مقالات

التمهيد لـ”الصفقة”.. عندما كان مشروع التطبيع لا يزال في درج الإمارات بقلم| علي فواز

بقلم| علي فواز

لم تنتهِ مفاعيل معركة “سيف القدس” وما واكبها من ملحمة، على امتداد فلسطين المحتلة. تداعيات ما حدث لا تقتصر على المستويات الاستراتيجية والسياسية، أو الأمنية والعسكرية. الآثار والنتائج ممتدّة وحاضرة في الخطاب التطبيعي، الذي جرى تقويض أبرز مرتكزاته.

لاحت تباشير هذا الخطاب قبل “صفقة القرن” وعلى أعتابها، قبل أن تنجلي ملامحه بوضوح أكثر مع توقيع “اتفاقيات أبراهام”. “الصفقة” وتوابعها لا تقف عند حدود اتفاقيات التطبيع التي أعقبتها، سواء المنجزة منها أو تلك التي كانت منتظَرة (السعودية تحديداً). يمكن ضم “الدين الإبراهيمي” الجديد إلى ما سبق، والمشاريع الاقتصادية أيضاً، لنصبح أمام مشروع متكامل ومتجدِّد، يقوم على دعامة متعددة الأضلاع: “صفقة القرن” و”اتفاقيات أبراهام” و”الدين الإبراهيمي” والمشاريع الاقتصادية. هذا ما طفا على السطح خلال فترة ترامب على الأقل، بموازاة التطبيع الناعم عبر الإعلام وبوسائل متعددة، بالإضافة إلى الأدوات السياسية والأمنية والعسكرية، دائمة الحضور، ولاسيما ما برز منها خلال “الربيع العربي”.

مشروع قديم متجدِّد
تلاشت “صفقة القرن” لكنّ مشروع الأسرلة والهيمنة الإسرائيلية على المنطقة مستمر، وإن أدّت معركة “سيف القدس”، في زخمها وتداعياتها، إلى لجمه وتوهينه. ليست “صفقة القرن” سوى نسخة محدَّثة، أو مرحلة جديدة، في إطار مخطَّط واسع ومتجذِّر. يصعب تصوُّر أن مشروع “الصفقة” (باعتباره خطوة متقدمة لتصفية القضية الفلسطينية) هو ابن لحظته، ومرتبطٌ فقط بالديناميات الداخلية للدول والكيانات المنخرطة فيه. بمعنىً آخر، هو ليس فقط وليد تقاطع ظروف أَمْلَتها حاجة بنيامين نتنياهو إلى تظهير إنجازات لجمهوره، وحاجة دونالد ترامب إلى أصوات الإنجيليين المتصهينين، ورضوخ دول الخليج المطبِّعة لضغوط الأخير وابتزازه، وحاجة السودان إلى رفعه عن لائحة الدول الداعمة للإرهاب، وبالتالي إلى رفع العقوبات عنه.

هذا في جانب منه صحيح. لكنّ تتبّع مسار السنوات الأخيرة حتى قبل وصول ترامب إلى البيت الأبيض، يقود إلى فرضية مغايرة. تقوم هذه الفرضية على قراءة معاكسة، تنطلق من وجود مشروع مُعَدّ سلفاً. ولأجل تحقيقه يجب خلق الظروف المُلائمة. ظروف، من مثل وجود شخصية حاكمة في السعودية، مطواعة ومغامرة وضعيفة إلى درجة القبول بكسر التابوهات، بالإضافة إلى كسر العوائق والنظم السياسية التي تعترض هذا المشروع، مثل الحلقة السورية والحلقة العراقية. في هذا الإطار، تكشف الرسائل المسرَّبة للسفير الإماراتي في واشنطن، يوسف العتيبة، كثيراً بشأن توصيته بمحمد بن سلمان، وتسويقه لدى إدارة ترامب، باعتباره الشخص القادر على إتمام المُهمة. تُضاف هذه الرسائل إلى غيرها من المؤشِّرات التي تتنافى مع الظرفية، وتدعم وجود مشروع أكبر وأشمل وأكثر قِدَماً، يتجاوز إدارة ترامب إلى دوائر نافذة، لا تأتي وتذهب مع كل موسم انتخابي.

ماذا تكشف رسائل العتيبة؟
تكشف رسائل يوسف العتيبة، التي سرَّبتها مجموعة أطلقت على نفسها اسم “غلوبال ليكس”، أن مشروع الأسرلة والتطبيع التي انخرطت فيه الإمارات يسبق وصول دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة الأميركية ولا يرتبط به إلاّ من زاوية ظَرفية. وإلاّ فما معنى أن يستمرّ التحالف الوثيق بين الإمارات و”إسرائيل”، ويتعزز التعاون أكثر في مختلِف الأصعدة، إلى حدّ الاندماج في المشروع الصهيوني بعد رحيل ترامب، وفي وقت أصبح نتنياهو نفسُه مهدَّداً بفقدان السلطة؟

تَشي الرسائل المنشورة منتصف عام 2017، بوجود تعاون إماراتي وثيق ومزمن مع اللوبيات الصهيونية في واشنطن، وتعكس تطلّعات أبو ظبي إلى دور طَموح في المنطقة، مندمج في المشروع الصهيوني، ومندرج تحت هيمنته.

إذا تتبَّعنا الخطاب الرسمي الإماراتي بموازاة خطوات التقارب مع “إسرائيل”، خلال السنوات الماضية، يمكن أن نلاحظ كيف تدرَّجت الأمور، وكيف جرى تمهيد الطريق أمام علاقات دبلوماسية علنية، وهو المسار الذي كانت بدأته السعودية قبل أن يُجمَّد مع رحيل ترامب، لأسباب تتعلق على الأرجح بالتحديات التي يواجهها محمد بن سلمان.

قبل مجيء ترامب، وتحديداً في أواخر عام 2015، أعلنت “إسرائيل” أنها ستفتتح ممثلية دبلوماسية لدى الوكالة الدولية للطاقة المتجددة (إيرينا) في الإمارات. قبلها بسنوات، سعت أبو ظبي لأن تحتضن مقرّ الوكالة على أراضيها، وبدعم إسرائيلي، كما سيتَّضح.

في البداية، نفت الإمارات أن يكون لذلك أيُّ أبعاد سياسية، مدّعيةً أن النظام الداخلي للوكالة يفرض على دولة المقر أن تستضيف جميع الدول الأعضاء، وهي مضطرة، لهذا السبب، إلى أن تستقبل “إسرائيل”. بمعنىَ آخر، جرى العمل على توفير بيئة وظروف معيَّنة، تسمح لاحقاً بتمهيد الطريق للوجود الإسرائيلي في الإمارات، تحت حجة “أننا مقيَّدون بالأنظمة”. المسكوت عنه هنا هو: الأنظمة التي كنا نعرف مسبَّقاً أننا سنتقيَّد بها.

أكَّدت الخارجية الإماراتية وقتَها “أن أيّ اتفاقات بين إيرينا وإسرائيل لا تمثل أي تغيير في موقف الإمارات أو علاقاتها بإسرائيل”.

وذكرت “هآرتس” حينها أن الوجود الرسمي الإسرائيلي في أبو ظبي كان خاضعاً، طوال سنوات، لمحادثات بقيت طيَّ الكِتمان الشديد. وأضافت الصحيفة أن هذه الفكرة دفعت “إسرائيل” إلى دعم الإمارات في مواجهة ألمانيا، في معركة اختيار مقر الوكالة عام 2009 .

يمكن مقارنة حُجّة الإمارات في ذلك الحين بتبرير آخر سيقَ بعد التوقيع على “اتفاقيات أبراهام”، بحيث جرى، إعلامياً، التسويق أن الهدف من التوقيع هو “إحباط الجهود الإسرائيلية لضمّ أجزاء من الضفة الغربية”!

التطورات اللاحقة جبّت كل هذه التفاصيل، وكشفت حقيقة الاداعاءات الخليجية المُطبِّعة والخطاب الإعلامي المُوجَّه إلى شعوبها في الدرجة الأولى، وإلى الشعوب العربية في درجة أقل.

إن عشرات المعاهدات والاتفاقيات الموقَّعة اليوم بين “إسرائيل” والإمارات، والتي تتعدّى المجالات السياسية والاقتصادية، إلى التعليم والثقافة والأمن، تشير إلى مشروع جرى التخطيط له على مدى سنوات، ولم يحدث عند مفترق تاريخي تقاطعت فيه المصالح والاعتبارات السياسية والديناميات الداخلية. إنه مشروع تأبيد الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة، في نسخته الجديدة، والذي يرى بعض المتابعين أنه يتجاوز أبو ظبي إلى ما هو أبعد.

في لحظة وجدها صاحب القرار مؤاتية، أُزيلَ القناع، وتم تجاوز كل التدبيجات الكلامية السابقة، وجرى الكشف عن المشروع المُبيَّت.

تسعى الإمارات، في إطار هذا المشروع، لأن تتجاوز الدور السعودي. وتكشف التسريبات أن محمد بن زايد هو عرّاب محمد بن سلمان. وبحسب موقع ذي إنترسبت، فإن العتيبة هو الدبلوماسي الذي ضغط سياسياً داخل واشنطن لدعم جهود ابن سلمان داخلياً، من أجل تعطيل مسار وراثة الحكم، ووضع نفسه على بُعد خطوةٍ واحدةٍ من العرش. كان وراء هذا الدعم سببٌ وجيه، ينسجم مع قناعة أبو ظبي بقدرتها على فرض تأثيرها في السعودية، وليس العكس. وينسجم مع الدور الريادي ضمن المشروع الكبير الذي لم يكن قد آن أوان الكشف عنه بعدُ.

في تشرين الأول/ أكتوبر 2015، أي قبل وصول ترامب إلى البيت الأبيض، قدَّم العتيبةُ، محمد بنَ سلمان إلى ديفيد بترايوس، القائد الأسبق للقيادة المركزية في الجيش الأميركي، والذي شغل منصب رئيس وكالة الاستخبارات الأميركية.

وكتب بترايوس، في رسالةٍ عبر البريد الإلكتروني، إلى العتيبة، في أعقاب اللقاء: “رائعٌ بصراحة. رؤية مُذهلة. وجزءٌ منها قيد التنفيذ بالفعل. لو تحقَّق نصفها فقط، فسيكون أمراً استثنائياً”.

وأجاب العتيبة، في إشارةٍ إلى وليّ عهد الإمارات: “يُشاركك محمد بن زايد التقييم نفسه. عليك الآن أن تنقل ذلك التقييم إلى الإدارة الشديدة التشكُّك والقلق بشأن محمد بن سلمان، إذ حثثتهم على الاستثمار فيه كما فعلنا نحن”.

التغيير.. ثم التغيير
عام 2015، زار محمد بن سلمان واشنطن. تواصَلَ في إثرها ديفيد إغناتيوس، من صحيفة Washington Post، مع العتيبة، ليُشاركه مقاله الأخير عن ابن سلمان. وجاء تعقيب العتيبة في رسالةٍ عبر البريد الإلكتروني، نشرها موقع The Intercept، بحيث كتب:

“شكراً على الوقت الذي أمضيته في الخروج ولقاء محمد بن سلمان. وكشخصٍ يعرف المنطقة جيداً، يبدو، من الأسلوب الذي كتبت فيه مقالتك، أنك بدأت تُدرك ما كُنا نتحدّث عنه طوال العامين الماضيين: التغيير! التغيير في السلوك، والتغيير في الأسلوب، والتغيير في النهج”.

بذلك، تبدو الإمارات كأنها تَمضي في مسار في اتجاه واحد، لا خط رجعة فيه، ومُعَدّ مسبَّقاً. المشكلة التي تواجهها، أنها في موازاة خطوات الأسرلة وما يستتبعها من متطلِّبات تسويقية لدى الرأي العام، تصطدم بعنصرية إسرائيلية متأصلة، وغير مستعدّة للتنازل، في الحد الأدنى، وتسهيل مهمتها. كان هذا الأمر واضحاً من خلال رفض جمهور نادي “بيتار القدس” الإسرائيلي ـ واستنكاره ـ اتفاقيّةَ الشراكة التي اشترى بموجبها أحد أفراد العائلة الحاكمة الإماراتيّة نحو 50% من أسهم النادي.

وبينما تَمضي الإمارات في خطوات التحالف مع “إسرائيل”، يبدو أن أغلبية الصهاينة وقادتهم غير مهتمة حتى ببيع ورقة مقايضة للحكام الإماراتيين، يستطيعون عبرها أن يغلِّفوا استتباعهم، ويصدّروه إلى الرأي العام بعد إخضاعه لعملية تجميل. ففي الوقت الذي كانت الإمارات تسوّق علاقتَها بـ”إسرائيل” على اعتبار أن من شأنها منع الضمّ، كان بنيامين نتنياهو يتعهّد لجمهوره اليميني أن تأجيل الضم ليس سوى خطوة موقّتة.

هكذا يُفهَم من مقال يوسف العتيبة الذي نشره في صحيفة “يديعوت أحرونوت” منتصفَ العام الماضي، بحيث رأى أن الضمّ “سيؤدي بالتأكيد، وعلى الفور، إلى عكس كل التطلعات الإسرائيلية لتحسين العلاقات الأمنية والاقتصادية والثقافية بالعالم العربي وبالإمارات العربية المتحدة”.

لكنْ، بعد عام على نشر المقال، يستمرّ الضمّ والاستيطان، وكذلك الدفءُ الإماراتي في التقارب مع “إسرائيل”، كأنّ صاحب المقال أراد أن يقول: إننا نريد الأسرلة إلى أبعد حدود، لكنكم لا تساعدوننا.

لذلك، رأى تسفي برئيل، في صحيفة “هآرتس”، بتاريخ 14/6/2020، أن المطلوب من نتنياهو هو التعامل مع مقال العتيبة على “أنه وثيقة سياسية وُزِّعت كي يفحصها زعماء الدول، وليس فقط لتشاهدها عيون مواطني دولة إسرائيل”. وأضاف “لا يُعتبر العتيبة وسيطاً يحاول أن يبيع إسرائيل سياسة سيئة، وإنما يثير عدداً من المصالح التي سيخدم تحقُّقُها دولةَ إسرائيل أكثر مما يخدم مصالح دولته”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى