مقالات

ما حقيقة تبدّل الموقف الأميركيّ تجاه “أنصار الله”؟

لا شكّ في أنَّ الموقف الأميركي تجاه اليمن يتغيّر، ولكنّ خلفية هذا التحول تعود إلى الواقع الميداني الذي يجري بخلاف الرغبة الأميركية، فواشنطن تسعى للتقارب مع “أنصار الله”، للوصول إلى صيغة نهائية لوقف الحرب وفق رؤيتها، وليس وفق نتائج الحرب.

البحث في الموقف الأميركي يعود إلى الواجهة، مع الالتباس الَّذي حصل لدى كثير من وسائل الإعلام إزاء تصريح المبعوث الخاص إلى اليمن تيم ليندركينغ، الذي قال فيه إنَّ “واشنطن تعترف بأنصار الله طرفاً شرعياً في اليمن حقَّق مكاسب كبيرة”.

انقسمت التحليلات حول هذه الفقرة. فهم البعض بشكلٍ خاطئٍ أن واشنطن تمهّد للاعتراف بجماعة “أنصار الله”، كما تعترف بحكومة هادي، وهو ما يعود إلى اجتزاء الحديث وعدم استيعابه كاملاً، علاوةً على القصور في فهم التوجه الأميركي وخلفياته نحو اليمن.

لم تَعُدْ وسائل الإعلام إلى مجمل حديث المبعوث الأميركي الذي حصل ضمن جلسة نقاش افتراضية استمرت أكثر من ساعة، نظَّمها “المجلس الوطني للعلاقات الأميركية العربية”، إذ كان الغالب على حديث ليندركينغ مهاجمة “أنصار الله” وتحميلهم مسؤولية الأزمة الإنسانية، واعتباره أنَّ استمرار تقدمهم باتجاه مأرب يعقّد الحلّ السياسي، كما تجاهل استمرار احتجاز المشتقّات النفطية من قبل التحالف، وحمّل حكومة صنعاء مسؤولية أزمة الوقود وارتفاع أسعارها!

بعد أقلّ من 24 ساعة، صحّحت الخارجية الأميركية الفهم المغلوط لدى البعض، مؤكدة أن “حكومة هادي هي الشرعية الوحيدة في اليمن”، لكنّها عزَّزت حقيقة أن “أنصار الله” باتت تفرض أمراً واقعاً على صنعاء ومعظم الشمال، وبما نسبته 80% من عدد السكّان.

من الواضح أنَّ واشنطن باتت تستوعب انسداد الأفق العسكري أمام تحالف العدوان. لذلك، لجأت إلى سياسة احتواء الفشل ونتائجه. ويعود اهتمامُها باليمن إلى كونها طرفاً رئيساً في قرار الحرب، وبخلفية تمتدّ إلى ما يزيد على عقدين، حين كانت لها هيمنة سياسية وحضور عسكري وأمني مباشر في صنعاء ومحافظة لحج جنوباً، لكنها فقدت ذلك الحضور عقب ثورة 21 أيلول/سبتمبر 2014م.

اصطدمت الولايات المتحدة بوجود “أنصار الله” كفاعل رئيس في المشهد اليمني بعد قيادة الثورة الشعبية. وحين أدركت عدم جدوائية المواجهة السياسية، ونظراً إلى احتراق أوراقها في الداخل اليمني، سحبت سفارتها وقواتها للتمهيد للحرب.

بإقرار عدد من المسؤولين السعوديين والأميركيين، من بينهم وزير الدفاع الحالي لويد أوستين، تم التنسيق الثنائي للحرب قبل أن تُعلَن من واشنطن في 26 آذار/مارس 2105م، ليعقبها موقف صريح من إدارة أوباما بتوفير الدعم اللوجستي والاستخباري، وكذلك 45 خبيراً واستشارياً في غرف القيادة، علاوةً على توفير الإمداد اللازم من الأسلحة وتوفير الغطاء السياسي.

كان الموقف الأميركي يؤكد ضرورة السيطرة على صنعاء عسكرياً أو تسليمها ضمن تفاوض سياسي، لتعود حكومة هادي. أما “أنصار الله”، فكانت تعتبرهم مكوناً يمنياً محدوداً وصغيراً. وقد كان وزير الخارجية الأسبق جون كيري يردد عبارة أنَّهم لا يساوون 5% من عدد السكان. ومن خلال هذه النسبة، يمكن البناء على دورهم القادم في الحكومة.

أعادت إدارة أوباما التفكير في هذه القناعة بعد مرور عام تقريباً على العدوان والحصار. وقبل أن تغادر البيت الأبيض، دفعت كيري إلى سلطنة عُمان للقاء ممثلي “أنصار الله”، ليتضح لاحقاً أن قناعة واشنطن لم تتجاوز رهانها على أن يعود اليمن ضمن محورها السياسي والأمني في المنطقة، كما كان!

بعد مجيء إدارة ترامب، برز الدعم للسعودية والإمارات بشكل مضاعف، لكنَّ الخطاب السياسي تجاه “أنصار الله” ظلَّ على حاله، باعتبارهم مكوناً مقبولاً كشريك في الحكومة المستقبلية. ورغم تباين المواقف العملية مع ذلك الخطاب، فقد كان يترافق مع إشارات التهديد والوعيد، وهو ما تُرجم قبل نهاية ولاية ترامب، حين تم تصنيف الحركة ضمن قائمة الإرهاب، في تجاوز غير منطقي لأكثر من 5 سنوات من الفشل العسكري للتحالف!

تصنيف “أنصار الله” أقفل الباب أمام أيّ حلٍّ سياسيٍّ، وهو ما أدركته إدارة بايدن، فسارعت إلى إلغاء التصنيف، لحاجتها إلى التخاطب مع الحركة، بعد أن فرضت نفسها قوة عسكرية وشعبية يستحيل تجاوزها.

تُفاوض إدارة بايدن “أنصار الله” باعتبارهم سلطة أمر واقع في أكثر المحافظات اكتظاظاً بالسكان. يختلف هذا الاعتبار عما كان سائداً في الإدارتين السابقتين، غير أنَّ القناعة الأميركية بالتفاوض لا تعني التَّسليم بنتائج الحرب، إذ لا بدَّ من الحفاظ على بعض المكاسب، وهو ما لن يتأتّى إلا عبر وقف التقدّم العسكري باتجاه مأرب، مع الإبقاء على الحصار كورقة للمساومة، وهو ما يُعقّد مهمة ليندركينغ، إذ تشدّد صنعاء في المقابل على ضرورة فصل الجانب الإنساني عن العسكري.

تخوض الإدارة الأميركيّة ملفّ التفاوض مع “أنصار الله”، وكلٌّ منهما يعرف الآخر. إنَّ إمكانية التوصّل إلى توافق سياسي لإنهاء الحرب لا يعني تحول العلاقة من العداوة إلى الصداقة، فالقواسم المشتركة تكاد تكون منعدمة، وكثير من الموانع يحول دون تحقيق ذلك.

من جهة “أنصار الله”، إنَّ شعار “الموت لأميركا” لا يشبه الشعارات السياسية التي تُرفع ضمن حملة دعائية قابلة للشطب أو التعديل، بل أصبح مرتبطاً بعقيدة دينية تؤمن بالاستقلال الكامل وبالاصطفاف ضمن محور المقاومة لمواجهة هيمنة واشنطن وتل أبيب، مع الاستعداد لتحمُّل ثمن ذلك.

أما من جهة الولايات المتحدة، فقد باتت جماعة “أنصار الله” عائقاً كبيراً أمام هيمنتها على باب المندب والسواحل والجزر اليمنية الممتدة إلى المحيط الهندي، علاوة على استعدادها مؤخراً للانخراط في تحالف إقليمي ضد “إسرائيل”.

تحُول هذه الموانع أمام تحسين العلاقات مستقبلاً، لكنها لا تعني عدم التوافق أخيراً على صيغة للحلّ السياسي. هذا التوافق لا يبدو قريباً، نظراً إلى الكثير من التعقيدات؛ فواشنطن تراهن على الضغوط الاقتصادية، وصنعاء تراهن على تحرير مأرب، ثم على قدراتها المتطورة على فرض معادلات جديدة للتصدي لحرب التجويع.

*الميادين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى