“بيغاسوس”.. عن عمق التبعية الأمنية والسيبرانية الخليجية لـ”إسرائيل” بقلم| وسام إسماعيل
بقلم| وسام إسماعيل
لا يمكن النظر إلى واقع العلاقات الإسرائيلية مع الممالك والإمارات الخليجية بوصفها نتيجة لمستجدات طارئة تهدد وجود تلك الكيانات، فتعليل هذه العلاقات استناداً إلى الأخطار الخارجية التي تمثلت بنظام صدام حسين سابقاً، و”الخطر الإيراني” حاضراً، ليس مقنعاً، بل إنه دليل على سطحية النظرية الوجودية التي يجهد العقل الاستراتيجي الخليجي لتسويقها منذ عدة سنوات.
قدمت تسعينيات القرن الماضي شواهد عديدة على أن جذور هذه العلاقات ترتكز على ما يشبه الأيديولوجيا النفعية المبنية على أساس عدم الاقتناع بفكرة العداء العقائدي للكيان الإسرائيلي من جهة، وبإمكانية الاستفادة من إمكانيات الكيان الإسرائيلي في عملية توطيد الأمن القومي للأنظمة الخليجية وتحصينها من جهة أخرى، فكان أن استغلت دول خليجية عديدة اتفاق “أوسلو” في العام 1994، لتخرج إلى العلن واقع وجود علاقات سرية سابقة، أو بالحد الأدنى وجود نية للاعتراف بهذا الكيان وتطبيع العلاقات معه.
من ناحية أخرى، تتقاطع الممالك الخليجية مع بعضها البعض في موضوع البحث عن العدو الخارجي الضروري لوجودها، بسبب قصور الوسائل الدستورية القادرة على ضمان شرعية داخلية لها، وذلك بسبب طبيعة الأنظمة الملكية المطلقة فيها.
وبعد أن كانت هذه الأنظمة مستفيدة من الغطاء الأميركي في فترة الحرب الباردة، وقادرة على فرض هيمنتها وقمع أيّ معارض لها تحت حجّة المدّ الشيوعي أو البعثي، وجدت، بعد الحرب الباردة، في الجمهورية الإسلامية ضالتها، إذ استغلَّت إثارة الولايات المتحدة للملف النووي الإيراني، بعد الكشف عن الموقعين السريين في نطنز وأراك، وتحوّل الملف إلى مجلس الأمن تحت عنوان تهديد السلم والأمن الدوليين، لتزرع في قلوب مواطنيها الرعب والخوف من إمكانية قيام الجمهورية الإسلامية بتهديد سيادتهم، فتثير عصبيتهم وتضمن تكاتفهم خلفها، بما يضمن استقراراً وثباتاً وقدرة على الاستمرار من دون الحاجة إلى أي تعديل ديمقراطي في مفاصلها.
وإذا ربطنا بين فكرة العداء للجمهورية الإسلامية والخوف المصطنع من برنامجها النووي وبرنامجها البالستي من جهة، والأيديولوجيا النفعية المبنية على أساس عدم الإقتناع بالعداء للكيان الصهيوني وإمكانية الاستفادة من قدراته من جهة ثانية، يصبح مفهوماً ذلك التعاون الأمني والسيبراني بين الطرفين، ولا يعود مبرراً أي سبب للذهول أو المفاجأة لدينا.
منذ العام 2007، تكرّس التعاون الأمني بين الإمارات والكيان الإسرائيلي مبرَّراً بما أسموه “تهديدات عسكرية متزايدة من إيران ووكلائها”، إذ تعاقدت الإمارات مع شركة إسرائيلية أميركية لتطوير دفاعاتها الجوية حول مناطقها الحساسة، ثم ظهر إلى العلن سعي الرياض في العام 2012 للحصول على مساعدة الكيان في عملية ملاحقة مسلحين وتعقّبهم في وسائل التواصل، إضافة إلى حاجتها إلى المساعدة في المجال السيبراني، لحماية منشآتها النفطية بعد الهجوم الكبير الذي استهدف داتا شركة “أرامكو”.
ولكنّ مشروع الممالك الخليجية لا يمكن حصره في الحاجة إلى التعاون من أجل الدفاع عن المنشآت الحيوية، أو تحصين داتا معلومات شركاتها النفطية، وإنما جرى العمل على استغلال هذه التكنولوجيا في عملية بناء المنظومة الأمنية التي أرادها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وشريكه الإماراتي محمد بن زايد أداة لتكريس الهيمنة الداخلية في بلدانهم، كوسيلة لتسهيل ارتقائهم إلى عرش دولهم ورئاستها، إضافة إلى المشروع الأكثر خطورة وجرأة، والمتمثل بمراقبة الحلفاء والخصوم، من رؤساء وسياسيين وإعلاميين وغير ذلك.
لن أدخل في تحليل نوعية الأشخاص الذين جرت مراقبتهم عبر “بيغاسوس”، ولكن سألفت إلى فكرة أن شركة “NSO” لا تبيع هذا البرنامج إلا بعد الحصول على تصديق لجنة أمنية إسرائيلية يرأسها وزير الأمن.
وإذا كانت الدول الخليجية والمغرب قد استطاعت الوصول إلى هذا البرنامج، فإن هذا الأمر لم يكن ليتم لو كانوا يصنفون كتهديد من قبل وزارة الأمن الإسرائيلية. وعليه، يصبح لزاماً التركيز على نوعية العلاقة التي تجمع الكيان الإسرائيلي والممالك الخليجية.
بالطبع، يسوّق الخليجيون أن العلاقة الأمنية مع الكيان الإسرائيلي هي علاقة تكاملية عنوانها مصالح مشتركة وأساسها “مواجهة الخطر الإيراني المشترك”، غير أن ما صرّح به وزير الأمن الإسرائيلي السابق أفيغدور ليبرمان لدى مشاركته في مؤتمر ميونخ الأخير للأمن يظهر عكس ذلك، إذ يعتقد أن “الدول العربية المعتدلة” وفق وصفه، بحاجة إلى “إسرائيل” بقدر أكبر من حاجة الأخيرة إليها. وبتحليل واقع العلاقات التي تربط الممالك الخليجية بالنظام الإقليمي والدولي، يمكننا أن نلمس حالة التنازل والانصياع الدائم إلى الراعي الدولي ووكيله الإقليمي.
إنَّ جوهر العلاقة الأمنية والسيبرانية التي تربط السعودية والإمارات بالكيان الاسرائيلي لا يقوم على أسس من التعاون والمنفعة المتبادلة بين الطرفين، فالكيان الإسرائيلي يجيد التحرك منفرداً، ويفضّل ذلك، ويتبنى سياسة خارجية تقوم على التفرد في اتخاذ القرار والتحرك بعيداً عن أي تعاون أو شراكة إقليمية.
إن فقدان الثقة بالحلفاء من جهة، وإيمانه بعدم فاعلية وقدرة الشركاء على تحقيق الأهداف المشتركة من جهة أخرى، يجعلان علاقة الكيان بالآخرين علاقة تضمن مصلحته أولاً وأخيراً.
وعليه، يمكن القول إنّ كلّ ما يشاع عن روزنامة أمنية خليجية، وعن برنامج تجسس سيبراني يطال عدداً من الشخصيات السياسية من الحلفاء والخصوم، لا يمكن أن يندرج في سياق العمل الأمني الخليجي المستقل، إنما يدخل في إطار تقاطع المصالح الصهيونية الخليجية، بما يمكن أن يبرر قبول وزارة الأمن الإسرائيلية بتصدير برنامج “بيغاسوس” إلى دول الخليج.
وبالإشارة إلى مميزات هذا البرنامج، يمكن بسهولة التأكيد أن القبول الإسرائيلي بتوريد “بيغاسوس” يراعي مصالح “إسرائيل” الأمنية، وخصوصاً إذا لاحظنا مدى قدرة الشركة الأم على التحكّم في هذا البرنامج، لناحية الحصول على داتا الهواتف المستهدفة، ولو لم تكن هي المتحكّم المباشر في البرنامج، وأيضاً ما أعلنته الشركة نفسها عن عدم قدرتها على استهداف الهواتف الموجودة في الولايات المتحدة الأميركية، في إشارة إلى قدرتها على التحكّم في الساحات التي يُسمح بالعمل ضمنها.
ومن خلال هذه المقاربة، نستطيع استخلاص نتيجة مفادها أنَّ “بيغاسوس” لا يشكّل أبداً باكورة التعاون الأمني بين الممالك الخليجية والكيان الإسرائيلي، إنما يمكن القول إن هذا البرنامج هو الدليل الحيّ والواقعيّ على عمق التبعية الأمنية والسيبرانية الخليجية للكيان الإسرائيلي.
أما بالنسبة إلى كشف فضيحة “بيغاسوس”، فتجدر الإشارة إلى أنَّ الأمر لا يرتبط أبداً بصون حقوق الإنسان الأساسية التي جرى انتهاكها، والتي كان الصحافي جمال خاشقجي أول ضحاياها، وإنما يمكن ربطه بإشكالية دور محمد بن سلمان وشريكه ابن زايد الذي تكرَّس في زمن دونالد ترامب، إذ استطاعا في تلك المرحلة أن يؤثرا في السياسة العالمية أكثر من القوى التقليدية، كفرنسا وألمانيا وغيرهما.
وعليه، تقاطعت المصالح الفرنسيّة والألمانيّة والإدارة الجديدة في الولايات المتحدة عند ضرورة تحجيم محمد بن سلمان وإعادة الدور والطموح السعودي خاصة، والخليجي عامة، إلى حجمه الحقيقي. وفي هذا الأمر، سنلمس صحّة ما أشرنا إليه حول طريقة الكيان الصهيوني في إدارة أموره، إذ سيتبرأ من هذه الفضيحة التجسّسية. وقد يتخذ قراراً أمنياً بتعطيل هذا البرنامج لدى الدول الخليجية وغيرها، بناءً على نصيحة أميركية أو تقدير ذاتي.