في العام 2004، وقبل قليل من إتمام عملية تبادل الأسرى والجثامين بين حزب الله و”إسرائيل”، أطلقت الأخيرة حملة لمنع بثّ تلفزيون “المنار” في الغرب.
أوّل من كشف الأمر كان الإذاعة الإسرائيلية، التي قالت إن الحكومة الإسرائيلية تدخَّلت لدى عدد من الحكومات الأوروبية لمنع بثّ تلفزيون “المنار” قبل تنفيذ عملية التبادل. تلت ذلك زيارات لرئيس “دولة” الكيان، موشيه كاتساف، إلى أوروبا، ركّزت على فرنسا وألمانيا، حيث نشرت جريدة “لوموند”، نقلاً عن “معاريف”، في 18 شباط/فبراير 2004، أن كاتساف بحث خلال زيارته إلى فرنسا أمر “المنار” مع جاك شيراك، وأنَّ فرنسا أعطته وعداً بذلك، في إطار الصراع الذي تخوضه على أراضيها ضد التعصّب واللاسامية.
وأضافت الصّحيفة: “إنّ الأمر لم يقتصر على المنار، بل طلب كاتساف من جاك شيراك إعلان الحزب منظمة إرهابية، وهذا ما تتردّد أوروبا في الإقدام عليه، إذ تحجّج شيراك بأن إسرائيل نفسها دخلت في مفاوضات مع الحزب، فردّ كاتساف بأن ذلك اقتصر على عملية تبادل أسرى وجثامين”.
ترافق ذلك مع حملة مكثفة في الموقع الإلكتروني للطلبة اليهود في فرنسا (CSA)، وفي عدة صحف أوروبية. وكان الموقع يعيد نشر ما تنشره، من مثل مقالات سيرج ديمون في صحيفة “لوسوار” البلجيكية.
في 30 نيسان/أبريل من العام نفسه، وخلال زيارته إلى ألمانيا، صرّح كاتساف لصحيفة “فرنكفورتن الجيماين زيتوتنغ”: “العرب هم سبب اللاسامية. إنهم يستفيدون من الحرية والعولمة وتكنولوجيا الاتصالات ليحقّقوا هدفهم: تدمير إسرائيل، وخصوصاً وسائل إعلامهم المتطرفة التي تنشر عبر الإنترنت والفضائيات كتباً لاسامية، وعلى الدول الغربية أن توقف بثّ هذه الفضائيات في أوروبا”.
وكان من اللافت أنّ العام 2004 حفل بموجة من العمليات اللاسامية في أوروبا، وخصوصاً فرنسا. ورغم أن التحقيقات كانت تثبت في كلّ مرة تلفيق العملية وكذبها، وتورّط اليهود أنفسهم فيها، فإن دومينيك ستروس كان يردّ على سؤال للقناة الثانية حول ذلك بقوله: “أياً تكن النتائج، فإن العمليات تركت تأثيراتها الأولية، وانتهى الأمر” (كأنه يؤكد نظرية الطلقة في الإعلام).
(وإذا كنت قد حرصت على اختصار هذه المرحلة المهمة التي ناقشت جانبها الإعلامي بتوسع في كتابي “الفضائيات الإخبارية العربية – جيوبوليتيك وخطاب”، كما واكبت تلك الأحداث المنعوتة باللاسامية في عدد من المقالات، حيث عشتها عن قرب في باريس، وكان أحدها في الشارع الذي أسكنه، إضافة إلى أنني كنت عضواً في لجنة دعم “المنار” في العاصمة الفرنسية، وتابعت المحاكمات، فإنما لأقارن بين الظرف السياسي الذي أحاط بتلك الحملة والظرف الذي يحيط بعملية منع الحزب في ألمانيا اليوم، وما يمكن أن يليه على الصعيد الأوروبي والدولي).
يومها، كانت الولايات المتحدة خارجة للتو من حرب احتلالها العراق، وكانت الحكومتان الألمانية والفرنسية قد عارضتا بشدة تلك الحرب، عملاً باعتبارات كثيرة، أهمها التوجه الاستقلالي الأوروبي لشيراك وشرويدر. وعليه، كان المزاج الفرنسي معادياً لإدارة جورج بوش، بحيث خرجت في وجه زيارته الأولى إلى العاصمة الفرنسية تظاهرة نادراً ما شهدت باريس ضخامتها وعداءها في وجه رئيس دولة.
وبفعل الترابط التلقائي في الوجدان الشعبي بين الولايات المتحدة و”إسرائيل”، انعكس هذا العداء نسبياً على “دولة” الكيان، ما كان يتطلّب حملة من العمليات التي تنبش ذاكرة اللاسامية واليهودي المضطهد وعقدة الذنب لدى أكثر بلدين في العالم يحملان هذه العقدة من هتلر إلى فيشي.
من جهة أخرى، كانت أمام حكومة “إسرائيل” فرصة سانحة لتجيير الانتصار الأميركي إلى مكسب مصيري لـ”دولة” الاحتلال، وخصوصاً ونحن على أبواب مدريد. هذا ما عدا مسألة تفصيلية تتعلّق بتأثير “المنار” في الجاليات العربية في المهجر، وهي في العمق تتجاوز الذراع الإعلامية إلى الحزب نفسه، الذي لم تكن صفعة تحريره للجنوب قبل 4 سنوات قد بردت بعد، وخصوصاً أن واشنطن، ومن ورائها اللوبي المؤيد لـ”إسرائيل”، كانت تنوي استكمال مشروع الشرق الأوسط الجديد من دمشق وبيروت.
ما حصل بعدها كان إسقاط شرويدر عبر دعم ميركل، وتركيع شيراك، وصولاً إلى ساركوزي الأطلسي، وفكّ محور موسكو – برلين – باريس.
أما في المشرق، فقد قامت بسرعة المقاومة العراقية، وفشل تركيع دمشق، فكانت الـ2005، ثم حرب تموز على المقاومة في لبنان، التي آلت إلى الفشل أيضاً، وهو ما حاول الديموقراطيون الالتفاف عليه بالاستيعاب عبر الاتفاق النووي، وزعزعة الاستقرار عبر الربيع العربي، ومشروع الإسلام الإخواني والتدمير الذاتي عبر الحرب السورية. أسلوب رفضته إدارة ترامب في شقه الإيراني، وطورت أسلوب التعامل معه في الساحات الأخرى، بما يتسم إجمالاً بالتحدي؛ تحدّ لا بد لها من أن تشهره في وجه إيران، وفي وجه جميع حلفائها وامتدادات ما يعرف بمحور المقاومة؛ محور ليس ثمة متضرر من بقائه كـ”الدولة” العبرية، ولا سيما في شقه المباشر على الحدود الشمالية والشرقية، وخصوصاً في ما لو تعافت سوريا.
هنا يبرز التوقيت، فالخطورة تكمن في تاريخين: تشرين الأول/أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر. الأول موعد انتهاء قرار العقوبات المتعلّقة بالأسلحة التقليدية على إيران، والآخر موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية. أما بالنسبة إلى ألمانيا، فهو التاريخ الممتد بين نتائج الانتخابات البرلمانية وانتخابات المستشارية لخلافة ميركل.
لذلك، فإن الولايات المتحدة مصرّة على تجديد قرار العقوبات. وقد تقدم مشروعاً جديداً إلى مجلس الأمن خلال شهر أيار/مايو الجاري يطرح تجديد العقوبات، وذلك ما استبقه بومبيو يوم 19 نيسان/أبريل المنصرم، بتصريح قال فيه: “إذا لم نتوصّل إلى جعل الآخرين يتصرفون، فستقوم الولايات المتحدة باتخاذ كل الخيارات للتوصل إلى ذلك”.
هنا، تتضارب من جديد المصالح بين أوروبا والولايات المتحدة، فيما يعود صوت الاستقلالية الأوروبية ليبرز من ألمانيا وفرنسا (والمفارقة أن ميركل دعمت أميركياً لتكون ضد الاستقلالية)، ففي حين تحاول ألمانيا وفرنسا وبريطانيا تجديد عمل خطة العمل الشاملة المشتركة (CP0A) التي تحاول إنقاذ الاتفاق النووي مع إيران، فإن واشنطن تسعى بكل جهدها إلى منع ذلك.
إضافةً إلى مسألة ثالثة تتعلق بالجدل الدائر حول القرار 2231، المتعلق بالحظر على الأملاك والتكنولوجيات المتعلقة بالأسلحة الباليستية، والذي يستمر حتى العام 2023، إذ إنه صدر بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي في العام 2018، لكن البيان الذي تبع القرار ذكر الولايات المتحدة كأحد الموقعين عليه.
أكثر من تحدّ تحتاج واشنطن إلى وضع أوروبا وراءها فيه، وخصوصاً في عز مواجهتها مع الصين ومع مخلّفات كورونا. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أننا نعيش حروب الجيل الخامس التي توصي بالحروب الهجينة بدلاً من الحرب العسكرية التقليدية، أي الحرب التي تعتمد خليطاً من الوسائل (اقتصادية – أمنية – تكنولوجية – دبلوماسية – إعلامية – داخلية – بالوكالة)، فإننا نشهد نشاط شبكة هذا النوع من الحروب، بالتزامن القائم بين هذا الإعلان واشتداد الضغط السياسي- الاقتصادي على لبنان، ومع تواتر الاعتداءات الجوية على سوريا، وتفعيل الحصار الاقتصادي، وإثارة بلبلة داخلية أمنية واقتصادية وإعلامية، وتكثيف التحركات التركية… ومع تحريك الاحتياطي الداعشي في العراق، من دون أن يقتصر الدور الإسرائيلي على الغارات، بل يتعداه إلى مجالات كثيرة، أهمها تحريك اللوبيات اليهودية الأوروبية، بدءاً من البلدين الكبيرين والجاهزين لإثارة عقدة الذنب.
وإذا كانت أفضل فرصة لفعالية هذا اللوبي هي فترة الانتخابات، فإن ألمانيا تعيش بين الانتخابات البرلمانية وانتخابات المستشارية، حيث كشفت الأولى تراجعاً كبيراً لحزب ميركل لصالح أحزاب البديل اليميني، ما جعل الكثيرين – ومن بينهم وزير الداخلية والمرشح السابق لقيادة الحزب المسيحي الديموقراطي – يتهمون المستشارة بأخذ الحزب إلى اليسار، ويرفعون شعار: “إلى اليمين أكثر”، باعتبار أن هذا الانحياز هو الخيار الوحيد لمواجهة نمو حزب “البديل لأجل ألمانيا” اليميني الشعبوي.
إنها بيئة مناسبة لجهد مركّب أعطى أولى ثماره ضد حزب الله في ألمانيا، وعلينا أن نتوقع ضغوطاً مشابهة في فرنسا وبريطانيا.