أحياء في عِداد الموتى.. ناجون يروون تفاصيل ساعة “الصفر” وما تبعها من معاناة
حيروت
لم يعد يستطيع الحاج صالح علي العيني، الذي تجاوز العقد السادس من العمر، وهو أحد الضحايا المدنيين اليمنيين لغارات طيران التحالف بقيادة السعودية، الوقوف دون مساعدة زوجته التي تقومُ على خدمته في الغرفة التي يعيشون فيها بأحد منازل مدينة صنعاء القديمة (حي الفليحي)؛ وهو منزل آل العيني الذي استهدفه طيران التحالف بغارتين أودت بحياة عشرة أشخاص (زوجان وثمانية أبناء) في أيلول (سبتمبر) عام 2015م.
فعلى الرغم من نجاة صالح وزوجته من الغارتين الجويتين لمقاتلات التحالف السعودي والتي دمرت منزل الأسرة، وأودت بحياة ابن عمه حفْظ الله وزوجته وأبنائه الثمانية، إلا أنه لم يسلم من آثارها، فقد تدهورت حالته الصحية، وأصبح لا يقوى على الوقوف والخروج إلى الشارع.
تروي زوجة الحاج صالح، فصول المأساة التي تسبب بها طيران التحالف السعودي إثْر استهدافه لمنزلهم، وهي المأساة التي تتشابهُ في فصولها مع مآسي وجراحات كثير من الأسر اليمنية التي استهدفتها مقاتلات التحالف ضمن مسلسل طويل من استهداف المنازل والأحياء السكنية وصالات الأعراس وحتى تجمعات المآتم، وغيرها من التجمعات المدنية البعيدة عن المعسكرات.. كثير منها لم يسلم من استهداف طيران التحالف بقيادة السعودية.
وتعرضتْ صنعاء القديمة، وهي مسجلة في قائمة التراث العالمي، لعددٍ من غارات مقاتلات التحالف السعودي، سوّت عددًا من منازلها بالأرض، وتسببت بخلخلة أساسات مئات المنازل، وألحقت الضرر بكثيرٍ من معالم المدينة، وتقدّرها بعض الإحصاءات بآلاف المعالم التاريخية داخل المدينة القديمة تضررتْ بغارات مقاتلات التحالف، في مخالفة واضحة لقوانين الحفاظ على التراث العالمي، وفي استهدافٍ مباشر وغير مباشر لتراث اليمن وذاكرته وثقافته.
كما أن المجزرة التي ارتكبها التحالف السعودي الاماراتي باستهداف بيت آل العيني لم تكن وحدها داخل المدينة القديمة، فهناك مجازر أخرى استهدف من خلالها التحالف منازل وأُسر أخرى في أحياءٍ مختلفة من المدينة، وذهب ضحية تلك الغارات كثير من المدنيين ضمن سلسلة من الجرائم والمجازر التي امتدت لصنعاء الحديثة، وتمددت لتشمل اليمن كله، فثمة عديد من الأسواق وصالات الأعراس والمآتم استهدفها التحالف، وعلى سبيل المثال لا الحصر استهداف التحالف مجلس عزاء آل الرويشان في الصالة الكبرى بصنعاء، في الثامن من تشرين الثاني (أكتوبر) عام 2016، وتسبب بمقتل المئات وجرح المئات أيضًا، في جريمة مروعة لم تكن الأخيرة، بل تواصلت في جرائم لا تقلّ عنها بشاعة.
عدد كبير من المجازر التي ارتكبها طيران التحالف بقيادة السعودية، فهذه مجزرة سوق ضحيان بمحافظة صعدة، بتاريخ 10 آب (أغسطس) عام 2018م، وقُتِل فيها عشرات الأطفال الذين كانوا على متْن حافلة لمركز تحفيظ القرآن الكريم، بالإضافة إليها يتذكرُ اليمنيون مجزرة عرس في منطقة سنبان بمحافظة ذمار، في تشرين الثاني (أكتوبر) عام 2015م، ارتكبها طيران التحالف، وذهب ضحيتها 51 شهيدًا، و30 جريحًا، بينهم نساء وأطفال.
وينتجُ عن هذه الجرائم كثيرًا من المعاناة في مَن بقوا لا أحياء ولا أموات.
فنتيجة لمجزرة بيت آل العيني.. تأزمتْ حالة الحاج صالح العيني النفسية عقب تلك الغارة خاصة بعد فقدانه ابن عمه حفْظ الله وأسرته، لا سيما وقد ترعرعا معًا… تقولُ زوجة الحاج صالح «عاشَ صالح في كنف عمه أحمد، والد حفظ الله، بعد وفاة والده، وهو لم يتجاوز العاشرة من عمره»، وأشارتْ إلى أنّ العم أحمد رُزِقَ بعد ذلك بصبِيٍ أسماه حفْظ الله، فعاش الصبيّان كالإخوة لم يفترقا حتى جاءت الغارة فقضت على الأخ الأصغر وزوجته وأولاده، الذين كانوا بمثابة أولاد الحاج صالح، خاصة وأنه لم يُرزق بالأولاد.
لم تمر أسابيع والحاج صالح يعيشُ عذابات فقدان أخيه وأبنائه حتى أصيبَ بجلطة في الدماغ أثرت في حركة جانبه الأيمن، كما تسببت بإصابته بارتفاع ضغط الدم وداء السكري، فأثّر ذلك سلبًا في حياته، التي لم يعد يقوى على عيشها دون مساعدة زوجته، بحسب “اليمني الأمريكي”.
لم يعد الحاج صالح يقوى على نزول سلالم البيت الذي يعيشُ هو وزوجته في إحدى غرفه، خاصة بعد معاودة إصابته بجلطة دماغية قبيل ثمانية أشهر، ما زاد من معاناته مع زوجته، التي تضطر للعمل في المنازل لتوفر بالكاد لقمة العيش لها ولزوجها، وتعجزُ عن شراء الأدوية المقررة لهُ.
دمعة حزن
تنهمرُ الدموع من عينيّ الزوجة إزاء عجزها رغم بذلها قصارى جهدها في الخدمة بالمنازل عن توفير لقمة العيش والأدوية والاحتياجات الخاصة لزوجها، خاصة مع عجزه الذي لا يمكنه معه الذهاب إلى الحمّام، متمنيةً لو أنّ لها القدرة على شراء أو توفير كرسي متحرك لزوجها؛ ما يمكّنه من الخروج من المنزل.. «نحمدُ الله على كلّ حال، ونسأل الله أنْ ينتقم من السعودية، ومن كلّ من أوصلنا لهذه الحال».
ما تعانيه عائلة الحاج صالح في (حيّ الفليحي) بصنعاء ليس سوى مثال لمعاناة كبيرة تمتدّ بامتداد اليمن ممن ذهبوا ضحايا تداعيات العمليات العسكرية منذ آذار (مارس) عام 2015م، وحتى الآن، والتي تسببتْ بقتل الآلاف من المدنيين بشكلٍ مباشر وغير مباشر، كما ألحقتْ الدمار بكثيرٍ من المنشآت المدنية، بما فيها مرافق خدمية كمستشفيات ومدارس وجسور.. علاوة على ما تسبب به الحصار المفروض على اليمن، والذي كان سببًا من أسباب اتساع المأساة اليمنية الناجمة عن الحرب؛ وهي المأساة التي صنّفتها الأمم المتحدة بأنها أكبر أزمة إنسانية يشهدها العالم.
ولم تصدر المنظمات الدولية العاملة في اليمن أيّ إحصاءات شاملة ودقيقة لضحايا وخسائر الحرب من الطرفين خلال الست سنوات الماضية وتقتصرُ الإحصاءات المحلية الصادرة على المؤسسات الحكومية والمنظمات غير الحكومية في مناطق كلّ طرف.
ومن الإحصاءات الصادرة عن منظمة مجتمع مدني بصنعاء، الخاضعة لسلطة جماعة “أنصار الله” (الحوثيين)، ما أعلن عنه مركز عين الإنسانية للحقوق والتنمية، حيث أعلن عن قتل وجرح 43 ألفا و839 مواطنا يمنيا خلال ست سنوات جراء عمليات التحالف بقيادة السعودية، بينهم 17 ألفًا و97 قتيلاً.
وأوضح أن غارات التحالف تسببت بتدمير وتضرر 1978 منشأة حكومية، و4764 طريقًا وجسرًا.
وأشار المركز إلى تدمير واستهداف التحالف السعودي الإماراتي منذ آذار (مارس) 2015 لـ 395 مصنعا، و292 ناقلة وقود، و11387 منشأة تجارية، و416 مزرعة دجاج ومواشي، و7495 وسيلة نقل، و464 قارب صيد، و904 مخازن أغذية، و394 محطة وقود، و680 سُوقًا، و815 شاحنة غذاء، و7191 حقلا زراعيا، و247 موقعًا أثريًّا.
وذكر أن عدد المنازل المدنية والمنشآت التعليمية والسياحية والصحية والإعلامية والرياضية المدمرة والمتضررة جراء الاستهداف المباشر للتحالف بلغتْ 571190 منزلا، و178 منشأة جامعية، و1413 مسجدا، و367 منشأة سياحية، و390 مستشفى ومرفقًا صحيا، و48 منشأة إعلامية، 134 منشأة رياضية.
ويعمل عدد من منظمات الأمم المتحدة الإنسانية والإغاثية وغيرها من المنظمات الدولية الإنسانية في صنعاء الخاضعة لسلطة جماعة “أنصار الله” (الحوثيين) مثلما تعمل في عدن الخاضعة لسلطة الحكومة اليمنية المعترف بها دوليا.