لا مشاهدين من دوني.. أنا النجم! بقلم/ بهية حلاوي
بقلم/ بهية حلاوي
حين بلغ الرئيس التنفيذي لشبكة “CBS”، ليزلي مونفيس، خبر ترشّح دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة الأميركية في العام 2016، علّق قائلاً: “قد لا يكون ذلك جيداً لأميركا، لكنه جيد جداً لشبكتنا”. كان مونفيس بحسّه التجاري وخبرته المهنية في سوق الإعلام يدرك جيّداً ما يقول.
لم يخيّب ترامب توقعات مونفيس وزملائه في سوق الإعلام الأميركي. في السنوات اللاحقة، حلّقت أرقام السوق الإعلامية الأميركية بمختلف وسائطها، المقروءة والمرئية والمسموعة، وصولاً إلى وسائل التواصل الاجتماعي، وربما أكثر من ذلك.
كانت “fox news”، مثلاً، تحقق في أوقات الذروة نسبة مشاهدة عالية كلّ شهر، بدءاً من كانون الثاني/يناير إلى تشرين الثاني/نوفمبر، بينما قالت “CNN” و”MSNBC” إنهما حظيتا بـ”أفضل شهر على الإطلاق من حيث المشاهدات” عدة مرات في العام 2020.
لقد شكّل رجل العقارات القادم من تجربة تلفزيون الواقع سابقة في الإعلام الأميركي بحقّ، واستطاع أن ينعش ميزانيات الصناعة الإعلامية التي كانت تتعطَّش إلى الواردات، في ظل تحوّلات وتحديات تشهدها هذه الصناعة منذ فترة.
المفارقة التي تستحقّ الوقوف عندها هي تداعيات حالة العداء المتبادلة التي وسمت علاقة ترامب بالإعلام الأميركي الذي يسيطر الليبراليون على جزء وازن منه. بطريقة غير متوقعة ربما، حدث تخادم مشترك، واستفاد كل طرف من الآخر، رغم حالة الخصومة المتأصّلة.
لقد ساهم الرئيس اللاذع والساخر، وغريب الأطوار، وغير الدبلوماسي، كما يوصف، في إضافة الإثارة إلى عناوين الأخبار والبرامج التلفزيونية. ويبدو أنَّ هذا ما كان قسم واسع من الجمهور بمختلف أطيافه وتصنيفاته يتعطّش إليه، ما زاد نسبة المتابعة والمشاهدة والتفاعل.
يمكن القول إن “رجل التلفزيون” نجح في كسر الرتابة وحرّك المشهد الإعلامي، كما يفعل الساحر. أخيراً، وجد الإعلام الأميركي ضالته!
وبحسب كتاب لكبير الناقدين التلفزيونيين في صحيفة “نيويورك تايمز”، جيمس بونويزيك، بعنوان “جمهور الرجل الواحد”، قام التلفاز بتسلية أميركا طويلاً، لكنه استولى عليها وغزاها مع انتخاب دونالد ترامب رئيساً للبلاد.
في المقابل، تمكّن ترامب – من حيث لا تقصد هذه الوسائل المناوئة له – من جني مكاسب بفعل حملات الاستهداف التي طالته، واستطاع تجييرها لمصلحته في بعض الأحيان. وعندما اتّخذت الأخبار منحى سلبياً تجاهه، ساهم ذلك، كما يبدو، في ترسيخ حضوره وجعله حدثاً دائماً لا يغيب عن الإعلام. وقد استحوذ طيلة الأعوام الأربعة الماضية على السياسة والصّحافة، وعلى تغريدات الأميركيين والمتابعين للسياسة الأميركية والدولية، ليشكّل ظاهرة غير مسبوقة في غرف الأخبار ولدى صناّع المحتوى.
وبحسب دراسة في “كولومبيا جورناليزم ريفيو” تناولت محتوى صحيفة “نيويورك تايمز”، نال ترامب في العام 2018 المرتبة الرابعة، ما يشير إلى أنَّ اسمه كان رابع أكثر الكلمات استخداماً في معجم المصطلحات، بغض النظر عن إيجابية المضمون، في حين احتل أوباما، في ذروة حضوره في العام 2008، المرتبة التاسعة في المعجم، وتراجعت إشاراته بشكل كبير بعد ذلك.
ظهرت الخصومة بين ترامب والإعلام الأميركي منذ اليوم الأول في فترة رئاسته. رغم ذلك، يعود الفضل إليه في تعزيز عائدات “عدو الشعب”، كما وصف الإعلام الأميركي يوماً. هذه المفارقة لم يزدها غرابة قوله: “خصمنا الحقيقي ليس الديمقراطيين أو عدد الجمهوريين الذين ضلّوا طريقهم. خصمنا الأساسي هو وسائل الإعلام التي تنشر أخباراً مزيفة. على امتداد التاريخ الأميركي، لم يكن الإعلام يوماً بهذا السوء”.
أدى هذا الأمر، كما أظهرت نهاية فترة رئاسته بوضوح، إلى استعطاف واستياء لدى قسم كبير من مناصريه ومن أنصار الحزب الجمهوري، الذين نظروا إلى الأمر بوصفه استهدافاً ومؤامرة، ما أدى إلى نتائج عكسية لما كانت المنصات الإعلامية تبتغيه. يكفي أن نعلم في هذا الإطار أنّ من بين أكبر 200 صحيفة في الولايات المتحدة، اختارت 13 صحيفة فقط المرشح ترامب خلال الانتخابات الرئاسية في العام 2020.
ومؤخراً دلّت الاستطلاعات على أن جزءاً كبيراً من أنصار الحزب الجمهوري رأى أن الوسط الليبرالي المهيمن على الإعلام التقليدي أصبح رأس حربة للحزب الديمقراطي، وحجب ترامب عن الشاشات ومنصات التواصل. هؤلاء المناصرون يميلون إلى تصديق سردية ترامب واتهاماته لهذا الإعلام بأنه محرض وكاذب ولا يحبّ اليمين. ومن الطبيعي جداً أن يضرب هذا الجمهور الضخم (أكثر من 74 مليون صوت لترامب) أرقام المشاهدات، بسبب مقاطعة جزء منه هذا الإعلام.
فعلياً، بعد خسارة ترامب الانتخابات الرئاسية الأخيرة ووصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، عادت معاناة الإعلام الأميركي إلى الواجهة، كما توقّع ترامب متفاخراً. بحسب شركة “كوم سكور” المتخصّصة في قياس الجماهير وسلوكياتها في مختلف المنصات، خسرت “واشنطن بوست” 26% من جمهورها بعد 5 أسابيع من رحيل ترامب، فيما خسرت “نيويورك تايمز” نسبة 17%، و”سي أن أن” 45%، و”أم أس إن بي سي” 26%، و”فوكس نيوز” 6%، بحسب مؤشر “نيلسون” لاستطلاعات المشاهدين.
قد يصحّ التساؤل هنا: ما دام القطاع الإعلامي الأميركي يعمل وفق قواعد تجارية ربحية في سوق حرة، لماذا لم ينحَز إلى ترامب الذي حقّق له مكاسب مالية؟
يحيلنا هذا الأمر إلى خصوصية الإعلام الأميركي، إذ تتركّز وسائل الإعلام في تكتّلات اقتصاديّة ضخمة، لكنها تحتكر السّوق الإعلامي.
نتيجة المنافسة الشرسة والشرهة التي تكفلها القوانين الأميركية، استطاعت مجموعة تكتلات لا تتعدى أصابع اليدين السيطرة على مجمل الكعكة السوقية. هذه التكتلات ترتبط بشبكة مصالح معقّدة، ولا تقتصر على قطاع إعلامي واحد. ومن الشائع أن تستحوذ هذه التكتلات على عدة قطاعات إعلامية وغير إعلامية أيضاً. في هذه المصالح، تتشابك السياسة مع الاقتصاد.
ولا ريب في أن مالكي هذه التكتلات الذين يسيطرون على الإعلام المناوئ لترامب، انحازوا في النهاية إلى مصالحهم التي تتقاطع مع أطراف مناوئة له في الدولة العميقة وداخل المؤسسات الأميركية.
هذا الأمر يفسّر، على سبيل المثل، سبب تخلّي “تويتر” عنه في النهاية، رغم الأرقام والترويج المجاني الذي كان يقدمه الرئيس المغرد لمالك هذه المنصة. لم تكن نهاية العلاقة بين ترامب و”تويتر” سوى نموذج مصغر عن علاقته بالإعلام.
طوال فترة رئاسته، لعب ترامب مع الإعلام لعبة القط والفأر. وخلافاً للاعتقاد السائد لدى قسم كبير من الرأي العام بأن تغريداته “مجنونة” أو غريبة، فإنها استطاعت أن تحقق هدفاً استراتيجياً تفوّق فيه على خصومه. وإضافة إلى أنه استطاع مواجهة وسائل الإعلام من خلال صلاحياته الرئاسية ونفوذه خلال توليه الرئاسة، وبالاعتماد على الراديو ومحطات ريفية محلية وشبكة من المؤثرين في “تويتر” و”يوتيوب”، فقد استطاع أيضاً التلاعب بوسائل الإعلام المناوئة في أحيان كثيرة، من خلال فرض أجندته عليها.
أزمة الإعلام
يعيش الإعلام الأميركي بعد وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض أزمة حديثة مرتبطة بشكل أساسي بتبني الوسائل الإعلامية أجندة الليبراليين، ودفعها ضريبة معاداة ترامب وجمهوره وتغييب كل ما يرتبط به عن شاشاتها وموادها. ركزت هذه المنصات، منذ إعلان ترامب نية الترشح، وطوال فترة حكمه، عليه، ليس لكونه رئيس البلاد فحسب، بل لأنه شكل حالة استثنائية أيضاً، سواء في المضمون والمواقف أو في الأسلوب والاستعراض.
وقد زاد هذا الأمر مع هبّة الشارع الأميركي في وجه العنصرية وتفشي الوباء، وبقاء المشاهدين وقتاً طويلاً في المنازل، وصولاً إلى غزوة الكابيتول. في هذه المواقف، كان لا بد من أن تكون الشاشات التقليدية محط اهتمام المشاهدين، ما ساعد في رفع أرقام المشاهدات أكثر.
وبمجرّد أن شكّك في نزاهة العملية الانتخابية واعتبرها مزوّرة، وبالتالي مسّ بصورة أميركا الديمقراطية، بدا أن الإعلام الليبرالي، ومن خلفه المؤسّسة الحاكمة، اتخذ قراراً داخلياً مفاده طيّ صفحته، وانسحب الأمر أيضاً على حجبه عن منصات التواصل، ليتحوّل الموضوع إلى نوع من الحصار المستفزّ لجمهور الحزب الجمهوريّ، وخصوصاً الترامبيين.
وعلى الرغم من أنَّ المشكلة أكثر عمقاً وتعقيداً، فقد تلجأ المحطات والمواقع الإخبارية على مشارف الانتخابات النصفية إلى كسر الجليد مع الجمهور الجمهوري، لإعطاء المساحات لبعض الشخصيات فيه، ممن يعارضون سياسة ترامب وسلوكه، لحفظ ماء وجهها، بعد أن قاطعت ترامب وغيّبته بصورة كاملة.
إن معاناة هذا الإعلام ليست معاناة حديثة. وقد زادت عدة عوامل صعوبة الوضع. الشق الأبرز مرتبط بأزمة التمويل، مع تغيير عادات المشاهدين وتوجههم إلى منصات الفيديو، وبالتالي تسجيل متابعة أقل لهذه الشاشات التقليدية. وهناك شق مرتبط أيضاً بمنصات التواصل والدور الذي أدته كإعلام بديل يوفر كل المواد والأفكار بحسب اهتمامات الجمهور والمتابعات الشخصية لكل مستخدم.
مستقبل هذا الإعلام
انطلاقاً من كون القطاع الإعلامي أداة للتأثير السياسي والحروب الناعمة، فإن البحث عن الحلول مستمر، وخصوصاً في ظل المنافسة العالمية ودخول المادة الإعلامية غير الأميركية إلى بيوت الأميركيين.
ولأن الأخبار بصورتها الكلاسيكية الرتيبة ما عادت مقنعة للفئات الجماهيرية الشابة، وخصوصاً مع تبني هذه المؤسسات الإعلامية أجندات سياسية بصورة مباشرة، فإننا نلاحظ نمو مساحات الـ”infotainment” أو الأخبار بروحية ترفيهية أو المعلومات بقوالب رشيقة، كمزيج من المعلومات والتسلية. إن ذلك يدفعها أيضاً نحو أنسنة المحتوى وإتاحة المواد المتخصصة والتركيز على الزوايا الدقيقة، بدلاً من العموميات والأخبار الشاملة، لتعزيز التفاعل والوصول إلى منصات التواصل.
قد يصلح ذلك لنوعيات معينة من المحتوى أو الأخبار، ولكن، في الجانب الآخر، أصبحت المنصات الإعلامية، كالمواقع والصحف الإلكترونية، مضطرة إلى تطوير حضورها وحساباتها في مواقع التواصل الاجتماعي، لأنها الطريق الأسرع للوصول إلى الناس والمتابعين بأخبارها التقليدية.
هنا، يحصل التهافت أيضاً على الاستثمار في المؤثرين والنجوم. ونلاحظ أيضاً توجه معظم هذه الوسائل إلى طلب البدل المالي مقابل إتاحة المواد لتأمين التمويل اللازم، وهو ما يغير مفهوم الإعلام الذي تعهد بإتاحة المعلومات للناس بصورة شفافة ومتساوية.
بالنسبة إلى الخدمات، سيتعيّن على الشركات الإعلامية معرفة كيف تواكب أخبارها مستقبل البث. إن قنوات البث، من مثل “CBS” و”NBC” و”ABC”، تبث الأخبار المحلية والوطنية عدة ساعات يومياً، وتحقق مليارات الدولارات، من خلال فرض رسوم على مزودي خدمة التلفزيون المدفوع…
لطالما كانت المؤسّسات الإعلامية المطبوعة والمرئية تشكل كيانات مستقلة عن بعضها البعض. الآن، أصبحت منتجات رقمية. وفي السنوات المقبلة، من المحتمل جداً أن تتجدد خدمات البث، مثل حزمة تلفزيون الكابل، فيدفع المستخدم مقابل حزمة ترفيه متدفقة وحزمة أخبار بشكل منفصل.
وقد رأينا بالفعل أول تلميح إلى ذلك في شراكة “ViacomCBS” مع “Apple TV و”CBS All Access” و”Showtime”. ويكاد يكون من المؤكد أن هذه الحزم ستنمو في عروض المحتوى والسعر.
أما التحدي الإعلامي الأميركي الأكبر في الأشهر المقبلة، فسيرتبط بطرح ترامب منصة بديلة، كما صرح مؤخراً، لأنها ستكسر احتكار شركات التكنولوجيا العملاقة للسرديات النمطية التي ترضي الدولة العميقة في الولايات المتحدة، وتسمح بالاختلاف ضمن هوامش لا تمسّ بها.