مقالات

عن سقطرى الوديعة بقلم| مصطفى ناجي

بقلم| مصطفى ناجي

الكتابة عن سقطرى هي خليط من الشجون والأسى، ومن التعثر في دروب طويلة نحو الافتتان بفردوس بعيد.
في نقطة تقاطع ثلاثة بحور هي البحر العربي وخليج عدن والمحيط الهندي في أعلى شماله الغربي، يقع أرخبيل سقطرى الساحر. أرض السعادة أو الأرض المقدسة التي كانت تنتج السلع المقدسة من لبان وبخور وصبر، في غابر الأزمان. وأرض السكينة أو “الأرض الكريمة” كما وصفها البحار ابن ماجد، أو الأرض النادرة بمفاهيم علوم الأحياء.
جزيرة سقطرى هي الأكبر والأكثر جاذبية في هذا الأرخبيل، وهي بلاد العجائب بامتياز، لقد عبرتها الأديان (كان أكثر سكان الجزيرة يدينون بالمسيحية حتى خمسة قرون مضت)، وقبلها عبرتها اللغات القديمة: لغات الشرق والغرب (وجد ما يزيد على 200 نقش أثري بلغات قديمة مختلفة، منها الهندية القديمة واليونانية والتدمرية والعربية القديمة والإثيوبية، وبالطبع لغات أخرى).
موقعها فرض عليها عزلة وخصوصيات حيوية، وهي أرض أصيلة وليست نتيجة نشاط بركاني. شذرات تاريخية تتدفق عنها بين طيات الكتب من هنا وهناك. لعل أهم المحطات في تاريخيها بالنسبة لي، وفي الوقت الراهن، هي محطة احتلالها من طرف البرتغاليين في بداية القرن السادس عشر الميلادي. والفرادة في هذه المرحلة هي أولًا دوافع الاحتلال اللطيفة ذات البعد الديني المسيحي، إمبريالية الغاية، لتكون نقطة ضمن نقاط ست تجارية بحرية برتغالية، وفارق جهوزية أبناء الجزيرة عن المحتل المزود بالمدافع، وقبل الأخير ارتباط الجزيرة بالبر اليمني في المهرة. وأخيرًا مدة الاحتلال.
في بداية القرن السادس عشر، بدأت حملات البرتغاليتين الاستكشافية، وبعد أن وصلوا إلى رأس الرجاء الصالح، أمخروا في عباب الشاطئ الشرقي لأفريقيا. وبمساعدة سخية وثمينة من البحار العربي الشهير “ابن ماجد (المتنازع على جنسيته بين الإمارات وسلطنة عمان)، ربما اكتشف البرتغاليون جزيرة سقطرى، بعد أن أبحرت سفنهم الرابضة في ميناء مالينده على الشاطئ الشرقي الأفريقي (كينيا) باتجاه الشمال الشرقي.
أبحر فرانسكسو دا ألميدا بـ14 سفينة خشبية داكنة اللون كبيرة تنفخ الريح الجنوبية الغربية في أشرعتها المتراصة رأسيًا، من ميناء مالينده تجاه الشرق، وكان عليها أن تنتظر حتى ينتهي موسم الأمطار والرياح الموسمية العاتية في المحيط الهندي.
بدأت الهجمة بقيادة أفونسو دي ألبوكيرك Afonso de Albuquerque، في يناير 1507، لكنها لم تتمكن بسبب مقاومة 100 شخص (وصفهم تريستان دا كونها Tristan da Cunha بأنهم بمثابة 300 شخص لبسالتهم)، من الاستيلاء على القلعة، وبفضل أسلحة البرتغاليين دخلوا الجزيرة في أبريل من العام نفسه. “كان هدفهم إقامة قاعدة في مكان استراتيجي على الطريق إلى الهند، وتحرير المسيحيين الودودين المفترضين من الحكم الإسلامي”.
أخضع البرتغاليون الجزيرة لسلطتهم، وقد أبقوا على حامية من 100 برتغالي. تمردت القبائل، ورفضت التعاون مع المحتل، ولم تقدم لهم الزاد، لكن اسُتخدِمت القوة عليها، وفرضت عليهم ضريبة ثقيلة تتمثل بـ600 رأس غنم و20 رأس ثور، و40 كيسًا من التمر.
مع ممانعة الأرض وسكانها، وحرص سلطان قشن (المهرة) على الحفاظ على الجزيرة، عاودت الهجمات العربية على “الفرنجة”، بلغة المؤرخ شنبل. ولعقم الأرض ضربت المجاعة بين جنود المحتل، وغرقت السفن لافتقارها لميناء ملائم. فـ”هجر البرتغاليون الجزيرة بعد أربع سنوات”.

زرت جزيرة سقطرى مرتين قبل ما يزيد على 12 عامًا. وأحسبني محظوظًا جدًا بهاتين الزيارتين. في كل مرة مكثت قرابة أسبوع. في المرة الأولى كنت وحيدًا. وهكذا أتيح لي الاقتراب من الناس، والاستمتاع بالوقت والعزلة والوحدة. أحمل معي كاميرا بذاكرة واسعة ودفترًا وقلمًا وقليلًا من الفلوس.
كان السائق والمرشد هو أنيسي الوحيد. ولم يتعامل معي كسائح، إنما كصديق. يأخذني في الصباح الباكر من الفندق، ويعيدني وقت الغروب.

عرفت منه وعبره الإنسان السقطري. تحدثنا عن أشياء كثيرة، لكن أشد ما ثبت في البال هو أن الجزيرة لا تعرف الضواري. وأنها تحديدًا لا تعرف القتل والاقتتال، لا التفاخر بالسلاح، وآخر جريمة حدثت في الجزيرة كانت في آخر عهد السلاطين وتغيير نظام الحكم، أي في سبعينيات القرن المنصرم. وماتزال هذه الجريمة ماثلة في ذاكرة الناس.
بُعد الجزيرة عن البر اليمني وعزلتها فرضا على أهلها أن يكونوا أسرة واحدة. تضمهم اعتبارات وتقاليد أساسها الاحترام والحرص وإيثار السلامة والصدق والنزاهة، وحذرهم من الجنود القادمين من الخارج.
هناك أشياء كثيرة لفتت انتباهي في سكان الجزيرة بالدرجة الأساس. لقد وجدتهم لا يستوحشون الغريب، ولا تميل نفوسهم إلى الطمع بالمال، وكانوا كرماء بلا مقابل، وعزيزي نفس لا يمدون أيديهم ولا يصغرون.
وقد أكبرت فيهم هذه الخصال، سيما ولم أرَ في الجزيرة متسولًا أو طالب حاجة. بل إني كنت أتنقل في المسافات القصيرة، أستوقف سيارة مارة على الخط الإسفلتي دون دفع النقود، وعندما حاولت أول الأمر أن أدفع للسائق الذي نقلني قرابة كليومترين رفض وقال لا نأخذ من الناس مالًا.

مع الوحدة زاد الاهتمام بالجزيرة، وتدافع إليها الجنود الذين كانوا يحظون بمعاملة حسنة، وعلاقتهم مميزة من سكان الجزيرة. لم تكن إمكانيات البلاد كبيرة لتهتم بجزيرة هي كنز حقيقي. لكن تقلصت العزلة تدريجيًا، وزاد عدد الرحلات إلى المطار الحديث، واختلط السكان أكثر فأكثر مع بقية أبناء اليمن. انتشرت بعض المحلات التجارية البسيطة التي كانت في الغالب لجنود أو لأقاربهم خصصوا من محافظتي إب وتعز، استورد القات إلى الجزيرة التي لم تكن تزرع الشيء الكثيرة كنشاط زراعي غير بعض التمور في الواحات.
كان الرئيس صالح يضع لسقطرى مكانة خاصة هي من قبيل تفاخر محدث النعمة بآخر ممتلكاته. لكن هذه المكانة لم تكن لتحصّن الجزيرة من الأطماع حينها، وفي كل مرة باسم مختلف.
حتى المنظمات الدولية التي كانت تعمل في قطاع البيئة أو التنوع الحيوي، لم تفوت فرصة الاستغلال، وكانت المنظمات الأممية -بطريقة يصفها جان-لوي غيبورغ في مقال له عن الجزيرة، نشر عام 1998، بالمنافقة- في مرات سابقة قد أرجعت عدم الاهتمام بالجزيرة إلى ممانعة أهلها.

أظن أن أحداث العام 2011 التي شملت اليمن، كانت علامة فارقة في حياة السقطريين سياسيًا، لأنها بطبعها قادت إلى استقطاب كبير على أسس سياسية، وبطريقة حدية. كما أن الحرب الراهنة في اليمن لم تكن لتدخر سقطرى من تباعاتها رغم بعدها الكبير عن مسرح الأحداث، إلا أنها وجدت نفسها في قلب حركة مناوئة لسلطة الرئيس هادي، ومسرحًا للعبث الداخلي والخارجي.

في أبريل العام المنصرم، نفذت وحدات عسكرية تابعة للمجلس بالانتقالي، انقلابًا جزئيًا في الجزيرة، على السلطات المحلية. انتهى الأمر بخروج المحافظ من المحافظة.
لا ينفصل هذا الانقلاب عن الصراع القائم بين المجلس الانتقالي في عدن وما حولها من جهة، والحكومة الشرعية التي هي الأخرى فقدت السيطرة أو الحضور في عدن.
لا تخفي الإمارات أطماعها في الجزيرة، ومثلها دول كثيرة، ويمكن بسهولة استغلال ضعف مؤسسات البلاد إن لم نقل انهيارها وحاجة سكان الجزيرة إلى وسائل التنمية ومواجهة المخاطر الطبيعية التي تداهمهم بشكل دوري، ومنها الأعاصير التي لا تقدر اليمن بقدراتها الحالية ولا حتى قبل 10 سنوات، على تقديم خدمات طوارئ تناسب طبيعة الكارثة.
بل إن العزلة الآن أكبر، إذ لا تملك الجمهورية اليمنية طيرانًا عسكريًا ولا مدنيًأ ولا قدرة بحرية مدنية أو عسكرية تساعدها في إعادة ربط الجزيرة النائية بالداخل. ويمكن بسهولة تمرير أي مخططات تحت مسميات إغاثية أو إنسانية، أو حتى بكل صفاقة بطريقة استعمارية كلاسيكية.
لكن، وأشدد على هذه النقطة، يعوَّل كثيرًا على ارتباط سكان الجزيرة بأصالتهم، وترفعهم عن استغلال حاجتهم، وإدراكهم لموقعهم الجغرافي والإنساني وتعلقهم باليمن.
إيثارهم السكنية وعدم الاقتتال في ما بينهم. بل أجزم أن الخروج على الشرعية قاده أفراد وضباط ليسوا من داخل الجزيرة.
سحب الجزيرة من سيادة اليمن لن يجعل أبناء الجزيرة شركاء في أية عملية سياسية وذوي استقلالية في قرارهم حول جزيرتهم، إنما تابعين، وهذا الوضع سيرفضونه.
نقطة أخيرة، وهي أن للجزيرة وأهلها سوابق في فرض التبعية والضم أو التفريط بالأرض، وتشهد لهم بذلك المواثيق التي أبرمها سلاطينها مع كل محتل وعازٍ منذ قرون.
لكن لا بد من مساعدة الجزيرة، كما هي الوقائع التاريخية، من خارج الجزيرة، من الأرض اليمنية، للخلاص من أية محاولات ضم وإلحاق وأذى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى