ما بين التمثيل والتهريج.. تتأرجح الدراما اليمنية: ما سبب الفشل في صناعة بطل؟
حيروت
انقضى ما يقارب الأربعين عاماً منذ إنتاج أول مسلسلٍ يمنيّ. تراكُمٌ يفترض أنه ساعد في تطوير الدراما اليمنية؛ لكن، خلال هذه المدة الطويلة، مازال الكثيرُ يشعر بخيبة أملٍ تجاه ما يتم عرضه، ويواجَه ذلك المعروضُ بانتقادٍ حادّ. بالمقابل، هناك أعمالٌ محدودةٌ حازت على إشاداتٍ كبيرة. يبقى هذا الجدلُ طبيعياً جداً؛ جزءاً من وجود الدراما، وعاملاً مساعداً في ارتقائها.
صناعة الدراما
رغم الملاحظات الكثيرة، إلا أن البعض يرى أن هناك تطوراً –ولو ببطءٍ– في السنوات الأخيرة. الفنان يحيى إبراهيم، ممثلٌ يمنيٌّ، والأمين العام المساعد لنقابة الممثلين، يدعم هذه الفكرة قائلاً: “هُناك نقلةٌ كبيرةٌ، بفضل الشباب القادم، ونلاحظ ذلك عبر ما أنتج في الفترة الأخيرة، مثلاً ما أنجزته شركة الوافي يمثل نقلةً كبيرةً في الدراما اليمنية، وهناك أعمالٌ أخرى غير عادية”.
ويضيف يحيى إبراهيم: “ينقصنا شركاتُ إنتاجٍ تتكفل بالتكلفة الكافية. دور الدولة في دعم أعمالٍ جادةٍ، مثل المسلسلات التاريخية وغيرها، لا بد أن يكون حاضراً، باعتبار هذه الأعمال مكلفةً جداً. ولذا نلاحظ أن ما يعرض الآن يذهب نحو الكوميديا أكثر والأعمال الدرامية الخفيفة؛ وذلك بحسب رغبة الداعمين، الذين يبحثون عن الترويج لإعلاناتهم من خلال جذب المشاهدين عبر هذه المواد الخفيفة”. ويواصل الحديث قائلاً: “دوت نوشن، في مسلسل سد الغريب، قامت بخطوةٍ كبيرةٍ جداً، من خلال الشغل على سيناريو معين، وتحمُّل كل تكاليف الإنتاج، ومن ثم الترويج له وبيعه. ولأن لديهم فريقاً مبدعاً وذا خِبرة، اتخذوا هذه الخطوة، والتي تعتبر مغامرةً كبيرةً، واستطاعوا إنتاج دراما جادة، وبلمحةٍ كوميديةٍ، أتمنى أن تكون بدايةً لدراما يمنيةٍ راقيةٍ وهادفة”.
بين التمثيل والتهريج
لطالما وجهت الانتقاداتُ اللاذعة للمسلسلات المعروضة، وشبهت بـ”الاسكتشات” المدرسية التي يتم تقديمها بطريقةٍ كوميديةٍ رديئة، دون الارتكاز على أي سيناريو؛ فيما يرى آخرون بأن هناك أعمالاً أظهرت عكس ذلك، وحصلت على رضا الجمهور.
عبدالخالق سيف، مدير مكتب الثقافة في محافظة تعز، وكاتب سيناريو، يعلق في خيوط حول هذه الفكرة، بالقول: “أي مسلسلٍ جيدٍ، يلقى مساحة حضورٍ تليق به لدى الجمهور. غربة البن، مثلاً، حاول أن يجنح لتلك الحرفية؛ ما جعله حديث الناس”.
ويستطرد سيف: “أعتقد أن أفضل ما حصل للدراما اليمنية أن هناك وعياً لدى القائمين عليها، وبات من غير المجدي تقديمُ الأعمال باعتبار أن الجمهور سيتقبلها سلفاً، أياً كانت جودتها”، مضيفاً: “رغم أن جديد الدراما اليمنية لا يرتقي لمستوى المنافسة، وأن الإنتاج ما يزال موسمياً ومناسباتياً، إلا أن المشكلة تبقى قائمةً في التمويل بشكلٍ رئيسٍ. وفي حال وُجد هذا التمويل، سيرتقي المحتوى أكثر، وستدخل دماءٌ جديدةٌ على الساحة الدرامية اليمنية “. ويوضح سيف أن ما يسمى “متلازمة الكلمة أو العبارة”، التي عادةً ما ترتبط بحوارات الممثل طوال أحداث المسلسل، غيرُ موجودة في السيناريو، بل يبتدعها الممثلون أنفسهم كي تصبح متداولة. ويختم سيف حديثه: “الكوميديا إذ لم تكن هادفةً، تصبح تهريجاً. إنها تُحرق الممثل، وتُظهر اليمني بصورةٍ غيرِ لائقة. مهمة الدراما تقديم الملهاة والمأساة معا”.
ولأن صناعة الدراما ترتكز على عدة أسسٍ، من السيناريو إلى الإنتاج، إضافةً إلى أداء الممثلين والإخراج -الشروط التي يفترض تكاملها لنجاح عمل ما؛ يتحدث هاشم حمود هاشم، مخرج مسلسل “سد الغريب” ومدير شركة “دوت نوشن” للإنتاج: “الإنتاج تطوَّر تقنياً. أما المحتوى، فالقديم كان أكثر عمقاً، الآن أصبح الإنتاج يميل للكوميديا والأعمال الخفيفة التي تضحك الجمهور. ربما يعود السبب للأوضاع الاقتصادية والسياسية القائمة؛ لكن هذه الأعمال لا تعطي الصورة الكاملة عن اليمنيين، ولا تعكس الواقع”، مضيفاً: “أنا لست راضياً عن السيناريوهات الموجودة في المسلسلات اليمنية، أحب شغل الدراما والغموض والتشويق والكوميديا الخفيفة المتواجدة في واقعنا اليومي، البعيدة عن الابتذال والتهريج”. وفيما يخص أداء الممثلين، يقول هاشم: “هناك من لا يجتهد كثيراً، وخاصةً الممثلون الكبار. وهناك من يبذل الكثير من الجهد لأجل الدور؛ لكن، نادراً ما يصل الممثل إلى حد التوحد مع الشخصية التي يؤديها. لذا، فإن الارتقاء بالدراما يتطلب الجدية والشغف”.
ومن بين عددٍ من المسلسلات المعروضة في هذا العام، لقي مسلسل “سد الغريب” ردودَ قَبولٍ إيجابيةً جداً. ويسرد مخرج المسلسل أسباب هذا القبول كالتالي:
“يوجد في سد الغريب فريقٌ يحب ما يقوم به، متعطشاً لهكذا أعمال، متطلعاً لتقديم شيءٍ مختلف، سواء من ناحية التصوير، الإضاءة، الصوت، الموسيقى، أو من ناحية المحتوى الذي يحاكي مسلسلاتٍ خليجيةً وعربية؛ ما تطلب تكاليف إنتاجٍ كبيرةً جداً. ففي العمل، أكثر من 100 ممثل، وما يزيد عن 40 فرداً من طاقم العمل. إلى ذلك، تم التصوير في مواقعَ صعبةٍ وبعيدة، تنقلنا بين قرية الجبل في منطقة حراز، وبني مطر، وصنعاء، وفي أكثر من مكان، واستخدمنا آلاتِ تصويرٍ حديثةً. كان في العمل عازفون وموسيقيون قاموا بتأليف مقاطعَ موسيقيةٍ. بذلنا كل هذا، محاولين أن نُسقط حياة الناس اليومية بشكلٍ أفضل، لكن مازال لدينا الكثير من القصص التي سنشتغل عليها في المستقبل، ومن خلالها نطمح للمنافسة عربيا”.
النقد ومراعاة ظروف العمل
رغم أن الدراما اليمنية تعتبر متواضعة، مقارنةً بمحيطها العربي، وتُشكّل مضامينُها وأسلوبُ تقديمها وإنتاجها مادةً دسِمةً للنقد القاسي؛ إلا أن هناك واقعاً أكثرَ قسوةً: خمسة أعوام من الحرب، بما سبقها من أزمات سياسية واقتصادية مزمنة، إضافة إلى اتسام التشجيع الرسمي للفنون بإسقاط الواجب في أفضل أحواله.
أسامة خالد، منتجٌ ومخرجٌ يعيش في ألمانيا، تحدث عن مشكلة موازية لضعف السيناريو والإنتاج، إن لم تكن أكبر منهما، فيما يخص الدراما اليمنية؛ وهي مشكلة تتمثل في الانتظار حتى اقتراب رمضان، ثم بدء العمل بصورةٍ مستعجلة. “الضغط الزمني يضاعف الأخطاء، ومع هذا، أنا ضد النقد المبالغ فيه؛ لأننا في حالة حرب، ويتم إنتاج مجموعة مسلسلاتٍ، وبعضها رائعةٌ، هذا شيء جيد.” يضيف أسامة.
غير أن سهية الأصبحي، مخرجةٌ تلفزيونية، لا تؤيد هذا الرأي، مشيرةً إلى وجود أخطاءٍ غيرِ مبررة. تقول: “هناك أخطاءٌ فادحةٌ لا تبررها الحرب. أحياناً تشعر كأنه لا يوجد سيناريو للمسلسل، لدرجة ملء بعض الحلقات بالفراغ. في المقابل، يتم توزيع الأدوار من قبل المخرجين بطريقةٍ لا تناسب إمكانيات الممثلين، بالإضافة إلى فارق الأعمار؛ حيث نرى مثلاً في مسلسلاتنا الأم أصغر من ابنها”.
وتضيف الأصبحي: “ترك الممثلين وعدم إلزامهم بالنص، لدرجةٍ غير منطقيةٍ، هو من الأمور التي تضعف الدراما اليمنية كثيراً. على سبيل المثال، نلمس التحول الجذري الذي تزامن مع مسلسل غربة البن في الجزء الثاني؛ تبدلت الشخصيات وتغيرت داخل المسلسل. هذا التغيير العشوائي قلب مستوى المسلسل فنياً لدرجة كبيرة”. وتخلص سهية إلى أن التكاليف لم تكن يوماً عائقاً؛ إذ يبدو أن جميع الأعمال التي تم إنتاجها تكلفتها كبيرة، وتكفي لعمل شيءٍ أفضل.
في وضع الدراما الحالي، وما الذي يجب أن تكون عليه، يتحدث الكاتب حسين الوادعي، قائلاً: “لا نريد للدراما اليمنية أن تضارع الدراما المصرية أو السورية، أو حتى الكويتية، صاحبة التاريخ العريق؛ لكن، على الأقل، أن تقترب من مستوى الدراما السعودية الأقرب عهداً، والتي ناقشت أعقد قضايا المجتمع السعودي”.
ويضيف أنه “يجب الاستفادة من الروائيين وكتاب القصة ومن خبرتهم في الكتابة، والاستثمار في كتابة السيناريو، والدفع نحو الاعتراف بخصوصية واستقلالية عمل السيناريست؛ بمعنى أن يتوقف المنتج والممثل عن القيام بمهمة الكتابة في أوقات الفراغ”.
ويشير الوادعي إلى أن بقاء الدراما اليمنية رمضانيةً بطبيعتها، وسعيها “خلف حصة الإعلانات الرمضانية”، “يُقَوْلبها داخل إطار الكوميدية الخفيفة أو الميلودراما الفاقعة”.
وفي حين قال إن “المشاهد اليمني أعطى للدراما اليمنية البسيطة حباً ودعماً كبيرا وسخياً، فقد عبّر الوادعي عن خشيته من “أن يتراجع هذا الدعم في زحمة الاستسهال والإسفاف”.
وأخيراً، تجدر الإشارة إلى أهمية العلاقة بين صناع الدراما والمشاهدين. يمكن الاستعانة بالعلاقة بين صناع فيلم “التايتانيك” وجمهور الفيلم كمثال على علاقة صحية من هذا النوع؛ حيث أجبر استمرار بكاء الجمهور على موت البطل “جاك”، بعد عشرين عاماً من عرض الفيلم لأول مرة، أجبر المخرج كاميرون على الظهور والرد بشأن هذا الموضوع. هذا هو التجسيد الفعلي لصناعة النجوم في الإنتاج السينمائي، وبالمثل، التلفزيوني، حيث يعتمد الأمر على أسر المشاهد بنموذج مثالي. وعربياً، استطاع محمد رمضان، الذي يتعمد الظهور دوماً في دور الفُتُوّة والبطل الخارق، التأثير على قطاعٍ واسعٍ من الشباب، وأصبح نجماً خلال فترةٍ قياسيةٍ. أما يمنياً، فهناك ما يبدو إصراراً عجيباً، على إظهار أغلب الممثلين بدور “السذج”.ويبقى السؤال: لماذا لم تتمكن الدراما اليمنية من صناعة أبطالٍ، ولو بطريقة تنميط الشخصيات؟!