مقالات

انهيار الدولة اليمنية بين مآسي الحرب ومخاطر التسويات بقلم| عبدالله الدهمشي

بقلم| عبدالله الدهمشي

التسويات السياسية التي تقود إلى تناثر الجغرافيا الوطنية للجمهورية اليمنية، إلى مقاطعات خاضعة لقوى السيطرة العسكرية الراهنة، لا تقل خطرًا عن الويلات الناجمة عن استمرار الاقتتال والعجز عن الحسم العسكري، وذلك أن تقاسم السيطرة على الجغرافيا السكانية بين المليشيات المسلحة، لا يصنع السلام، ولا يقود إليه، وإن توقفت العمليات العسكرية.
يدور النقاش الآن في دهاليز الدبلوماسية الإقليمية والدولية، حول أولويات وقف الحرب في اليمن، وهو أمر قد يفرضه مجلس الأمن، وتقبل به الأطراف المتقاتلة في الداخل ومن الخارج، مرغمةً، تحت ضغوط عجز كل الأطراف عن فرض تحول استراتيجي في مسار العمليات العسكرية، ناهيك عن عجزها منذ 7 سنوات عن الحسم العسكري التام لصراعاتها على السلطة والثروة، والارتباط بمحاور الصراع الخارجية.

هذه الصورة المأساوية ترسمها المقاربات الراهنة للأزمة اليمنية من منظور الحل السياسي، وبناء على معطيات الواقع وحصاد 7 سنوات من الحروب في الداخل ومن الخارج، وذلك يعني أن مسار التسوية السياسية وفق المعلن من مقترحات “الإعلان المشترك” التي وضعها المبعوث الأممي السابق مارتن غريفيث، أو حتى من بنود المبادرة السعودية، ينتهي إلى وقف الحرب في كل أنحاء اليمن، ورفع الحصار المفروض على مطار صنعاء وميناء الحديدة، ثم الانتقال إلى طاولات التفاوض بين الأطراف المتصارعة.
ولا حدود للمفاوضات المقترحة في الزمان أو المكان، لكن الواضح جدًا أن وقف العمليات العسكرية يضع الجغرافيا السياسية للجمهورية اليمنية تحت سيطرة القوى المسلحة، ويثبت هذه السيطرة بالعناوين التي تؤسس لما بعد انتهاء العمليات القتالية، بمفاهيم الإدارة الذاتية والإدارة المشتركة.
دعونا ننطلق في مقاربة هذه الصورة من التسليم التام بمأساوية استمرار الحرب ومأساوية ما يترتب عليها من دمار وحصار، بل الأخطر من هذا التسليم بعجز جميع القوى المسلحة عن تحقيق إنجاز حاسم في مسار العمليات العسكرية على المدى المنظور، ولا أدل على نسبية الصواب في هذا القول، من عجز الحوثيين عن تحقيق تحول حاسم في مسار العمليات العسكرية المستمرة منذ بداية فبراير 2021، بهدف السيطرة على مأرب دون جدوى، رغم فداحة الخسائر وجسامة التضحيات، وتزايد حدة المأساة الإنسانية المترتبة على ذلك.

إذن، لا مناص من وقف الحرب ووقف تنامي المأساة الإنسانية، وإنقاذ شعب اليمن من ويلاتها، وتمكينه من استعادة دولته وما تمثله لحياته من أمن و نماء وسلام، لكن التسويات المقترحة لما بعد إنهاء الحرب تثير مخاوف مشروعة من انهيار الدولة الوطنية واستبدالها بكونفدرالية بعيدة عن كل الصيغ المعروفة للدولة البسيطة أو المركبة، وذلك لغياب الإشارة في هذه المقترحات إلى وحدة المؤسسة العسكرية ووحدة القرار السياسي ومؤسساته الوطنية.
والصورة التي ترتسم الآن للدولة اليمنية، وفق المعلن من مقترحات الحل السياسي، تمثل مقاطعات خاضعة للقوى المسلحة التي تسيطر عليها الآن، وتثبت هذه السيطرة تحت مفهوم “الإدارة الذاتية”، ثم تجمع هذه المقاطعات في كونفدرالية جامعة تنسق عمل هذه المقاطعات، وتوفر ممرات آمنة للمساعدات الإنسانية، تحت مفهوم “الإدارة المشتركة”. والخطر المترتب على هذه التصورات، إن تم القبول بها أو التوافق عليها، يكمن في إنهاء الصراع المسلح، والتسليم ببقاء سلطاته على الأرض.
ولا جدوى هنا من توظيف المأساة الإنسانية المستمرة بالحروب والمتزايدة بعجز القوى المتصارعة عن الحسم العسكري في خدمة التصورات الداعية إلى وقف الحرب دون وضع مسار للسلام ينتهي باليمن إلى دولة آمنة ومستقرة يعاد بناؤها على أساس اتحادي، والطريق إلى هذا واضح في النص على حل التشكيلات العسكرية لصالح بناء جيش وطني ودولة تحتكر وحدها حق امتلاك السلاح واستخدامه بمرجعية الدستور والقوانين النافذة.
والأخطر من كل هذا أن هذه التصورات المقترحة للحل السياسي في اليمن، تأتي من منظور المصلحة التي تفرضها التجاذبات الإقليمية والدولية مع إيران، ولا تراعي الحدود الدنيا لمصالح اليمنيين. وللتدليل على نسبية الصواب في هذا القول، نشير إلى تحولات الرؤية الأمريكية لمداخل الحل السياسي للأزمة اليمنية التي جاءت مع وصول إدارة بايدن إلى البيت الأبيض، مطلع هذا العام.

في البدء، اتخذت إدارة بايدن من إنهاء الحرب في اليمن أولوية في سياستها الخارجية تجاه المنطقة العربية، وانطلقت في تحقيق ذلك من مدخل الضغط على تحالف دعم الشرعية، إذ أعلنت وقف الدعم الأمريكي للتحالف، ووقف صفقات الأسلحة عن السعودية والإمارات، ووضعت ولي العهد السعودي تحت دائرة التهديد والحصار والمقاطعة الرسمية، وذلك في محاولة من واشنطن لإغراء طهران في مفاوضات الملف النووي، لكن هذه الخطوات دفعت بالحوثيين إلى التصعيد العسكري باتجاه مأرب والسعودية، ودفعت بإيران أيضًا إلى التشدد في مباحثاتها مع إدارة بايدن.
بعد فشل 8 جولات للمبعوث الأمريكي الخاص باليمن تيموثي ليندركينغ، إلى المنطقة، تراجعت إدارة بايدن عن هذه السياسة في إدارة الأزمة اليمنية من منظور المناورة الدبلوماسية مع إيران. وفي 29 سبتمبر 2021، التقى مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان، بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، في الرياض، ليؤكد سوليفان مجددًا استمرار الدعم الأمريكي للسعودية في مواجهة التهديدات التي تواجهها من الحوثيين وإيران.

وهكذا تتضافر عوامل داخلية وخارجية في تعقيد مأساوية الأزمة اليمنية في مساريها العسكري والسياسي، نظرًا لعجز قوى الصراع عن الحسم العسكري، وغياب مشروعها السياسي لصالح اتجاهات انعزالية جهويًا وطائفيًا، ثم غلبة التجاذبات الخارجية على أولويات المصلحة العليا للشعب اليمني، وبذلك تستمر فصول المأساة في ظل المراوحة الراهنة بين استمرار الحرب ومخاطر التسويات التفكيكية.
وهنا نستدعي احتياجات الواقع المأساوي، وطموحات المستقبل المنشود، نهوض القوى الوطنية من سباتها، ومواجهة التحديات بما تتطلبه من مسؤولية ومبادرة قادرة على استعادة الدولة الوطنية، وتجسيدها مؤسسيًا في سلطة قائمة على أساس اتحادي ونظام ديمقراطي، ولا بد من التأكيد في الختام على أن الشعب اليمني يمتلك مقومات القدرة -رغم الوضع المأساوي- على تجاوز ويلات الحرب وأخطار التسويات، بحسب المشاهد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى