الضرر البيئي. ولأن اليمن من البلدان غير الصناعية، فإن قوانينه ومعاييره للسلامة البيئية تتوافق بالضرورة مع الخطط والحلول البيئية التي تقترحها الدول الصناعية الكبرى.

دأبت الدول الصناعية الكبرى على تصدير أفكارها وسلوكها الاستثماري إلى الدول النامية ذات الموارد الطبيعية القابلة للاستثمارات الضخمة، خاصة في ما يتعلق باستكشاف وإنتاج النفط والغاز والمعادن. كما حرصت على تحويل الكثير من الدول ذات الاقتصاد الزراعي والصناعات التقليدية، إلى الصناعة التحويلية المعالجة كيميائياً، وهي الصناعة التي أنتجت أسوأ المواد الملوثة للبيئة، وليس البلاستيك سوى النموذج الأكثر انكشافاً منها. فعلت ذلك عبر الاتفاقيات المباشرة مع حكومات البلدان المصنفة تارة كـ”دول نامية” وأخرى كـ”عالم ثالث” وما إلى ذلك من الصفات التي تحرص على إظهار الفارق بين إنسان متحضّر وآخر بدائي. ولإضفاء الطابع القانوني والإنساني على سياساتها المصممة بطريقة رياضية مذهلة، استخدمت هيئات الأمم المتحدة، على تعاقب مسؤوليها، ومنظمات دولية أنشئت أو استُقطبت لأغراض الاستحواذ على موارد الكوكب والسيطرة على سكانه “الأقل نمواً” وقوة. لحسن الحظ وسوئه معاً، أن طبيعة كوكبنا تنطوي على منطق رياضي أكثر تعقيداً من أدمغة علماء الذرة وراسمي السياسات، وعلى قدرة دفاعية هائلة يطلقها في هيئة إنذارات متدرجة قبل حلول الوضع الكارثي.

بعد أقل من 250 سنة على احتفاء بريطانيا العظمى بـ”الثورة الصناعية”، تحتضن غلاسكو مؤتمر المناخ (COP26- 31/10-12/11/2021) للدول التي انساقت لهوس التصنيع وفخّخت الأرض والبحار بالأنشطة الاقتصادية والنفايات المدمرة للحياة، دون أن تراعي حتى مصالح شعوبها. وبعد خضة جائحة كورونا، سمع العالم، لأول مرة، زعيم بريطاني وأمريكي يفصحان عن قلقهما من “تحذيرات العلماء” بشأن مستقبل كوكب الأرض. لا بد أنها أيضاً المرة الأولى التي يصغي فيها “العلماء” لإنذارات الكوكب أو أنها المرة الأولى التي يصغي فيها القادة لتحذيرات العلماء بدلاً من توجيه الأوامر لهم بتجاهلها. ومع ذلك، تجاهلت الصين وروسيا وتركيا، قلق بوريس جونسون وجو بايدن، وندءات أنطونيو غوتيريش لـ”توحيد العالم” من أجل مواجهة خطر بات يقتحم الحدود السياسية لكل دولة بلا استثناء.

في تعليق لوزير المياه والبيئة الأسبق في حكومة الوفاق اليمنية (2012-2014)، عبدالسلام رَزَّاز، نوّه لإخفاق الاجتماعات السنوية لقادة العالم بشأن التغيرات المناخية، في اتخاذ “أي خطوة باتجاه فرض الحلول المطلوبة”. من وجهة نظره، يرجع سبب هذا الإخفاق لمخاوف الدول الصناعية من الخسائر الاقتصادية الكبيرة في حال التزمت بمعايير الاقتصاد الأخضر، ولأنها ما زالت تستخدم التكنولوجيا نفسها المضرة بالبيئة والمناخ، وتكتفي بتحركها إزاء مخاطر التغير المناخي في إطار الأمم المتحدة، ومؤسسة (جي آي زد) بالنسبة لألمانيا. هذا التحرك بحسب رزّاز، يوجّه عادةً لدعم أنشطة تستهدف البلدان غير الصناعية (“مثل اليمن وغيرها”)، لإلزامها بعدم التعامل مع التكنولوجيا الصناعية المضرة بالبيئة، وهو ما يعتقد بأنه نوع من “معالجات انتقائية تعيق الحركة التنموية في البلدان النامية لصالح الدول الكبرى”.

خلال السنوات الثلاث التي تولى فيها رزّاز وزارة المياه والبيئة، أعد فريق وزارته استراتيجية لقطاع البيئة، بالتعاون مع البنك الدولي والأمم المتحدة ومؤسسة (GIZ)، حُدّد مداها من 2012-2025، وركزت على “التزام القطاع العام والخاص والمختلط بالمعايير البيئية عند قيام أي نشاط اقتصادي أو تنموي ضمن جغرافية اليمن”. غير أن انزلاق اليمن إلى مستنقع الحرب قضى على كل فُرص التنمية، ودفع برجال الدولة من مختلف التيارات السياسية إما للمشاركة في الصراع، أو الهجرة، أو النأي بالنفس عن المشاركة في خراب البلاد.

شرق أوسط أخضر، يمن مشتعل
في مؤتمر القمة الذي عقدته المملكة العربية السعودية في 24-25 تشرين الأول / أكتوبر 2021، مثّل البلاد المشتعلة بالحرب منذ سبع سنوات، الجنرال علي محسن صالح، نائب رئيس الجمهورية. عندما حان دوره لإلقاء كلمته، بدأها وختمها بشكر وثناء طويلين للملك وولي عهده، وفي متنها أشاد مبتهجاً بمبادرتي “الشرق الأوسط الأخضر” و”السعودية الخضراء” كما لو أنها بلده الأول. عبّر عن دعم اليمن المطلق للمبادرتين ولشراكة دول المنطقة فيها، وركّز خطابه على جماعة الحوثيين التي “التهمت الأخضر واليابس” دون أن يشير، ولو تلميحاً، إلى أن الوقت حان لتراجع السعودية والإمارات سياستيهما تجاه اليمن بعد ست سنوات من تدخلهما العسكري الذي زاد البلاد دماراً. لم يذكر رقماً إحصائياً عدا “3 ملايين نازح” في محافظة مأرب، و”مليون و200 ألف برميل نفط” في سفينة عائمة بالحديدة تهدد بتلويث “بيئة البحر الأحمر وخط الملاحة الدولي”. في الواقع، هذان الرقمان سبق للصحافة اليمنية أن كررتهما مراراً في تغطياتها لهجوم الحوثيين (“أنصار الله”) على محافظة مأرب، ومنْعهم فرق الصيانة الأممية من تفريغ ناقلة النفط المتهالكة “صافِر” من حمولتها التي يتجاوز خطرها المدى الذي حدده نائب رئيس الجمهورية المهدورة [6].

بالمناسبة، اكتسب هذا الخزان النفطي العائم اسمه من اسم شركة “صافر” التي أنشئت في 2005، لتحل محل “هنت” الأمريكية بعد 20 سنة من تعاقد الحكومة اليمنية معها لاستكشاف وإنتاج النفط. والأنبوب الذي كان عرضة لاعتداءات بعض سكان صحراء مأرب، هو نفسه الممتد من هناك إلى ميناء التصدير في “رأس عيسى” على ساحل الحُديدة. وعندما كنت أستمع لشكاوى أولئك المواطنين الغاضبين على الحكومة، أفادوا بأن اللواء علي محسن صالح هو صاحب النفوذ الأقوى على إدارة الشركة. وقد أضافت شركة “صافر” إلى نشاطها استخراج الغاز المختلط بالنفط، والذي كانت “هنت” تحرقه في الهواء على مدى 20 سنة! وفي 2004، أنشأت الحكومة “الشركة اليمنية للغاز الطبيعي المسال” ومدّت أنبوباً بطول 322 كلم، من حقول الاستخراج في مأرب إلى ميناء “بَلْحَاف” بمحافظة شبوة على بحر العرب.

وهو ميناء نفطي أنشأته شركة سوفييتية في آخر ثلاث سنوات من حقبة الحكم الاشتراكي لجنوب اليمن (1967-1990)، وطورته شركة “توتال” بمعامل لمعالجة الغاز وتصديره بكلفة تجاوزت أربعة مليارات دولار. كانت حصة الشركة الفرنسية في هذا المشروع العملاق 40 في المئة، إضافة لمنصب رئيس مجلس الإدارة. وتزامنت زيارة الرئيس السابق علي عبد الله صالح لافتتاح المرحلة الأولى من المشروع، مطلع تشرين الثاني / نوفمبر 2008، مع نكبة السيول والفيضانات التي ضربت محافظة حضرموت.

نتجت تلك الفيضانات عن هطول أمطار شديدة الغزارة على حضرموت والمهرة، تحت تأثير عاصفة مدارية قدمت من بحر العرب، وامتد تأثيرها إلى محافظتي تعز ولحج، جنوب ووسط البلاد. كان ذلك ثاني إعصار استوائي يضرب السواحل الشرقية لليمن، وأعلنت وكالة الأنباء الحكومية “سبأ” حينها أن تلك الفيضانات أودت بحياة 86 شخصاً ودمرت 4152 منشأة معظمها منازل مواطنين.

وعلى عكس حصة الفساد الكبير من عائدات النفط والغاز، لم تكن تلك الفيضانات الأخيرة في حصة الأرض والمواطنين من التغيرات المناخية. فخلال الفترة (2015- 2018) تعرضت جزيرة سقطرى، حضرموت والمهرة، لثلاثة أعاصير استوائية: “تشابالا”، “ميج”، “مكونو”، حصدت أرواح عشرات المواطنين وشردت عشرات الآلاف، ناهيك عن سيول العام 2020، التي اجتاحت معظم مناطق اليمن، وسيول 2021، التي تأثرت بها المناطق الساحلية والوسطى.

الوضع المناخي الراهن
بحسب المختص بأحوال الطقس والمناخ، جميل الحاج، يتمثل الوضع المناخي القائم في اليمن بارتفاع درجات الحرارة صيفاً “أعلى من المعدلات الطبيعية، وتذبذب هطول الأمطار وتطرّفها”. ففي الوقت الذي تعاني فيه بعض المناطق من الجفاف، تهطل الأمطار في مناطق أخرى بغزارة “فوق المعدلات الطبيعية”. “عدم انتظام هطول الأمطار، يؤثر على الزراعة الموسمية”، أضاف.

إلى ذلك، يرى الحاج أن الاحتباس الحراري، “وارتفاع درجات الاحترار السطحي في المسطحات المائية في البحر العربي والمحيط الهندي، وتزايد حركة الموجات المدارية في السنوات الأخيرة، تسببت بنشاطات مدارية قوية، وتدفّق موجات أمطار غزيرة على اليمن”. تزايد نشاط الأعاصير والعواصف المدارية والاستوائية في بحر العرب والمحيط الهندي، تؤثر على اليمن، خاصة محافظة سقطرى، والمحافظات الشرقية، ويحدث أن يتعمق تأثيرها إلى وسط البلاد. ومثلما تسبب هذه الأعاصير والعواصف المدارية تطرّفاً في هطول الأمطار، يؤدي هذا الأخير لجفاف شديد في بعض المناطق، ويمكن أن يمتد أحياناً لفترات طويلة، وهو ما يتسبب بتصحر كثير من الأراضي الزراعية وشحّة المياه. والحال أن هذا الوضع المناخي غير المستقر، يفاقم أزمة الحياة في اليمن بكل مظاهرها، خاصة مع استمرار الحرب التي تقتحم أي حديث أو كتابة عن البلد الذي فقد سعادته منذ الانهيار الأول لسدّ مأرب.

*السفير العربي

[1] https://www.khuyut.com/blog/06-08-2020-08-45-pm

[2] مقابلة تلفزيونية لمدير الغابات والمراعي، عبده محمد مدَار، على قناة “الهوية” 30 حزيران/ يونيو 2021.

[3] صادقت الحكومة اليمنية على “اتفاقية مكافحة التصحر” في 1996، وهي طرف في ثمان اتفاقيات مناخية وبيئية آخرها “اتفاقية ميناماتا لحظر استخدام الزئبق”، وقعها وزير المياه والبيئة الأسبق عبدالسلام رزاز في كوماموتو باليابان، آذار/مارس 2014، والذي تحدث للكاتب في هذا المقال معلقاً على الاجتماعات السنوية لقادة العالم لمناقشة قضية المناخ.

[4] للاطلاع على تقسيم تضاريس اليمن: https://bit.ly/3yiusva
[5] تصريح نائب مدير الإدارة العامة للغابات والتصحر بوزارة الزراعة، المهندس عبده محمد مدار، لصحيفة الثورة الحكومية، وفي التصريح نفسه، أشار المسؤول الحكومي صراحة إلى عدم اهتمام الدولة بمشكلة التصحّر.

[6] https://news.un.org/ar/story/2021/07/1080252

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى