لبنان ما بعد كورونا: تغيير في النظام السياسي أم حرب؟
كتب / علي شهاب
يحتاج الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى إعادة “الهيبة” الأميركية بعد كورونا. قد لا يصحّ هذا النوع من الفرضيات لو كان ثمة رئيس آخر في البيت الأبيض، ولكن التعامل مع رئيس من طراز هذا الَّذي اقترح حقن مرضى “كوفيد 19” بالمطهّرات يحتاج إلى كثير من التأمّل.
في الأصل، نحن أمام شخصية تتسم بسمات نفسية متطرفة تميل إلى “التعجرف”، ويقودها “الوسواس” في التفكير، إذ تغلب على قرارت ترامب المصطلحات التحليلية الشخصية التي لا تستند في كثير من الأحيان إلى الوقائع.
كما أنّ حسّ التعاطف مع الآخرين منخفض جداً لدى رئيس أقوى دولة في العالم، وهو بالمناسبة لا يجد نفسه معنياً بالاهتمام بما يهتم به معظم الناس، لأنه يتصرف من منطلق “فرادته” في التفكير.
ولسنا بحاجة إلى التحليل النفسي لملاحظة شدة اعتداد ترامب بنفسه، وحبّه الشديد للنفوذ والقوة. هذا المزيج من السمات يضعنا أيضاً أمام شخص كثير “التفكير” – إلى درجة القلق والتوتر – بما يفرض سطوته، وغير مبالٍ كثيراً بمصادقة الآخرين على أفعاله.
يمكن تطبيق هذه السمات على قرار بارز اتخذه ترامب في الآونة الأخيرة، ويعدّ ذا دلالات بارزة: اغتيال الفريق قاسم سليماني.
على الرغم من معارضة الكثيرين داخل الإدارة الأميركية لهذه الخطوة، وعلى الرغم من عدم تقبّل المجتمع الدولي، بما في ذلك أوروبا المتحفّظة، للخطوة التي لا تستند إلى شرعية قانونية، وعلى الرغم من التبعات الخطيرة المحتملة لعملية كهذه، لم يتوانَ الرئيس الأميركي عن إعطاء الأمر بتنفيذ الاغتيال.
لا تخرج التفسيرات والتحليلات التي تتناول الاغتيال عن سياق حاجة الرئيس إلى “إنجاز” على عتبة الانتخابات الرئاسية، كما إرسال رسائل باتجاه الحلفاء والخصوم. “هوس” النفوذ والقوة يقود ترامب. وهذا “الوسواس” في نمط التفكير قابل للتكرار، بل إنه يزيد حدة في كل مرة لا يلمس فيها الشخص رادعاً من حوله.
لذا، فإن قرار الرد الإيراني باستهداف القاعدة الأميركية العسكرية لم يكن رداً ثأرياً بالمعنى الضيّق للكلمة، بل كان خطوة في سبيل ردع الرئيس الأميركي. وقد حقق هدفين رئيسين:
– توجيه صفعة إلى الردع الأميركي منذ الحرب العالمية الثانية.
– نقل المواجهة إلى مستوى مفتوح من دون تكرار سقف الفعل السابق.
بمعنى آخر، جرَّدت إيران ترامب من خيار العمل العسكري، وهي ورقة تفوق بأشواط وزن الاغتيال “مادياً”، بما أنّ “فيلق القدس” لم يتأثر، بل أُعطي صلاحيات أوسع.
هذه المقدمة أعلاه ضرورية لفهم طريقة تفكير الرئيس الأميركي، الذي يرزح تحت وطأة اقتراب استحقاق الانتخابات، وتحت ضغط استعادة “الهيبة” التي أفقده إياها “كوفيد 19″، مُدخلاً الولايات المتحدة الأميركية في مرحلة ركود اقتصادي تاريخي، والعالم في مسار لتشكيل نظام دولي جديد لا تمتلك الولايات المتحدة التحكّم به بالكامل.
ما الفعل الذي يمكن أن يعالج هذه المسائل “المزعجة” لترامب دفعةً واحدة؟
هو لن يذهب إلى حرب بالتأكيد مع الصين، حتى وإن بلغت به العنصرية حدّ وصفها بـ”الفيروس” نفسه. خيار العقوبات الاقتصادية لا يزال الأداة الأكثر تفضيلاً له في ما يخص بكين وموسكو وطهران. وتجربة اغتيال قاسم سليماني لم تعد قابلة للاستثمار مرة أخرى. أين هو “المتنفّس” الذي يستطيع من خلاله ترامب استعادة “الهيبة” ومخاطبة العالم بأنه الأقوى؟
من يتابع المشهد اللبناني في المرحلة السابقة لانتشار “كوفيد 19″، يسجّل الملاحظات التالية:
– مع تواصل الانهيار الاقتصادي والسياسي، وعلى الرغم من كل العقوبات، فإن حزب الله نجح في “احتضان” بيئته الحاضنة. قد لا تبدو هذه المساعي فعالة بالنسبة إلى المراقبين الغربيين، لكنها في بلد شبه منهار، وبتركيبة ديموغرافية كلبنان، تعدّ إنجازاً.
– في خضم الانشغال المحلي بالانتفاضة الشعبية والتراشق السياسي، لجأ حزب الله إلى الصمت الذي كان يخرقه أمينه العام بين الفينة والأخرى بخطوط عامة، وضعت شرائح اجتماعية وطائفية مختلفة عنه في موقع المتسائل والمقارن، ما بين فئة نجحت في احتواء جمهورها وبيئتها، وفئات أخرى في المجتمع اللبناني لا تمتلك القدرة التنظيمية على الاحتواء، إن أرادت.
لكن الأهم في توثيق هذه المرحلة هو ما تحققه الحكومة الحالية التي يتفق معها الحزب في الكثير من الطروحات، وإن كان لا يمتلك هو نفسه رؤية شاملة للمسألة اللبنانية. ويمكن الركون إلى شبكات التواصل الإجتماعي لملاحظة حجم التفاعل الشعبي في بيئة الحزب إيجاباً مع الحكومة ورئيسها تحديداً.
– حزب الله، بمشاركة حليفه المسيحي الأكبر، أحد اللاعبين الرئيسيين في إعادة تشكيل النظام اللبناني ببطء، لاعتبارات مفهومة. وهكذا، بينما كان يُخشى أن يتحول الحراك الشعبي إلى التصويب باتجاه سلاحه أولاً، نجحت المعالجة السياسية – الاجتماعية للحزب وحلفائه في تحويل الحراك نحو المصادر المحتملة للفساد الاقتصادي. وما حدة المواقف الأخيرة لخصوم حزب الله في الداخل سوى دليل على نجاح الحزب في إبعاد سهام الشارع عنه.
– من اللافت جداً تركيز المدافعين عن المنظومة المصرفية التاريخية في لبنان على أدائها دورها كاملاً في “مكافحة الإرهاب” وفرض العقوبات المالية المطلوبة أميركياً.
التبجّح بهذا “الإنجاز” ليس أمراً عابراً في وقت قرَّرت دولة كألمانيا، على سبيل المثال، إدراج الحزب وأنصاره على لائحة الإرهاب وشنّ حملة أمنية على الأراضي الألمانية، سعياً وراء “خلايا” مفترضة للحزب. ومع عودة التهديد الإسرائيلي الذي خفت قليلاً في بداية “كورونا” المستجد بإقصاء الصواريخ الدقيقة، فإننا أمام مشهد متكامل قابل للتهيئة أكثر في الأسابيع القليلة القادمة لاتخاذ قرارات أكثر “جرأة” ضد حزب الله.
وبما أنّ سؤال الحرب الإسرائيلية لا يزال من دون إجابة حاسمة على نتيجتها، فإنّ مبادرة “إسرائيل” بنفسها إلى تنفيذ عملية عسكرية واسعة أمرٌ مستبعد، ولكن هناك في العالم من قد يهتم أكثر بخطوة “مغرية” كهذه.
ومع عودة الحراك الشعبي إلى التأجّج بفعل تأزّم الوضع الاقتصادي من جهة، وبسبب محاولة جهات مناوئة للحزب إسقاط الحكومة المحسوبة عليه من جهة ثانية، فإنّ أي حالة استقرار للوضع في لبنان تعني ببساطة استمرار حزب الله في إدارة الأزمة بما لا ينال منه ومن بيئته بالحد الأدنى، ناهيك بالمؤشرات الكثيرة على اتفاقه مع حليفه العوني على تخطي حقل الألغام الطائفي بمكافحة الفساد، بالاعتماد على عنصر الوقت وسوء تدبير الخصوم السياسيين.
لبنان ما بعد “كورونا” ليس بالسّوء الذي يظنّه الكثيرون، وإن استمرَّت ضغوط الوضع الاقتصادي الناجم عن 30 عاماً من المحاصصة، ولكنه أيضاً قد يكون “المتنفّس” الأميركي الأخير في المنطقة.