مقالات

قَـلُّـوعَـنْ “نصُّ المكان” بقلم/ حسن عبدالوارث

بقلم/ حسن عبدالوارث

تتجلّى تفاصيل الحياة العامة واليومية في الحواري والأحياء الشعبية كواحدة من أهم منابع الالهام الكتابي في الصحافة والأدب وفي البحث العلمي أيضاً.
ويشهد المشهد الأدبي العربي لعدد من الكُتَّاب والأدباء – أبرزهم نجيب محفوظ – قدرتهم الفذّة على تجسيد هذه الخارطة (بما تحفل به من بشر وأمكنة وعلاقات ووقائع)، واستلهام كل ذلك في أعمال أدبية باتت خالدة.
ومثل نجيب محفوظ في الرواية محمود السعدني في الصحافة، إذْ عكس معظم كتاباته هذه الوقائع ومكنونات الواقع في لوحات صحافية ساحرة وساخرة مجّدت هذا اللون من الكتابة.
وهذه – فقط – نماذج أذكرها على سبيل المثال.
ومثلها – يمنياً وعلى سبيل المثال أيضاً – نجد حواري وأحياء عبدالرحمن بجاش وفكري قاسم، ولن نمرّ مرور الكرام على أمكنة ومقاهي محمد عبدالوهاب الشيباني.
إن حميمية الحياة في صميم الحارة الشعبية ذات نكهة متميّزة للغاية، مثلما هي ذات أرضية خصبة لاستنبات الخيال الأدبي ودرس الواقع الاجتماعي على السواء.
وتتجلّى أهميتها في الإبداع الأدبي والفني، وفي الدراسات السوسيولوجية والأنثروبولوجية، عدا كونها زاداً دسماً جداً في الفكر الاقتصادي – الاجتماعي والسياسي.
إن تجوالاً رحباً في منتوجات الأدب اللاتيني – مثالاً – أو في الصحافة المصرية أو في الفنون الأفريقية أو في الدراسات الآسيوية – لاسيما في أقصى شرق القارة – تمنحك بانوراما حقيقية لأهمية الحياة في الأحياء الشعبية وقدرتها الفذَّة على استلهام الكثير من المفاهيم التي تكتظ بها تفاصيل هذه الحياة، بل الحيوات، في شتّى المجالات.
ولعلّ الصحافة والأدب خير من يستطيع تجسيد واستلهام وتمثُّل ذلك بكل دقة وعُمق ووضوح، وبالتالي خلق ما يمكن تسميته “نصّ المكان”.
تتداعى هذه الخواطر إلى ذهني كُلما هممتُ بمحاولة الكتابة عن الحيّ الشعبي الذي نشاتُ بين جنبات حواريه وزغاطيطه ردحاً من الزمن.
وهو واحد من أبرز الأحياء الشعبية في مدينة عدن، يُعرَف شعبياً بمُسمَّى “القَلُّوعة”.
وهذه التسمية لصقت به بالاستعارة من مفردة صومالية الأصل هي “قَلُّوعَنْ”، التي تعني: المنعطف (أو: العَصْرَة، بالعامية).
فهذا الحي يقع بعد منعطف يُداهم القادم من حي المُعلاَّ شرقاً أو من حي التواهي غرباً.
وبرغم أن هذا الحي قد حمل رسمياً اسم الروضة ثم حي الثورة، إلاَّ أن تسمية القلوعة ظلت هي السائدة.
وقد نشأ في حوافي هذا الحي عدد من أبرز الوجوه والأسماء التي عرفتها عدن منذ الخمسينيات في القرن المنصرم، في ساحة الثورة والسياسة، وفي حقل الكتابة وسائر الفنون، وفي ميدان الرياضة لاسيما كرة القدم.
وكان معظم هؤلاء يرحلون عن هذا الحي بعد حين، إلاَّ أن بصماته وذكرياته تظل علائم راسخة في وعيهم ووجدانهم مدى الحياة.
إن تاريخ القلوعة وتفاصيل حيواتها وشخوصها لهي جديرة بالكتابة والدراسة على السواء.
غير أن قصورنا الجمعي في الإلمام بمثل هذه الظواهر يحول دون إتمام مثل هذه المهام على الدوام.
وأكاد أتخيَّل ركاماً من الوقائع والحقائق والأحداث التي حفل بها تاريخ هذا الحي، وهو يحترق في اللحظة التي مرَّ علي صالح وعلي سالم من ذلك النفق الرابض على خاصرة هذا الحي في ذلك النهار الضبابي، ليدخل الوطن كله بعد تلك اللحظة في نفق تاريخي، بعد أن كان المأمول أن يخرج من النفق لا أن يدخل في عتمته وعدمه!
إن هذا الحي ظل منعطفاً في الجغرافيا وعَصْرة في التاريخ (منذ نشأته قبل أكثر من سبعين عاماً)، وبالتالي ظل دائماً مجرد ثقب أسود في المشهد العام، إذْ غاب عن الذاكرة الإبداعية تماماً، فيما حضر في المرويّات المهلهلة عن قصص الفقر وحكايات البلطجة وأخبار الهامش الاجتماعي الذي لا يحفظه كتاب، ولا تذكره صحيفة، ولا تهتم به شاشة تلفزة !

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى