نجوم على طبق من “لايك” بقلم/ بهية حلاوي
بقلم/ بهية حلاوي
من الصعب الحديث عن مفهوم النجومية من دون التوقف عند مراحلها ومحدداتها التاريخية. وكما تختلف النجومية بين عصر التلفاز والعصر الذي سبقه، فإن هناك اختلافاً جذرياً صنعته وسائل التواصل الاجتماعي، سواء ما يتعلق بآلية صناعة النجوم أو بمفهوم النجومية نفسها، إضافة إلى القيم المرتبطة بها وغاياتها وخصائصها.
تظهر دراسة نشرت في جامعة كاليفورنيا في العام 2011 جوانب مما نتحدث عنه. الدراسة عاينت القيم التي يتم الترويج لها في برامج الأطفال، وبيّنت أن أبرز القيم في أواخر التسعينيات كانت تتركّز على الريادة والعطاء والتفاعل مع الآخرين. بعد العام 2005، وإثر دخول منصات التواصل الاجتماعي في صلب حياتنا التواصلية وما واكبها من تغيّر في البرامج التلفزيونية المخصصة للأطفال والمراهقين، حلّ حب الشهرة في المرتبة الأولى، وتبعه المظهر الخارجي، والشعبية، والنجاح المادي. أما مفهوم العطاء والتفاعل، فجاء في المرتبة الأخيرة.
هذه النتائج تنطبق على عالمنا العربي، باعتبارنا غالباً مستهلكين، ليس للتقنيات فحسب، بل لما يرافقها من ثقافة وقيم وعادات أيضاً، مع تغييب الحس النقدي ومؤسسات التنشئة التربوية والوطنية والاجتماعية التي تحصّن الأجيال وترفع وعيهم إلى درجة النقد بدلاً من الاستهلاك الأعمى.
أنا أغرّد إذاً أنا موجود!
أتاحت منصات التواصل الاجتماعي إمكانية المشاركة والوجود الافتراضي والتألق لمختلف الفئات الاجتماعية، الأمر الذي كان غائباً قبلها. لعبت هذ الوسائل على أوتار غريزية وفطرية لدى الكائن البشري الذي يميل إلى إرضاء غروره وتحقيق الرضا الذاتي بوسائل شتى ومتنوعة. إمكانية الشهرة باتت متاحة بمعزل عن الوسيلة. واليوم، باتت الوسيلة بين أيدينا وبحجم كفّ اليد، لكن ذلك لم يمرّ من دون تبعات، بحيث يصعب على أي تقنية ألا تعقبها تأثيرات جانبية وأنماط سلوكية جديدة، تماماً كما ولّد ظهور العالم الرقمي أنماطاً جديدة من عادات القراءة على مستوى الصحافة والإعلام.
في إطار الحديث عن صناعة النجوم، يمكن ملاحظة أن أول تغيّر طال طريقة اختيار الشخصية. في السابق، كان اختيار الشخصيات المؤهلة للنجومية يجري بحسب الاختصاص أو المجال، إضافة إلى المقوّمات والمهارات المطلوبة. وبالتالي، كان على الشخص أن يتميّز لكي يتم الالتفات إليه وتعزيز حضوره، كما لا بدّ من دراسة أثره بين الناس ليصبح قادراً على التأثير بشكل أكبر في مرحلة لاحقة.
اليوم، يتم اختيار الشخص بطريقة عكسية، فالأولوية تكون للشخص القادر على الوصول إلى أكبر شريحة ممكنة من الناس والتأثير فيهم، ولو كان التأثير سلبياً. يرتبط هذا الاختيار بعالم التسويق، فالتسويق السلبي هو عملياً تسويق، والمؤثر السلبي مؤثر في نهاية المطاف، ما دامت الفكرة والمنتج وصلا إلى أكبر عدد من المتفاعلين.
أما تقييم الشخصيات، فكان مرتبطاً في ما سبق بتميزها ومدى إغنائها مجالاً معيناً والتفوق فيه، على عكس ما يجري اليوم. لقد غيّرت المنصات الرقمية مفهوم القيم والتقييم، وصار “القياس” يتعلّق بمجموع التفاعلات وإعادة المشاركات والإعجابات، وتحول إلى عملية بيع وطلب وارتباط سطحي بأشخاص يمكن استبدال نجوم آخرين قادرين على تأمين مجموع أعلى من الأرقام بهم.
على مستوى المهارات، نجد مؤثرين، من مثل كريستيانو رونالدو وليونيل ميسي، اللذين يمتلكان مهارات كافية ومثابرة ومحافظة على مستويات بدنية وأخلاقية، وحتى اجتماعية، بين الزملاء والمتابعين، إضافة إلى الانخراط في قضايا إنسانية وغيرها، لكن ذلك ليس الطابع العام للنجومية في العالم الافتراضي؛ ففي مجالات أخرى، نجد أن النفاق وارتداء الأقنعة هما جسر عبور المؤثرين للمحافظة على المتابعين وتقديم المواد التي تسمح لهم بالاستمرار.
آلية صناعة النجوم
تعد صناعة النجوم من الصناعات المربحة والمطلوبة، لأنها تقدم واجهة جذابة وقناعاً لمخاطبة الجمهور. ولذلك، تعتمد المؤسسة السياسية عليها، إضافة إلى الرأسماليين والمستثمرين الكبار، وصولاً إلى الأحزاب والمدارس الدينية. ومن أجل النجاح في هذه العملية، يجب اعتماد عدد من الآليات، أبرزها:
1- تهيئة الأرضية أو المناخ الملائم لخروج هذا النجم وظهوره. هذا ما حدث مثلاً إثر انتخاب باراك أوباما بصفته أول رئيس ملوّن في الولايات المتحدة، إذ مهّد هذا الفوز لحالة من الاستقطاب الحاد مع وجود مجموعة من الأميركيين اليمينيين الذي ينظرون إلى أميركا باعتبارها بيضاء. رأى هؤلاء أن بلادهم سرقت منهم، في ظل غياب قيادات جمهورية مؤثرة آنذاك، الأمر الذي سهّل، بفضل تقنيات الرقمنة، وصول ترامب لاحقاً، وتمهيد الطريق والظروف الملائمة لنجوميته.
2- التواطؤ مع المؤسسات الإعلامية لتسليط الضوء على مشروع النجومية الجديد، وتكثيف المواد حول مهاراته وتألقه. يجري في هذا الإطار أيضاً التعاقد مع كتاب وإعلاميين للمشاركة والتفاعل، كما يتم افتعال الجدل في منصات التواصل ليصبح النجم الجديد معروفاً.
3- ربط صورة النجم بحالة نفسية وذهنية معينة تضمن تواصله مع المستهدفين، وتبقي صورته مقترنة بمفهوم محدد في العقل الباطني للمتابع. مثال على ذلك كيم كاردشيان. هي ليست إعلامية، ولا مغنية، ولا ممثلة، ولكن لديها أكثر من 200 مليون متابع، لكونها واجهة للكثير من العلامات التجارية التي نستحضرها بصورة تلقائية لمجرد التفكير في اسمها.
4- التركيز على حياة النجوم الشخصية وتشجيعهم على مشاركتها بصورة مباشرة ودائمة مع المتابعين، ليصبح هناك نوع من التعلق والتأثير من دون إدراك، ولا سيما على المدى البعيد وبين أوساط الفئات الشبابية. القاعدة هنا هي توسيع رقعة المهتمين، وتجنب التعليق على القضايا الجدلية للحفاظ على المتابعين. هذا الأمر يظهر جلياً مع نجوم الحزب الديمقراطي الشباب، مثل ألكسا كورتيز، التي تحاول أن تظهر بصورة عفوية وشبيهة بسلوك أبناء جيلها، وتتبنى المواقف التي يهتم بها الشباب أو يتعاطفون معها.
5- إقامة الاحتفالات والمسابقات، لتصبح هذه النجومية الجديدة بشكلها وقيمها ومفاهيمها نمطاً سائداً، ويستتبع ذلك سعي تلقائي ومشابه لكل من يسعى إلى دخول هذا المضمار. وقد نشأت شركات متخصصة لمساعدة النجوم في هذا السياق، وخرّجت عدداً من كوادر الثورات الملونة.
اغتيال النجوم العرب
تتنوع النجومية وصناعة النجوم في ميادين السياسة والفن والموضة وغيرها. وبقدر ما يقع العرب في فخّ التقليد، فإن العالم العربي لا يفتقد المؤهلات والشروط الضرورية للمرور إلى عالم النجومية. يمكن القول إننا على المستوى السياسي على الأقل، لا نفتقر إلى نجوم بقدر ما نفتقر إلى مفهوم واضح للنجومية.
لقد شكّلت مرحلة “الربيع العربي” منعطفاً في هذا المجال يستحق التوقّف عنده ودراسته. في المرحلة السابقة، كنّا نتحدث عن نجوم أدباء ومثقفين ومسيّسين في الوقت نفسه، من مثل غسان كنفاني وناجي العلي. لقد تم اغتيال هذا النموذج الذي يحمل قضايا تحرّر وطني وقومي؛ اغتيال يحمل بعداً مادياً مباشراً وبعداً ثقافياً وفكرياً ومعنوياً، كأن ممنوعاً علينا أن يكون لدينا نجوم بارزون يحملون قضايا ومطالب. هؤلاء لم تتم صناعتهم غربياً، ولم يمرّوا بشروط التسويق الغربي الرأسمالي وآلياته، بل صنعوا أنفسهم بنضالاتهم.
تكاد النجومية العربية اليوم تنحصر بعالمي الرياضة والفن. أما في مجال السياسة، فإن من يمتلك مقومات النجومية ضمن إطار القيم والالتزامات، يحارب في كل الجبهات ويحجب أو يقيد في منصات التواصل الاجتماعي. هذه المنصات غربية المنشأ، وتفرض منظومتها القيمية والأخلاقية، ولا بدّ من المرور عبرها للنجاح في التسويق والترويج. لقد أدى تبنيها إلى الخضوع العربي لسطوتها في الكثير من البلدان، وصولاً إلى محاربة أصحاب القضايا والرأي الحرّ، على خلفية المصطلحات التي لا تحاكي المنظومة الغربية السائدة، كالمقاومة والعروبة، ووسمها بصفات الإرهاب.
يمكن هنا المقارنة بين نوعين من النجوم العرب؛ أولئك الذين تصنعهم قضيتهم، وهم الذين يؤثرون بصورة عفوية، لأنهم يشكلون حالة تأييد استثنائية، ويشكلون تهديداً للسياسات الغربية والمشاريع الرأسمالية، والنوع الآخر يتمثل في النجوم الذين تصنعهم البروباغندا الغربية وتجعلهم مؤثرين، بدفع من الدعاية الإعلامية، ليصبحوا لاحقاً أدوات بيد السياسات الغربية.
بعد “الربيع العربي”، أصبحت مصانع البروباغندا الغربية هي التي تصنع النجم العربي بأدوات عربية، وتظهره بالشكل الذي تريده، ولفترة صلاحية محدودة. هنا، لا بدّ من السؤال عن أيقونات الثورة التي اختفت فجأة في مصر وسوريا والسودان وغيرها من الدول.