سلاح الكلمة بقلم| بثينة شعبان
بقلم| بثينة شعبان
متى سيدرك العرب أنَّ أهمية أيّ حدث تقاس بديمومة نتائجه وآثاره والقدرة على التأثير في الواقع من خلال هذه النتائج؟ ومتى سيكفّون عن التهليل والترويج، ويبدأون بتكريس الوقت والجهد لمراجعات حقيقية معمّقة وشاملة، تعزّز الصواب وتصحّح الأخطاء، لمنع الوقوع فيها مرة أخرى وتكرارها؟
من يتفكَّر في التاريخ الحديث للسياسات الغربية في المنطقة والعالم، لا بد من أن يصل إلى استنتاج مفاده أنهم يستفيدون من كلّ تجربة يخوضونها، ويتخذون القرارات التي تجنّبهم الوقوع في الأخطاء ذاتها مرة أخرى، وتمكّنهم من تحسين أدائهم في المرات القادمة.
على سبيل المثال لا الحصر، اكتشفت الولايات المتحدة إبان حربها على فيتنام أنَّ الإعلام الحرّ في حينه أدى دوراً مهماً في صناعة الرأي العام الأميركي والعالمي لمصلحة فيتنام وإيصال حقيقة جرائم العدوان الأميركي فيها إلى معظم البشر؛ فقامت بعد ذلك بتغييرات جذرية في البنى الإعلامية، من الملكية إلى المواضيع والأسلوب، وحتى إلى اللغة والجمل والصياغة، بحيث لم نشهد أيّ صرخة إعلامية حين احتلَّت الولايات المتحدة العراق في العام 2003 لأسباب واهية، بل قامت في هذه الحرب بتطوير سيطرتها الإعلامية، ليصبح الإعلام المسموح به هو الإعلام المرافق للقوات فقط، بحيث يحتاج أي خبر إعلامي لموافقة القائد العسكري الأميركي في العراق.
وقد استمرّ الغرب بتطوير نهجه بالاهتمام بالكلمة إلى جانب الطلقة، فكانت الحرب الإعلاميّة المضلّلة التي شنّها لتبرير قصف ليبيا، والعدوان على سوريا من خلال أدواته الإرهابية، والترويج للحرب على شعب اليمن، وهو ما لا يقلّ أهميّة عن السلاح المستخدم في هذه الحروب.
ولهذا كله، توقف الغرب وقفة مهمة، إذ تمكن الشباب الفلسطيني والعربي وأحرار العالم من كسر الاحتكار الغربي للإعلام خلال الهبّة الفلسطينية المباركة، واستخدموا الإعلام الجديد لإيصال حقيقة ما يجري إلى أرجاء الأرض، وكشف كذب الصهيونية والوسائل الإعلامية المماثلة لها، والتي اعتادت أن تكون الوحيدة التي توصل النسخة التي تريد عن الأحداث إلى عقول الشعوب وقلوبهم في البلدان الغربية، بحيث أصبح دعم هذه الشعوب لجرائم الكيان الصهيوني ضد الفلسطينيين أمراً مسلماً به لا يجرؤ أحد على تحديه.
حين خرج مئات الآلاف في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وكندا وأستراليا يحملون الأعلام الفلسطينية، ويعبرون عن دعمهم للحق الفلسطيني ولشعب فلسطين في أرضه ودياره، دقّ ناقوس الخطر لديهم بأن إحدى أهم أدواتهم، وهي “التضليل الإعلامي”، تتعرّض لتحدٍّ غير مسبوق من قِبل من فَهِم الآلية وقرر أن يستخدمها لمصلحته حقوقه.
من هنا، يجب أن نقرأ أيضاً قرار السلطات الأميركية حجب مواقع قنوات “العالم” و”المسيرة” و”اللؤلؤة” و”فلسطين اليوم” و”نبأ” و”الكوثر” على الإنترنت، لأنَّ هذه القنوات هي قنوات مقاومة، وهي توضح الوقائع لجمهور المقاومة كي لا يكون ضحيّة للتضليل الإعلامي الغربي. لقد وصل قلق الولايات المتحدة إلى أنها اتخذت قرارات قضائية، واستولت على 33 موقعاً يستخدمها اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية، و3 مواقع إلكترونية يستخدمها “حزب الله”.
وفي الوقت الذي يُعتبر هذا العمل تقييداً صارخاً لحرية التعبير، وعملاً شائناً لكمِّ الأفواه غير المنسجمة مع الإرادة الأميركية، فإنّ هذا العمل يعبّر عن مدى القلق الذي يشعر به أصحاب القرار في الولايات المتحدة، وفي الغرب عموماً، من اتساع مساحة الفهم الحقيقي لما يقومون به من جرائم بحق الإنسانية، ودور الشبكات الإعلامية المقاومة والإعلام الجديد في إرساء أسس هذا الفهم المستحدث إلى حدّ ما.
كما يتزامن ذلك مع إعلاء صوت الإعلام الرسمي والخاص في الصين وروسيا، وتصدّي القيادات الصينية والروسية لكلّ تصريح ينطلق من الغرب، وتقديم الجواب المناسب له، وضمان نشر هذا الجواب في الفضاء الإعلامي الغربي. هذا كلّه يعتبر جزءاً لا يتجزّأ من تشكّل العالم المتعدّد الأقطاب، والوعي بأهمية امتلاك الشرق لصوته وأدواته، وأن لا يصل هذا الصوت إلى الدول المستضعفة فحسب، وإنما إلى الدول التي تمتلك أدوات التضليل والهيمنة وتشغّلها أيضاً.
وفي هذا الإطار، إنّ تصفية المقاوم العربي الشريف نزار بنات، والذي استخدم الكلمة والفكر سلاحاً ضدّ العدوان والمعتدين، تعتبر سابقة خطيرة ومشؤومة في أعقاب الهبّة الفلسطينية والمنجزات التي تتحقّق ببطء، ولكن باستمرار، من حيث إنارة درب الناس بالكلمة الصادقة المعبّرة عن الواقع، بعيداً عن النفاق الغربي وتلاعبه بالحقائق والوقائع والأسلوب والجملة والكلمة.
إنّ أكثر ما تأثّرتُ به لخسارة الشهيد نزار بنات هو ما قالته والدته المكلومة: “أعطوا الحرية للمثقفين؛ فنزار كان موسوعة، وحرام أن يموت هكذا”. في هذه الجمل، عبّرت هذه السيدة المقاومة، والتي ربّت نزار على المقاومة، عن حرصها على القضية وعلى فلسطين، رغم خسارتها الشخصيَّة لابنها، لكنها اعتبرته خسارة لفلسطين وللقضية، لأنه كان موسوعة.
كم هي نبيلة أولاً! وكم هي محقّة ثانياً! لأنهم في الحرب على امتلاك الصوت، يريدون تصفية الأصوات الحرّة والمنتمية في كلّ مكان، كما فعلوا دائماً، من ناجي العلي، إلى غسان كنفاني، إلى مئات الشباب المثقف المقاوم، وفي الوقت ذاته يحجبون المواقع ووسائل الإعلام.
لقد لفت نظري في مؤتمر الأمن الدولي الذي عُقد في سانت بطرسبرغ منذ أيام أنّ وزير خارجية الجزائر شكر روسيا على دعم سوريا في مكافحة الإرهاب. وفي المؤتمر ذاته، حذّر الرئيس بوتين من أنّ النظام العالمي يتمّ تقويضه، وأنّ محاولات البعض لتحقيق مصالحهم وتعزيز أمنهم على حساب أمن الآخرين مستمرةٌّ من دون رادع، بينما أكّد أنّ روسيا تحاول توسيع قاعدة التعاون الخلّاق بين الدول على أسس متساوية وبالوسائل السّياسية والدبلوماسيّة. وفي الأمم المتحدة، أكّد مندوب الصين، في وجه المحاولات الغربية لفرض فتح المعابر إلى سوريا، أنّ “تحسين الوضع الإنساني في سوريا يتطلّب جهوداً عالمية مشتركة ونهجاً شاملاً”.
إذاً، اليوم في المنطقة والعالم، وصلنا إلى نقطة يشعر فيها الغرب بأنّه يكاد يفقد سيطرته وهيمنته على منابع الثروات العربية التي ينهبها، من خلال قمع شعوبنا وتصدير أدواته الإرهابية، وهو يتحسّس بداية خلل في احتكاره التاريخي لإيصال الصورة التي يريد إلى أذهان الشعوب.
من ناحية أخرى، هناك يقظة صينية – روسية – إيرانية – فنزويلية – سورية – فلسطينية – جزائرية، تشمل عدداً كبيراً من دول العالم، ضاقت ذرعاً بالهيمنة الغربية، وقرّرت اجتراح الأساليب والسبل لإيصال صوتها إلى مبتغاه. نحن في مرحلة قلق شديد لدى القطب الواحد من فقدان هيمنته، وإدراك متسارع للأقطاب الأخرى بقدرتهم المؤكدة على بناء عالم جديد على أساس المصير المشترك والكرامة المتساوية لبني البشر.
إنّ الكلمة في هذا الصراع هي من أمضى الأسلحة، كما أن المثقفين والمفكرين والكتّاب المؤمنين بقضاياهم جنود أساسيون. علينا جميعاً الانتباه إلى محاولات الفتك بهم أو تشويه ما يكتبون وما يقولون لمصلحة القوى المعادية، فالعملاء المأجورون اليوم يعملون في الداخل والخارج، وقد يكون عملاء الداخل أكثر قدرة على إلحاق الأضرار بقضايانا. لا وجهات نظر في مسألة الحقّ والباطل، ولا وجهة نظر بين الانتماء والخيانة. المرحلة مرحلة حسم ووضوح وشجاعة على تسمية الأشياء والأشخاص بمسمّياتها، وعلى تأبّط الصبر والمثابرة والإيمان بالانتصار زاداً مستمرّاً لكلّ الشرفاء المؤمنين بقضايا شعوبنا المحقّة والعادلة. فلنُعِد للّغة مكانتها، وللكلمة المقاومة مكانها.