يوتوبيــا مُضــادَّة! بقلم| حسن عبدالوارث
بقلم| حسن عبدالوارث
أنت في غاية الضّيق، لأن أسطوانة الغاز المنزلي في مطبخك فرغت اليوم..
وفي شدّة الغضب أنت، لأن حالة النّت سيّئة جداً، ما يحول دون تواصلك جيداً مع عالمك الافتراضي.
يا إلهي، إن كمية الخضار والفاكهة واللحوم والأسماك في ثلاجتك لا تكفيك لأكثر من أسبوع..
والنّقود في جيبك لا تكاد تكفيك لابتياعك القات لأكثر من خمسة أيام بالكاد.
وها هي الهموم تزدحم في دهاليز جمجمتك بشأن الإيجار وفواتير الماء والكهرباء والهاتف.
وأنت تعتقد، وتُغلظ الاعتقاد تربيعاً وتكعيباً، بأنك أتعس ما خلق الله على وجه الأرض، بل ربّما في درب التبّانة كلّها وعلى الإطلاق.. فهذه الأزمات والمنغّصات والهموم تكاد تدعوك إلى الانتحار بالتأكيد، ولم يبقَ غير اختيار طريقة الانتحار!
لكنك لو انتبهت قليلاً – ولو للحظةٍ واحدة – إلى حقيقة وضعك أو إلى موقفك الحقيقي في الواقع ومنه، لأدركت أن ذلك كله ليس شيئاً البتة قُبالة مأساتك الحقيقية الفادحة..
يا عزيزي، أنت بلا وطن، فقد تضعضع بل ضاع وطنك تحت سنابك كائنات خرافية بل ‘خراءية’ قدّمت من فراسخ زمكانية عديدة قبيل القرون الوسطى..
وأنت بلا هوية، فقد تمزّقت هويتك واحترقت في مشهد الشتات واليباب والدّمار والعدم الذي تعيشه رغم أنفك منذ سنين معدودات..
وأنت بلا قرار، وبلا إرادة، لأنك أسير قرارات أتخذها عنك آخرون، وأسير إرادة غيرك الذين حدّدوا لك حدودك داخلك، ورسموا عنك مصيرك بالرغم عنك وعمن خلّفوك..
ظللتَ تقرأ في كُتب التاريخ، وتشاهد على شاشات التلفزة، ما يُحكى عن جحافل ‘التتار’ و’الفايكنج’ وأشباههم في فترات زمنية مختلفة، وفي مناطق من الكون متعددة..
وها أنت اليوم تلقاهم وجهاً لوجه، وتحملهم بين ظهرانيك، يحكمون ويتحكمون فيك كما يريدون دونما أدنى اعتراض من ظلك ولو في خيالك..
دعك من ربطة العُنق التي تظل طويلاً تربطها قُبالة المرآة كل صباح. إن عنقك مرشح لربطة المشنقة في أية لحظة. فاختر أيّ الربطتين تليق بك!
ثم دعك من السخرية البليدة تجاه الصراع الغابر بين علي ومعاوية – أو بالأصح بين أتباعهما القدامى والجُدد – فهؤلاء جميعاً يقفون هالساعة مُدجّجين بكل سلاح مُتاح على عتبة دارك.. هاهم يدلفون اللحظة إلى صحن دارك.. ويجلسون على مقاعدك الوثيرة الأثيرة، ثم يتجولون كما يحلو لهم التجوال في كل جنبات الدار .. وهاهم يأكلون من طعامك.. ثم يبصقون في المائدة!
وها أنت لا تستطيع معهم حراكاً، ولا تستطيع منهم فكاكاً.. أ تدري لماذا؟.. ببساطة: لأنك لست سيّد نفسك.. ومن لم يعد سيّد نفسه، أشتراه سيّد آخر من الإنس أو الجن، ثم باعه بثمن بخس في سوق العبيد.
أنت لست مواطناً من أية درجة.. ولست مواطناً تنتمي لأيّة دولة.. وإنْ لم تُصدّق ذلك، جُلْ بحثاً عن حقيقتك هذي في كل مطارات وموانئ العالم من أقصاه إلى أدناه!
لم تأكل اليوم لحماً؟.. أنت اللحم الذي يؤكل كل يوم..
لم تنهش فاكهة؟.. أنت الفاكهة التي فسدت ورُميتْ في برميل القمامة..
لم تستمتع بسماع أغنيتك المفضلة؟.. أنت أكثر الأغاني حزناً في التاريخ!
أ تدري.. لن أطلب منك – فيما أنت تشكو همومك السخيفة – أن تجول بناظريك حواليك لترى الجحافل المُجحفلة من بني وطنك وهم جياع (جياع حقيقةً لا مجازاً)، وحسن الحظّ فيهم من يجد كسرة خبز متعفنة في مقلب زبالة..
لن أطلب منك ذلك، فأنا أحقر منك ربّما في هذا الموقف، فكلّما رأيت هذا المشهد أدرتُ وجهي شطر الفراغ..
أو تدري يا هذا.. في العام 1516م، نشر رجل أحمق يُدعى توماس مور فلسفته السخيفة عن ‘يوتوبياه’ القائمة في الوعي والوجدان المنسلخين عن واقعنا الحقيقي.. لو كان هذا التافه مُقيماً في هذا اليوم في هذا البلد لأدرك حقيقة ‘اليوتوبيا’، ولكن على نحوها المضاد، لأنه بضدها تتميّز الأشياء..
فما يحدث اليوم وهنا هو ‘اليوتوبيا’ الحقّة، المضادّة لكل ما هو سخيف في الفكر والطبيعة والمجتمع والعالم، والمضادة لكل ما هو غير حقيقي البتّة في عالمَيْ الواقع المادي والخيال الطوباوي على السواء..
قُمْ إذنً ولملم أشلاءك المُلقاة على كاهل الزمن المُنفلت من عِقال الحضارة..
تلكم الأشلاء لن تستطيع ترميمها، يكفي أن تجمعها لتلقيها على قارعة الدرب أو مزبلة الوقت..
فقط، أقول لك: حاول العيش مرةً أخرى، مُجدّداً، بعد ألف عام!