الأخبارتقارير وتحليلاتمحليات

“هوية عدن” تقاوم “التهشيم”.. معالمها الفريدة تعاني تبعات الصراعات

حيروت – عدن

ليست الأهمية الجيوسياسية وحدها من جعلت عدن ذات حظوة محلية وإقليمية وعالمية، ولا تنوّعها المعرفي الذي جعل منها مدينة لكل اليمنيين وحسب، بل هناك ما هو أبعد من ذلك، يتمثل في هويتها المميزة المُوثِّقة لمراحل تاريخية عدة تعاقبت على عدن.

ولكل مرحلة بصمتها الخاصة المعبِّرة عن هوية أهل تلك المرحلة، حتى إنك حين تتجوّل في شوارعها القديمة تعيش تفاصيل مزيج معماري مبهر، يُشار إليه بالبنان، ولكل مكان قصة عالِقة في الأذهان، تتداولها كتب التاريخ، وتتوارثها الأجيال، من بينها العمارة العدنية، ذات الطابع المرتبط بسجايا عدن الأرض والإنسان.

لكن ما يُطلق عليها بثغر اليمن الباسم، تعرّضت لصدمات عدة، إثر معارك سياسية تطوّرت لتصبح مواجهات عسكرية حاولت تهشيم صورة المدينة المنفتحة على الجميع، وعملت بشكل أو بآخر على تحطيم عدد من معالمها التي تُعرف بها، وأهم تلك المعالم التي تعرضت للتهشيم، وحاول البعض تجاوزها، يتمثل بالعمارة العدنية ذات الطراز العدني الفريد.

هوية عدن

يحاول مازن شريف عبر منظمته عدن أجين إعادة الاعتبار للعمارة العدنية، عبر مشروع يحمل اسم “هوية عدن”، الذي يركز من خلاله على الطابع العدني للعمارة، بما يؤسس لدراسة عن الإرث المعماري في عدن، لتكون بمثابة المرجعية البحثية للدارسين والباحثين المحليين والدوليين، بحسب تصريح شريف لـ”خيوط”.

يختص المشروع بالمنازل المميزة لعدن القديمة، وكان لكون مازن من سكانها تأثيرٌ كبير في توجهه لإحياء هذا الإرث الإنساني العريق.

لماذا لم يتم توثيق هذا الطابع؟ ولماذا لم يتم الاعتراف به؟ هذان السؤالان كانا وراء فكرة المشروع، لتوثيقه بعدد من الإجراءات العملية؛ كان أولها تدريب طلاب العمارة والهندسة المدنية والديكور الداخلي عليه، وتوعية سكان وملاك هذه المنازل بأهمية الحفاظ عليها، وذلك عبر جمع عدد من السكان، وطلب المساعدة بدخول المنازل وتوثيقها من الداخل والخارج، وفق ما قاله شريف لـ”خيوط”.

سيُبنى على هذا المشروع في نهاية المطاف دليل مصوّر لعدن القديمة بتفاصيلها العتيقة، وبطابعها المعماري الفريد، بالإضافة إلى الدراسة ذات الأبعاد الأكاديمية أكثر منها فنية.

تطلعاتٌ وآمال

لا يخفي الصحفي جمال الردفاني سعادته بهذا المشروع الذي يأتي بعد عقود من تسييب وإهمال هوية العمارة العدنية، حتى بتنا نخشى اندثارها، جراء تأثرها بالعوامل الطبيعية وغير الطبيعية، حسب خيوط.

يضيف الردفاني، أن الحرب أوغلت في الضرر بالمنازل والمعالم التاريخية في عدن، إضافة للتغاضي المجتمعي المستغرب عن النظر للطابع المعماري العدني بعين الاعتبار؛ لتجسيده في البنايات الحديثة، والتي من المفترض أن تأخذ نفس الطابع المعماري العدني كجزء من الهوية العدنية وكغيره من الطوابع المعمارية.

ويأمل الردفاني أن يعمل مشروع “هوية عدن” على إحداث تغيير إيجابي، ينعكس لصالح تجسيد الطابع المعماري العدني في مختلف البنايات، ويعيد صيانة وتأهيل المباني العدنية التاريخية، كما يعمل على إعادة المدينة القديمة في كريتر إلى وضعها الطبيعي بعد تأثرها بالإضافة الحديثة على البنايات، آملًا أن يتم دعم المشاريع القائمة على البناء بالطابع المعماري العدني، وتسهيل وصول الاحتياجات اللازمة للعمل، وجعلها في متناول الجميع؛ لإبراز الطابع المعماري العدني، وإعادته إلى الواجهة، بما يليق بالمدينة وهويتها وعراقة ورُقي تفاصيلها التاريخية الأصيلة.

آثار الحرب

لا يوجد في عدن أيٌّ من المواقع الأربعة اليمنية المدرجة في قائمة التراث العالمي التي تديرها اليونسكو، ومع ذلك، ترك تاريخ عدن الطويل من التبادلات الثقافية والسياسية والاقتصادية المشتركة أثرًا لا يُمحى في تراثها الثقافي وتركيبتها الفريدة من نوعها.

ووفقًا للدراسات الاستقصائية الميدانية التي أجرتها اليونسكو، فإن أكثر من %95 من المواقع التراثية في المدينة قد تعرّضت لأضرار كبيرة ناتجة عن الصراع، بحسب ملف التنميط الحضري الخاص بعدن، الذي أعده برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية، إذ تعد عدن أول مدينة في شبه الجزيرة العربية تنشئ متحفًا في ثلاثينيات القرن التاسع عشر.

وأثّر الصراع الأخير بشدة، وإن كان متفاوتًا، على المواقع التراثية في اليمن، وعلى الرغم من الحماية الخاصة الممنوحة لها لأهميتها التعليمية والثقافية والدينية بموجب القانون الإنساني الدولي، فقد تضرر العديد منها أو دُمّرت إمّا جراء الغارات الجوية أو الهجمات المحلية بين أطراف الصراع.

وقد قامت اليونسكو بتقييم العديد من المواقع التراثية من خلال مسح ميداني من أجل فهم أثر الصراع على المباني. وشمل المسح 45 موقعًا، من بينهم 43 موقعًا (%96)، قد تأثّر.

ومن بينها %42، تعرّضت لأضرار كبيرة، و2% انهارت تمامًا، أما المتبقي منها: 21% تعرّضت لأضرار متوسطة، و35% أضرار بسيطة، ولاحظ التقييم أضرارًا متوسطة في صهاريج الطويلة التاريخية.

توصل المسح إلى أن حوالي نصف المواقع التي شملتها الدراسة هي مبانٍ سياحية، إضافة إلى 15% من المباني الدينية، والبقية هي مباني الخدمة العامة. يتطلب حوالي 25% من المواقع تدخلًا على شكل ترميم، و25% أخرى تتطلب سقفًا مؤقتًا، و15% تتطلب الصيانة، و35% تتطلب هدمًا كليًّا أو جزئيًّا بسبب مستوى الضرر، ومبنى واحد يتطلب إعادة بناء كامل.

ومن بين المباني التي دمرت بالكامل أو جزئيًّا العديد من مباني المدارس القديمة، فضلًا عن المنازل القديمة التي تحمل هوية معمارية مميزة في المدينة القديمة، كما تضررت البنية التحتية في عدن القديمة بشدة، وفي التواهي، دُمرت بوابة رصيف السياح، المعروف باسم رصيف بوابة الأمير ويلز، التي أقيمت خلال الحكم البريطاني، ويجري حاليًّا النظر في ترميمه بتمويل خاص، كذلك الحال بالنسبة لمبنى وزارة السياحة، في التواهي، المتميز بواجهة معمارية فريدة من نوعه، وفق ما أورده ملف التنميط.

مخاوف

يرى الدكتور لبيد جابري، رئيس قسم التاريخ في كلية التربية بجامعة عدن، أن هناك تجريفًا متعمدًا يستهدف الهوية العدنية برمتها، ولا يحترم مكانة وحضور هذه المدينة العتيقة عبر المراحل التاريخية.

ولا يخفي جابري مخاوفه من أن تتحول عدن إلى مدينة بلا هوية، خاصة ومناطقها القديمة لا تحظى بالرعاية والدعم اللازمين، حتى على مستوى التوثيق والحماية، باعتبار ذلك مرتبط بالوجود الإنساني في المدينة، التي لا تستحق ما هي فيه اليوم.

ويتطلب الأمر عملًا مشتركًا بين السلطات والمجتمع والمنظمات المحلية والدولية بما يساهم في الحفاظ على هوية المدن التاريخية كلها.

وبالنظر إلى حال معالم عدن وآثارها، فإنه لا يختلف كثيرًا عن حال مدن أخرى، كتعز وزبيد وذمار ومأرب اللواتي دفعن ضريبة الحرب الدائرة منذ سنوات من إرث الإنسان اليمني الحافل بالشواهد الملموسة على مر العصور؛ غارات جوية من قبل طائرات التحالف العربي، وساحة صراع يُقدّم فيها اليمني أنفس ما يملك من ماضيه وحاضره وحتى مستقبله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى