مقالات

تأثير الإشهار في التنشئة الاجتماعية للأفراد في زمن التواصل الجماهيري بقلم/ عنان نجيب

بقلم/ عنان نجيب

الفكرة التي تؤطّر هذا المقال تتأسّس على موقف معرفي يأخذ معناه في العلوم الاجتماعية والإنسانية، وهي أن الأذواق والمواقف والاتجاهات بناءات اجتماعية، وليست معطى، بمعنى أنَّها مكتسبة من خلال سيرورة من التفاعلات بين الذات والمجتمع. وفي كل سياق، تتم إعادة صياغتها وتشكيلها. إنها ليست معطى، بمعنى أنها ليست ثابتة، بل متغيرة ومتحولة.

يرتبط الإشهار بالمجال التجاري، وخصوصاً عملية البيع والترويج للسلع والخدمات، إلا أنه أصبح في وقتنا الحالي يفرض نفسه كما لو كان إنتاجاً فنياً أو أدبياً في خدمة أهدافه النفعية التي كان الخطاب العادي يؤديها أيضاً في السابق، ذلك أن الإشهار بأشكاله وإمكانياته الحالية أضحى حاضراً في كل الأمكنة، وعبر جميع وسائل الاتصال، حتى إن حياة الناس وأنشطتهم اليومية أصبحت مشروطة بإغراء الصورة والحركات والألوان والخطاب المصاحب الذي شكل أهم دعائم الإشهار التعبيرية.

الإشهار صوت يدعي إنتاج وسائل التواصل الإقناعية داخل المجتمع، وبشكل مباشر في اللغة ونسق القيم والمعايير الفكرية وأنماط الحياة، كما يتحدد باعتباره ضابطاً ثقافياً كمرآة ومحرك في الوقت ذاته، وهو الشيء الذي سيجعلنا نفكر بطريقة تحليلية إجرائية تدخلنا عالمه، لنستنتج من خلالها السيرورة العملية التي ينتقي بها الإشهار وسائله التي تستهدف المتلقي، سواء في المجال التجاري أو الاجتماعي أو الثقافي.

ويمكن طرح السؤال التالي: إلى أي حد يعتبر الإشهار وسيلة للتأثير في التنشئة الاجتماعية للأفراد؟ وما الدور الذي يقوم به في بناء المواقف والتوجهات وتغييرها من خلال الإعلام؟

تعريف الإشهار
الإشهار هو وسيلة للإعلام والدعاية لمنتج معين. ومن خلاله، يقوم صاحب المنتج بدفع ثمن هذا الإشهار لوسيلة من وسائل الإعلام من أجل النشر والتعريف بمنتجه. وفي هذا الصدد، عرف محمد الصافي الإشهار بقوله: “عملية تواصلية تتحرك ضمن محيط إنساني. إنه يشير بدوره إلى استراتيجية إبلاغيه قائمة على الإقناع، وتستعمل لذلك كل وسائل الإتصال الإنساني من كلمة وصورة ورمز في أفق التأثير في المتلقي المستهلك، والدفع إلى اقتناء منتج ما والتسليم بأهميته وتفضيله على باقي المنتجات”[1]. يتبين لنا من خلال هذا التعريف أن الإشهار هو استراتيجية إبلاغية يستعملها المشهر لنشر منتجه عن طريق الإقناع، ويتم الاستعانة بوسائل الاتصال التي قد تكون سمعية أو بصرية. وهنا، تكون الغاية هي التأثير في المتلقي.

وفي تعريف آخر لأحمد عبد الفتاح سلامة، يقول: “الإشهار هو مختلف نواحي النشاط التي تؤدي إلى نشر وإذاعة الرسائل الإعلامية المرئية أو المسموعة على الجمهور، بغرض حثه على شراء سلع أو خدمات أو من أجل استمالته إلى التقبل الطيب للأفكار أو الأشخاص أو المنشآت المشهر عنها”[2].

إذاً، يتضح من خلال هذين التعريفين أن الإشهار يشكل الوسيلة أو الجسر الأساس الذي يمر منه الفرد لاقتناء منتج معين عن طريق وسائل الإقناع المتعددة، ثم إن الإشهار مرتبط بالمحيط الانساني والثقافة المجتمعية.

مفهوم التنشئة الاجتماعية
هي عملية تلقين معايير المجتمع وعاداته وتقاليده وأخلاقه للأفراد. وفي ذلك، يقول أنتوني غيدنز: “تتجسد الثقافة في الجوانب الاجتماعية المتعلمة غير الموروثة. ويطلق مصطلح التنشئة الاجتماعية على العملية التي يتعلم بها الأطفال أو الأعضاء المستجدون في المجتمع أساليب الحياة في مجتمعهم. وتعد التنشئة الاجتماعية هي الوسط الأول والقناة الأساسية التي يجري فيها نقل الثقافة وانتقالها على مدى الأجيال”[3].

من خلال هذا التعريف، يتبيّن لنا أن التنشئة الاجتماعية هي بناءات ثقافية تتمثل في القواعد والمعايير التي يستدمجها ويمارسذها الجيل الراشد على غير الراشد، بمعنى أنه يتعلم اكتساب مجموعة من القيم والمعايير، وهي السيرورة الاجتماعية التي تمكّن الفرد من أن يكوّن هويته ويصبح عضواً داخل المجتمع. وبالتالي هي نتاج تفاعل الفرد داخل أسرته ومحيطه الاجتماعي.

وفي تعريف آخر لأنتوني غيدنز، يقول: “تتدخل في عملية التنشئة الاجتماعية عوامل فاعلة تتولى الأدوار والمسؤوليات التي تقوم بها الأسرة. ومن جملة هذه العوامل، المدارس وجماعة الأقران والمؤسسات ووسائل الاتصال والإعلام. وفي هذه السياقات كلها، تسهم هذه التفاعلات الاجتماعية في تعليم الفرد منظومة القيم والمعايير والمعتقدات التي تشكل الأنماط والعناصر الأساسية في الثقافة”[4]، بمعنى أن التنشئة الاجتماعية لدى الأفراد تتأثر بعوامل أخرى خارج مؤسسة الأسرة. وتتمثل هذه العوامل في ما يتلقاه الفرد أثناء تعليمه داخل المؤسسات التعليمية، كما تتمثل أيضاً في وسائل الإعلام والاتصال، ثم العلاقات الاجتماعية. وبمعنى آخر، إن التفاعلات الاجتماعية المختلفة تلقّن الأفراد وتعلّمهم وفق المنظومة الثقافية في المجتمع.

تأثير الإشهار في المتلقي
إذاً، يعد الإشهار مؤثراً في الأفراد، لأنه يساهم في بناء الأفكار والمواقف والاتجاهات والقيم والسلوك، نظراً إلى أن الفرد يتميز بكونه يتفاعل شعورياً ووجدانياً لا شعورياً.

وللتدقيق أكثر، سنقوم بتوضيح هذه الفكرة من خلال العودة إلى برنار كاتولا في كتابه “الإشهار والمجتمع”، إذ يقول: “يبدو الإشهاري فعلاً، باعتباره ممثلاً واعياً أو غير واعٍ لبيداغوجيا اجتماعية، ومعلماً للموضات، وأستاذاً لأنماط الحياة، ومديراً لوعي سوسيو ثقافي[5]”.

انطلاقاً من هذا التعريف، يقوم المشهّر بالاستعانة بما يتداوله الواقع الاجتماعي لدى الأفراد، أي لإنتاج إشهار معين، يجب الاحتكام إلى العادات والتقاليد والطقوس والعادات الاجتماعية التي تُبنى عليها أنماط الحياة المعيشة، ثم إلى الوعي السوسيو ثقافي، بمعنى أن المشهر يخاطب المتلقي في ثقافته ونمط حياته وحاجته إلى المنتج، على الرغم من أن المتلقي يمكن أن يستغني عن هذا المنتج، إذ إن الإشهار يقوم ببناء الذوق لدى المستهلك، ويقوده إلى الاقتناء.

يتمثل ذلك من خلال قول آخر لكاتولا: “وفي ما هو أبعد من هذه التبسيطات، هناك مع ذلك مشكلة خاصة بالتطور الاقتصادي الذي يدخل ضمن الاهتمامات المركزية للإشهار. يتعلق الأمر باتهام الإشهار بخداع المستهلك من خلال تركيزه على منتجات غير ضرورية، ومن خلال إقناع الأفراد بشراء الكماليات عندما تنعدم الحاجة إلى الضروري، وهو ما يعوق تكيف المستهلك مع وضعه[6]”.

يتبيَّن لنا أن الإشهار يخلق الحاجة لدى المستهلك، إذ لا يكون المنتج المعروض أحياناً حاجة ضرورية للاقتناء، لكن من خلال وسائل الإقناع والاستراتيجيات المستعملة في الإشهار يُدفع المستهلك إلى شراء المنتج.

بناءً على ما تقدم ذكره، تتضح لنا العلاقة بين المنتج وما يرتبط به من عمليات إشهارية تتم صياغتها انطلاقاً من النسق الثقافي والحاجة لدى المستهلك. هذه العلاقة بين الحاجة والمنتج أصبحت علاقة عكسية، فلم تعد الحاجة هي التي تخلق المنتج، ولكن، وفي إطار تطور الصناعة الإشهارية وما تقوم به من عمليات إعادة بناء الأذواق والاتجاهات وأنماط العيش، أصبح المنتج هو الذي يخلق الحاجة إليه، إذ تمثل بعض المنتجات إلى حد قريب حاجات تكميلية أو لنقل من الكماليات، لكن بفعل تأثير الإشهار صارت حاجات ضرورية (الموضة على سبيل المثال).

وفي سياق آخر، يستعمل الخطاب الإشهاري اللغة كوسيلة من وسائل التأثير، وهي غالباً ما تكون لغة إغرائية تجذب المستهلك للإعجاب بالمنتج وشرائه. بهذا المعنى، يقول برنار كاتولا: “باعتباره لغة شاملة، يعطي التجسيد الجديد للثقافة الشعبية للإشهار شكلاً ومعنى لمجموع الأشكال التواصلية الاجتماعية[7]”.

في ضوء هذا التحليل، تتضح لنا كيفية تغير الأذواق والقيم الثقافية لدى الفرد عن طريق الإشهار الذي يتم بلغة يفهمها المجتمع ككل، وهو بحد ذاته وسيلة للتغير الثقافي الشعبي داخل المنظومة الاجتماعية.

المصادر
[1] – محمد الصافي، الخطاب الإشهاري والدعاية السياسية، ترجمة سعيد بنكراد.
[2]- أحمد عبد الفتاح سلامة، فن الإعلان الإذاعي.
[3] – أنتوني غدنز، علم الاجتماع، ترجمة الدكتور فايز الصياغ، الطبعة 4، مركز دراسات الوحدة، المنظمة العربية للترجمة، بيروت. ص: 87.88
[4] – المرجع نفسه، ص: 88.
[5] : برنار كاتولا، الإشهار والمجتمع، ترجمة سعيد بنكراد، ط 1، 2012، دار الحوار للنشر والتوزيع، ص. 59.
[6] المرجع نفسه، ص: 76-77.
[7] : المرجع نفسه، ص: 88.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى