مقالات

زمن “الفيزا”.. غصة اليمنيين التي تمتص عرَقهم وممتلكاتهم بقلم| نجيب الورافي

بقلم| نجيب الورافي

لمرتين متتاليتين أزور قريتي، فأجد الناس مشغولين حتى الغصة بأمر الفيزا وترحيل أبنائهم في هجرة شبه جماعية. حديثهم في مجالسهم المكرر حد الملل والغثيان، لا يخلو من تفاصيل إجراءات الجواز، الفيزا، السفر، فحص فيرس الوباء الكبدي، ثم انضم مؤخرًا إلى ما سبق، الإجراءات الاحترازية من وباء كورونا وجرعات اللقاح اللازمة التي فرضتها دول الخليج، لا سيما السعودية، وهي البلد الأكثر وجهة للمهاجر اليمني بحكم الجوار والعلاقات التاريخية.

لقد نجم عن جائحة كورونا التي تجتاح العالم، حزمة من قوانين وإجراءات متبعة لتنظيم الدخول والخروج؛ ومع إيماننا بأهمية تلك الإجراءات حفاظًا على الصحة العامة، إلا أنه في ظلها وجد المهاجرُ المغلوب على أمره نفسَه ضحية لذلك، بسبب الازدواجية وعدم اتباع معايير موحدة ملزمة. غدا المنفذ الحدودي بين اليمن وجارتها يكتظ بطوابير الشباب الذين يبحثون عن فرصة عيش خارج بلدهم الذي ضاقت فيه سبل الحياة، ليتسع بلا نهاية لدائرة الحرب والفقر والبطالة.

مثال تلك الازدواجية، ما يخص تنظيم حملات اللقاح ضد فيروس كورونا (كوفيد-19)؛ فقد جعلت السعودية جرعة اللقاح شرطًا لدخول أراضيها، في حين أهملت الشق الآخر! فلا حرج على من يغادر المملكة إن كان ملقحًا أو لا؛ وهو ما أوقع المغتربين اليمنيين الخارجين في فخ المنع والحرمان من العودة والدخول ثانية؛ إذ يواجه المغترب العائد إلى عمله بإيقافه عند المنفذ الحدودي بحجة عدم التلقيح في بلده لجرعتين متتاليتين؛ كما عطل فرصة الدخول على الداخلين لأول مرة، وانتهت المدة المحددة لفيزا الدخول واضطروا إلى إجراءات جديدة وكلفة باهظة جديدة أيضًا!

نحن نعرف جميعًا؛ بما في ذلك الهجرة والجوازات في السعودية، ظرف اليمن الراهن وضعف حملات التلقيح وشح الإمكانات والدعم لجرعات اللقاح من الفيروس؛ وهل من اليمنيين حاليًّا من أخذ جرعتي لقاح متتاليتين؟

الفيزا والهجرة صارت عناء؛ لكن البقاء في البلد يبدو عناء مضاعفًا أكبر. الشاب اليمني المهزوم بظروف وطنه، المحاصر بالحرب، لم يكن أمامه خيار من الوقوع بين نارين؛ نار الاستسلام لواقعه المنسد في وجهه، ونار مغادرته وطلب فرص الحياة خارجه، وفي سبيل هذا الهدف تجد الناس يبذلون الجهد والمال والوساطات للحصول على الفيزا.

ولأن أمرها بات محفوفًا بصعوبات جمة وكلفة باهظة، ناهيك عن كلفة رسوم الدفع السنوي الباهظ لقاء إقامة وكفالة، تضطر الأسر إلى بيع ما تملك من أرض وبيوت ومَواشٍ وحُلي، لتسفير أبنائها. أما مردود ذلك ففي علم الغيب ومرهون بالإجراءات والقوانين المتقلبة وغير المستقرة لبلدان الهجرة، لا سيما السعودية.

على الرغم من الاتفاقيات التاريخية بين اليمن والسعودية، يخضع المغترب اليمني للقوانين الاستثنائية التي تتبعها الأخيرة فيما يخص الهجرة والإقامة والعمل؛ وهي قوانين نرى أنها حتى للمهاجر غير اليمني، تستدعي النظر والنقاش، وفي مقدمتها نظام الكفالة الذي يقضي واسطة مواطن سعودي لكل مقيم من خارج المملكة، وهو نظام نادر وغير متبع في أي دولة من دول العالم !
“الكفيل” بمثابة وصي على المقيم، المسؤول عن إجراءات إقامته وتحديد مكانها ونوع العمل وتنقله بين المهن والوظائف، بل صار “الكفيل” مؤخرًا يتحكم في مدة إقامة المغترب في بلده، وله الحق في تمديدها من عدمه. ومقابل ذلك يتقاضى مبلغًا شهريًّا يدفعه العامل المقيم يضاف إلى الكلفة الباهظة لرسوم الإقامة السنوية التي قد تصل إلى 15000 ريال سعودي في السنة، دون مراعاة أي تناسب بين الدخل السنوي والرسم المتوجب، بل إن رسوم الإقامة تشمل المقيم غير العامل، كالأطفال والنساء.

لك أن تتخيل ما يدفعه مغترب يتقاضى شهريًّا بحدود 1500 ريال سعودي، أو ما يمكن أن يدفعه مغترب مقيم يعول أسرة كاملة، من رسوم إقامة! بموجب الكفالة أصبح الفرد السعودي سلطة شريكة لسلطة الدولة، يشاطرها المسؤولية عن حياة الأجانب داخل أراضيها.

“السَّعْودة” نظام آخر يواجهه المغترب اليمني داخل المملكة، وقد شملت حركة “السعودة” كثيرًا من قطاعات العمل والإنتاج، وغدا المغترب محاصرًا أمام مجالات عمل محدودة، ووقف ذلك عائقًا أمام كثيرين ممن يعملون في مهن تجارية أو حرفية مختلفة لعقود كثيرة؛ فقد وجد هؤلاء أنفسهم بلا عمل ومحرومين من ممارسة مهنهم ووظائفهم بموجب القانون. “السعودة” مؤخرًا ألغت عمل الأجنبي في كثير من المجالات وشملت شريحة المغتربين؛ من بائع الإكسسوارات وصاحب البسطة وسائق التاكسي، حتى الأستاذ الجامعي ومالك المؤسسة والشركة التجارية.

لم يكن اغتراب اليمنيين خلال عقود طويلة، سواء في المملكة أم في غيرها، شرًّا ولا سوءًا، بقدر ما كان خيرًا ونفعًا؛ فهو أمر لا بد منه أوجبته الضرورة والحاجة؛ بسبب ما عاشه اليمن من ظروف سياسية مضطربة وغير مستقرة، وتعاقب سلطات لم تمتلك الكفاءة والأهلية في إدارة موارد البلاد -وما أكثرها- وتغطية حاجات مواطنيها.

كان الاغتراب حلًّا ونفعًا لليمن مثلما كان نفعًا لبلدان المهجر، وفي صدارتها المملكة السعودية؛ فليس بخافٍ ما قدمه جهد عقود طويلة من اغتراب اليمنيين في أراضيها من خير ونفع لاقتصادها وعمرانها، حتى كان زمن الفيزا قاصمًا بعنائه الممتد هذا!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى