مقالات

الصين تصعد وأمريكا تنحدر.. وأوروبا على حالها بقلم| جميل مطر

بقلم| جميل مطر

ما زالت تتوالى وتتصادم أصداء مؤتمرات القمة في دول الغرب، بما فيها مجازا أستراليا واليابان. راقب البعض منا باهتمام الأجواء التي عقدت فيها هذه المؤتمرات مزوداً بمعلومات أو تحليلات عن خلفيات قضايا معروضة سراً أو علناً على القادة المجتمعين. لم تفاجئنا، نعم وأنا من هذا البعض، المسارات أو وقفات التصعيد الخطابي والتسامح العلني التي اختارها الرئيس الأميركي بايدن وزملاء له مشاركون في هذه القمم. لم يكن خافياً مثلاً أن عدداً من مواقف الوفود الأميركية إلى هذه القمم خرجت من الولايات المتحدة متأثرة إلى أقصى حد ممكن بآثار الانسحابات المتكررة، والمهينة جداً، للولايات المتحدة من حرب في فيتنام وحرب غير متعادلة في شبه جزيرة كوريا، ومن حرب فاشلة توشك أن تنتهي في أفغانستان ومن حرب مشبوهة الأصل دمرت العراق ولم تغادر، ومن أشباه حرب عديدة ومتفرقة في نيكاراجوا وكولومبيا  وجرانادا لم تسفر أي منها عن نتائج حاسمة أو مشرفة وأغلبها كان من تخطيط وتنفيذ أجهزة  في الإدارة الأميركية من خارج المؤسسة العسكرية. الإنسحاب الأشد مهانة كان نتيجة سلسلة حروب غامضة الأطراف والأهداف والنتائج اجتمعت تحت عنوان الحرب “العالمية ضد الإرهاب”.

هناك في النخب الأكاديمية الأجنبية من يعتقد، عن حق أحياناً، أن كثيراً من هذه التدخلات العسكرية الأميركية حدثت بعد توقف الحرب الباردة التي نشبت بين الولايات المتحدة والإتحاد السوفياتي. الإشارة ربما تحمل معنى ترابط واقعين؛ واقع توقف الحرب الباردة وواقع حرية العمل العسكري الأميركي في ظل القطبية الأحادية التي آلت إلى أميركا كثمرة من ثمار توقف الحرب الباردة، وتشغيلاً للطاقة العسكرية الهائلة المتفرغة عن عملها “الأصلي والمبرر” كطرف في حرب باردة بين القوتين الأعظم.

لذلك كان مثيراً للإهتمام الدولي الإنشغال الرسمي الأميركي بفكرة الحاجة إلى إعادة بناء القوات المسلحة بما يتناسب مع وضع دولي ناشئ. انتبهت النخبة الحاكمة في أميركا إلى حقيقة جديدة سوف تفرض وضعاً مختلفاً في شرق آسيا وربما في العالم بأسره. دفعت إلى هذا الانتباه  كتابات صحافيين وأكاديميين وشهادات كبريات المصارف والشركات الأميركية العاملة في الصين عن النجاحات المتلاحقة في برامج الإصلاح في الصين منذ أواخر السبعينيات من القرن الماضي. ساعد الصين على تحقيق هذه النجاحات عوامل عدة لا تتكرر في التاريخ. منها مثلاً أن القطبية الأحادية ثبتت دعائم مرحلة هامة في السلم الأميركي أثمرت فرصة نادرة للصين لتصعد نحو القمة في هدوء، كما أنها أفرزت بدورها استقراراً ملفتاً في منطقة جنوب شرق آسيا ساهم كفرصة للصين لتبني وتبدع. وبإستثناء اشتباكات طفيفة على الحدود مع الهند عاشت الصين سلاماً نموذجياً على حدودها المشتركة مع 18 دولة. لم يغب عن الذهن السياسي الصيني أن أميركا وقد تكون مفيدة في هذه المرحلة الحساسة من مراحل الصعود ألا أنها سوف تصبح العقبة الأكبر في يوم قريب.

ثم جاء العام 2010 يمثل علامة تحول الإنتباه الأميركي إلى حقيقة أن الصين خطت خطوات واسعة ترشحها لوضع المنافس القوى والأوحد للولايات المتحدة خلال العقود التالية. اتضحت بدايات هذا الإنتباه الرسمي من تركيز دونالد ترامب المرشح عن الحزب الجمهوري لمنصب الرئاسة على خطورة الصعود الصيني على سلامة ومصالح الولايات المتحدة، وفي عام 2016 خرج اشتون كارتر وزير الدفاع بتصريحات عن أهداف السياسة الخارجية الأميركية جاء فيها أن هذه السياسة تمر في مرحلة انتقال تعود بمقتضاها إلى سياسة خارجية لدولة عظمى تواجه تحديات حالة تنافسية بين القوى الأعظم، حالة كانت غائبة عن عالم القمة لأكثر من ربع قرن. ومن هذه النقطة تطورت أو تدهورت آراء المحللين إلى حد توقع الصدام الحتمي بين دولة صاعدة بإمكانات هائلة ودولة عظمى قائمة وقائدة في مرحلة أخيرة من الأحادية القطبية. هنا ظهرت مفاهيم تشير إلى انطلاق مرحلة جديدة في تطور علاقات القوة بين القوى الكبرى ومنها إطلاق مفهوم الاستراتيجية التنافسية على طبيعة العلاقة الأميركية الصينية في هذه المرحلة.

شهدت هذه المرحلة الأخيرة في الأحادية القطبية تطورات، على الأقل فكرية في البداية، هدفها رفع مستوى القوات المسلحة الأميركية بما يتناسب والصعود العسكري الصيني. قرأنا عن رغبة في تطوير شامل لكافة أفرع هذه القوات والأسلحة وسياسات التدخل العسكري، مثلاً دعت كاتبة أميركية إلى انتهاج سياسة تتفادى الإنحشار والإمتناع عن الوقوع فيما أطلقت عليه إغراءات الانغماس في حروب صغيرة. هناك أيضاً دعوات بالإمتناع عن مسايرة دول صديقة تسعى للدخول في حروب لا مصلحة لأميركا فيها، وأن تكون القضايا وليس الدول هي محل الإهتمام في اتخاذ قرارات التدخل. من ناحية أخرى ظهر من يعرض فكرة استغناء أميركا المتدرج عن الأحلاف الكبرى والثابتة والإكتفاء بتحالفات ثنائية مرنة.

 

الأهم من وجهة نظري هو تنبه النخبة السياسية الأميركية إلى الفجوة المتزايدة الإتساع بين المدني والعسكري في النظام السياسي الأميركي وهو أمر له خطورة فائقة على برامج التخطيط والتطوير في عصر التحول نحو استخدام تكنولوجيات حديثة من نوع الذكاء الإصطناعي في الحروب والتجسس. بدت الحاجة شديدة إلى تدخل أجهزة الأمن والدفاع لحمل مختلف شركات التكنولوجيا على التنسيق والتخطيط المشترك فيما بينها وفيما بينها وبين أجهزة ومؤسسات الدولة  المتخصصة في شؤون الأمن. المثال البارز دعوة القوات الجوية إلى الدخول شريكاً للشركات الكبرى في إنتاج التكنولوجيا المتطورة، ويقدر عددها بحوالي 2300 شركة. هذه الأفكار والمشروعات تشير إلى تطور له أهميته البالغة على مستقبل المنافسة أو الصدام بين أميركا والصين، لاحظنا في هذا الشأن كما في شؤون أخرى أن الدولتين الأعظم، أميركا والصين، إن صح تسميتها بدولة أعظم، يتقاربان تدريجياإ في السلوك مثل اتباع نهج وأساليب معينة في إدارة مجتمع ما بعد الصناعة، مجتمع الإنتاج السيبراني. يتقاربان أيضا في الموقف من دعم الدول النامية ودعوة الدول الحليفة وغير الحليفة لتقديم معونات تساعد على إقامة أو تطوير البنى التحتية. يتقاربان كذلك في موضوع العلاقة بين القطاع الخاص والقطاع العام وتيسير عمليات إنتقال الشركات من قطاع إلى الآخر. شيئاً فشيئاً يزداد تدخل الحكومتين في الشؤون الإقتصادية وبخاصة بعد أن تعددت إجراءات فرض العقوبات التجارية والمصرفية على الخصوم في النزاعات الدولية، وبعد أن أصبح التنافس على إحتلال الفضاء والمنطقة القطبية سياسة مقررة  في علاقات الدول العظمى وفي علاقات الدولة بالقطاع الخاص وبخاصة القطاع المتخصص في التطوير التكنولوجي.

نجحت القمم الأخيرة في تهدئة مخاوف الدول الأوروبية من سياسات التهور والمفاجآت التي أنتجتها أميركا في عهد ترامب. ومع ذلك بقي في النفس الأوروبية كثير من القلق من إحتمال عودة ترامب أو أمثاله. تردد أيضاً أن هذه القمم حاولت تبني توافق بين دول الغرب حول ضرورة السعي لإختطاف روسيا من براثن صينية محتملة في الحاضر أو المستقبل. المهم في هذا الصدد وفي غيره أن التطورات الأوروبية اللاحقة للقمم كشفت عن أن عودة أميركا لم تؤد حتماً وبالضرورة إلى صنع إجماع غربي على الموقف من كل من الصين وروسيا ومنهما معاً مجتمعين أو متحالفين. الواضح حتى الآن هو أن أوروبا، وما تزال تمثل في رأيي، القلب النابض للنظام الدولي الراهن أو حتى النظام الدولي الجاري التكون، هي أوروبا التي عرفها العالم منذ أسهمت في صنع عالم الدول، قارة تغلي بالانقسامات بين دولها وداخل كل دولة أوروبية على حدة. أذكر على سبيل المثال المحاولة الفاشلة والهامة جداً من جانب السيدة ميركل والسيد ماكرون لإقناع قادة الدول الأصغر في الاتحاد الأوروبي بأهمية دعوة الرئيس بوتين لحضور اجتماع لقادة الاتحاد.

لا أبالغ أو أتجاوز حين أقول أن أمل نهوض الغرب من كبوته معقود الآن وخلال العقدين القادمين على النجاح في إعادة بناء مؤسساته وفي صدارتها المؤسسة الأميركية على أسس جديدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى