مقالات

تأويل النزاعات في الخرائط.. كيف غرق شرقنا في مشاريع الإحياء الديني؟ بقلم| جمال حسن

بقلم| جمال حسن

طالما كان الشرق الأوسط مجالًا حيويًّا للسياسة الأوروبية، وكذلك بالنسبة للولايات المتحدة، بكونه قاعدة جيوسياسية مهمة للهيمنة الحضارية. إنه مرفأ ينبغي امتلاكه، أو ضبطه بحيث لا يشكل تهديدًا مباشرًا، وبالتالي تثير رسومها على الخريطة هاجسًا دائمًا، باعتبارها حدودًا متحركة، وقابلة للتغيير. فكانت سايكس بيكو تشريحًا أوليًّا لتدخل مباشر. ثم تشكّلت حدودٌ سياسية في المنطقة، يمكن التحجج بأنها استعمارية، وبالتالي ينبغي تصويبها، وإخضاعها مجددًا لتصورات سياسية ما بعد حداثية، خاضعة لاستهلال خطابي يمكن تكييفه إلى واقع جناسي يكتظ بالأزمات. ويمكن استدراجه إلى مشرحة تطييف، تستبدل الأنساق الوطنية بشرائح مقسمة إلى هُويات.

خلال الحرب العالمية الأولى، كانت المنطقة تعيش سقوطًا مدوِّيًا للإمبراطورية التركية، تم استبداله بالانتداب البريطاني والفرنسي، تحت مسمى الحماية.

‏قبل ذلك، في مطلع القرن العشرين، كان ضابط بريطاني، هو توماس إدوارد لورانس، سيُعرف بلورانس العرب، يتجول في الشام منقبًا عن الآثار، وكتب لاحقًا “القلاع الصليبية” بعد أن شاهد أعدادًا متناثرة منها في طرابلس وفلسطين وسوريا. كان لورانس عالم آثار ومتخصصًا في الخرائط، وللاستفادة منه عيّنته بلده في قسم الخرائط، ضمن إدارتها في مصر، وكان وفق تصوره شكلًا مختلفًا لتقسيم المنطقة، بالتعارض مع رؤية سايكس، الضابط والسياسي البريطاني الآخر، المنخرط في الاتفاقية المعروفة سايكس بيكو، على أن الرؤيتين لم يكونا يتعارضان حول مشروع قيام دولة يهودية في فلسطين.

تفصح شخصية لورانس عن نزعة بطولية، غير أن دوافعها على صلة بنزوع انغماسي لمتطلبات ذلك العصر، وهي متطلبات حدت من فرادتها المؤسسة لاحقًا. وربما نتج عنها مظاهر شعبوية تسعى لكسر تلك الهيمنة. انخرط لورانس في طبيعة العادات وثقافة تلك المجتمعات. ورغم حماسته، للثورة العربية، التي اعتبر نفسه عرابًا لها، فقد كانت مقتصرة، بالنسبة له، على شبه الجزيرة العربية، بما فيها الشام والعراق، مستبعدًا مصر وشمال أفريقيا. بينما كانت الخرائط تختمر لوضع حاجزٍ في المنطقة، بزرع إسرائيل كوطن لليهود في فلسطين.

على أن ذلك، تثيره خلفية تاريخية، جعل المنطقة مسرحًا للغزو خلال العصر الحديث، بدأه السلطان العثماني سليم الأول، وانتهى بالتحرر من الاستعمار البريطاني والفرنسي في النصف الثاني من القرن العشرين. آنذاك لم تكن قد تشكّلت بعدُ الهُويّاتُ الوطنية، والتي أنتجتها أوروبا وانتقلت للعرب في القرن العشرين.

‏وقتها شكّل الأتراك تهديدًا إسلاميًّا لأوروبا في الشرق، حين طرقت جيوشه أبواب فيينا، منذرة العالم الكاثولوكي، وبينما اقتصر اهتمام الأتراك على القوة العسكرية، وسّعت أوروبا استكشافاتها، وتشكلت فجوة حضارية أدّت إلى تخلف عسكري تركي مقارنة بالقوى الأوروبية. بينما كانت نتائج الغزو التركي على العرب أقسى، إذ تهمشت لغتهم، وانحطت معارفهم لأدنى مراتب الحضارة.

لم تكن المغرب الخاضعة للأسبان أفضل حالًا مقارنة بالبلدان الخاضعة للأتراك، فخضوع بلد لغزو يثبط أبسط العناصر التي تساعده على النهوض. ومنذ النصف الثاني للقرن السابع عشر، بدأت أمارات التدهور التركي، إذ استعاد الحلف المسيحي المقدس المجر منهم، وقبل ذلك استقلت اليمن.

كان الفيلسوف الألماني ليبنتز، آنذاك، يحاول دفع لويس الرابع عشر، نحو الأهمية الاستراتيجية للسيطرة على مصر، في محاولة لصرفه عن إرسال جيوشه إلى ألمانيا، لكن الأخير كان ينظر بعَداء لآل هانسبورج في النمسا، ويتطلع لغزو الراين.

‏نصيحة أخذها على محمل الجد، الضابطُ الفرنسي نابليون بونابرت، وقاد حملته الشهيرة إلى مصر، ليهزم الجيش المملوكي، لكنه على أبواب عكا تلقى أول هزيمة عسكرية في حياته، ولعبت بريطانيا دورًا في الهزيمة الفرنسية لاحقًا، حين أذل إبراهيم باشا بجيش مصري الباب العالي، لكن تدخُّل الإنجليز فرَضَ على محمد علي باشا اتفاقية مذلة لمصلحة تركيا. أشار مونتسيكيو إلى عوامل ساهمت في إطالة عمر تركيا الآيلة للسقوط، لتبقيها بعض القوى عامل توازن؛ حتى لا تتغير موازين القوى. واليوم تلعب تركيا أردوغان، وإيران ولاية الفقيه، شكلًا يلائم تصورات القوى الكبرى لإعادة تشكيل المنطقة.

حين أعلن نابليون عن نفسه حاكمًا ثُمّ إمبراطورًا، ارتدى ثوب لويس الرابع عشر، وذهب لإخضاع أوروبا. لكنه لم ينسَ هزيمته في عكا، وخطرت له فكرة زرع دولة لليهود في فلسطين، كحاجز يضمن إخضاع المنطقة. كان المنطق الفرنسي وراء كثير من الظواهر الجيدة والسيئة التي شاعت في أوروبا.

كانت المنطقة مجالًا للامتلاك العسكري، سقطت الجزائر بيد الفرنسيين في 1830، ثم وضعت بريطانيا يدها على عدن عام 1939، ونفّذت وصية ليبنتز لتستولي على مصر بعد أقل من نصف قرن، وبعدها حققت وصية نابليون بدعم قيام دولة إسرائيل كوطن لليهود في فلسطين، لتصبح منصة للإمبريالية في المنطقة.

‏ومع مطلع القرن العشرين، كان الرجل المريض يستنفد عوامل بقائه، فسعت القوى الرئيسية للسيطرة على تركته. في كتاب لورانس “أعمدة الحكمة السبعة” يشير إلى وجود دوائر كانت معادية للثورة العربية، وبصورة خاصة الفرنسيون، آنذاك؛ ولأن تلك القوى تضع المنطقة كمشروع للغزو، رأت أنّ تصاعد النبرة القومية يمكن تحويله إلى معضلة. وهو بالفعل ما أصبح عليه خلال حقبة الاستقلال، وما تلاها.

تعدلت اتفاقية سايكس بيكو، نتيجة قيام الثورة البلشفية، وفي تركيا خاض الضابط كمال مصطفى أتاتورك حرب تحرير، بعد أن سيطرت القوات الإنجليزية على البوسفور. كانت الاتفاقية تسعى لتقاسم تركيا والشام والعراق، وتغيير خارطة المنطقة بحسب التصور التركي؛ أي بناء قواعد جيوسياسية جديدة. فبعد أن استثمرت الإمبريالية الثورة العربية بقيادة الشريف حسين ضد الأتراك، تستثمر اليوم الصحوة الإسلامية ضد العرب. وربما شكّلت القومية عائقًا، كما في اليمن، حين دعم الاستعمار الإنجليزي كيانًا بمسمى الجنوب العربي، لكن الاستقلال ببعده القومي أزاله مستعيدًا للجنوب هُويته السياسية اليمنية. وها هو مصطلح الجنوب العربي يستعيد حضوره، مسنودًا بفصيل عسكري، ضمن النزاع في اليمن. وفي شمال اليمن تسيطر جماعةٌ حاملُها السياسي تمتد جذوره للإمامة الزيدية. هل تعمل السياسات الكبرى على تصفية حسابات مع إرث حقبة الاستقلال.

يبدو أن هناك قواعد جيوسياسية جديدة، تحاول بعض القوى الدولية التهيئة لها بالمنطقة، كامتداد لتصور إمبريالي قديم، على أن ذلك مسار هيَّأه خطاب إسلامي إحيائي، من ناحية، وفشل أنظمة قمعية من ناحية أخرى.

ففي طهران، جرى استبعاد المضمون العلماني بخطاب إسلامي بالتزامن مع صعود الجهاد الأفغاني، وهو ملمح يحث عليه أردوغان مؤخرًا، في استرجاع طموح عثماني، بينما تستعيد روسيا بوتين أحلام القياصرة. وكما لو أن المنطقة تباح لشكل من استعارات الماضي، بحيث يستعيد التاريخ عناصره لتعزيز شكلٍ معاصر، ما بعد حداثيّ، بغرض تجاور عناصر من ثقافات وحقب زمنية مختلفة؛ لذا كان على الاحتلال الأمريكي لأفغانستان أن ينتهي بعودة طالبان كعنصر إحيائي، وهو العنصر الذي تشكّلت حوله تنظيمات إرهابية كالقاعدة وداعش.

وما بعد الحداثة، بمسعاها لتكوين أجناس ثقافية يمكن استخداماتها، تبلغ أفقًا مسدودًا. وربما كان ذلك وراء حماسة الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو مع ثورة الخميني، بمعنى أن الشرق الأوسط ملحمة روحانية تستعيد إرثها كما يجب، لكنها ملحمة دامية كما تبدو اليوم؛ فالفوضى الخلاقة لم تكن مقدمة لإشعاع ديمقراطي كما أُعلن عنه، إنما لتعديل خرائط وفق نزاعات دينية سبق تكريسها في تقسيم شبه الجزيرة الهندية، بعدها في شبه الجزيرة البلقانية، واليوم في شبه الجزيرة العربية.

فالاستعارات الدينية تنفلت من العقال السياسي، في مواطنها الشرقية. لكن الأفق يعلن عن منحى تبلغ فيه القصة المقدسة حول سفينة نوح ذروتها، بحيث يتشكل عالم يغرق بالفوضى، تعوم فوقه سفينة النجاة، كما لو أن الأمر يتسم ببعد تطهيري، حتى يتهيأ لتموضع قواعد جديدة، وفق تصور اللاهوت السياسي الجديد.

على الأقل يتم التعامل مع الصحوة الإسلامية، وإن كانت لعبة خطرة، من خلال خطابها المأزوم المثير للانقسامات ومحاصرتها به، وكذلك بماضويتها السلفية التي لا تسمح بالتحديث. ربما تلك قصة القرن الواحد والعشرين، وفي المحصلة يثير ذلك الانفلات، مشهدًا من تدهور حضارة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى