مقالات

باتريس لومومبا بعد ستين عاماً على اغتياله… التحرّر لا يلغي التبعية للاستعمار بقلم/ محمد عبدالكريم أحمد

بقلم/ محمد عبدالكريم أحمد

(باتريس لومومبا)

في سرديّة بصريّة مذهلة للإيطالي فاليريو زورليني، شكلت انقطاعاً أوليّاً عن تصوير المسيح بملامح إنغلوساكسونية صرفة، قدّم فيلمه «المسيح الأسود» (1968) حكاية موريس لالوبي المقيم على أطراف روما مستلهماً فيها سيرة المسيح ودعوته واضطهاد السلطة له؛ وفي مستوى أعمق وأكثر مباشرة، كشف الفيلم عن شغف زورليني بالزعيم الكونغولي باتريس لومومبا مبكراً بعد مقتله (يناير 1961) بدءاً من اسم البطل «لالوبي»، وإعلان فرنسي عن مكافأة للقبض عليه، وقيمتها المعلنة بالفرنك البلجيكي، وسجنه مع لص إيطالي، وصولاً إلى ترديد «لالوبي» جملة لومومبا الشهيرة في حضور الملك البلجيكي بلدوين الأول عند حضوره حفل استقلال الكونغو (1960): «لم نعُد قردتكم بعد اليوم!».

«صوت صارخ في البرية»
خرج لومومبا، الذي قُتل دون عمر السابعة والثلاثين، بكل حسم وجلاء، من دائرة القادة الأفارقة ممن رأوا –قولاً أو فعلاً عشية استقلال دولهم- ضرورة تبنّي رؤى توفيقية مع «الاستعمار»، ومرحلية بناء الدولة الوطنية، ومنطقية الدور الأبوي لدول الاستعمار «الأم» في استكمال الشعوب الأفريقية استقلالها ورفاهيتها.
ظلت أفكار لومومبا حتى يونيو 1956 تدور في فلك التيار الوطني الرئيسي الذي يميل للتدرج في الاستقلال عن المستعمر، بل كان، حسب ليو زيليج L. Zeileg، مدافعاً عن المشروع الاستعماري. وبدأ التغيّر في أفكاره في ذلك التاريخ عقب اعتقاله وسجنه بتهمة الاختلاس في وظيفته بالبريد، وبدأ في انتقاد «البلد الأم»: بلجيكا. وعقب الإفراج عنه في سبتمبر 1957 قرّر البدء من جديد في العاصمة ليوبولدفيل (كينشاسا الحالية) وسط نمو أفكار الاستقلال والتحرر السياسي. وانتُخب في نوفمبر 1958 لقيادة حزب «الحركة الوطنية الكونغولية» MNC، فيما كثّفت بلجيكا من سعيها لضبط مسار التحول الراديكالي وبثّ الفرقة بين الأحزاب السياسية الناشئة بالتضافر مع حرص الدول الغربية المختلفة على ألّا يهدّد استقلال الكونغو استثماراتها الاقتصادية به، لا سيما الاستثمارات الأميركية المستقرة هناك منذ مطلع القرن العشرون، وأبرزها مجموعتا التعدين ريان Ryan وجوجنهايم Guggenheim، إلى جانب اتحاد تعدين كاتنجا العليا UMHK.
ويمكن القول إنّ حدثين ميّزا نهاية سياسة التوفيق التي حافظ عليها لومومبا، أولهما استقلال غانا 1957 وقيادة كوامي نكروما، وأحداث العنف في ليوبولدفيل في 4 يناير 1959وما واجهته من قوة مُفرطة من قبل القوى الأمنية، أو عناصر الجيش البلجيكي الاستعماري في البلاد ومقتل مئات الكونغوليين في الأحداث. وتبخرت في ذهن لومومبا أفكار أنّ انتقالاً طويلاً وتفاهماً مشتركاً (مع بلجيكا) يمكن أن يفسح الطريق أمام استقلال الكونغو. وبدأ بعد مارس 1959 بالمطالبة بالاستقلال «دون تأخير»، بينما صمّم رفاقه على أن مستقبل البلاد يكمن في التحالف مع بلجيكا، ثم لاحقاً مع الولايات المتحدة، ما عبّر عن صدق خلاصات لومومبا «أن الجماهير أكثر ثورية من قادتهم».
كلّفت مواقف لومومبا خلال جولاته الخارجية، ومنها في بلجيكا نفسها، منذ أبريل 1959 ورفضه النهج التوفيقي مع الاستعمار والقوى ذات المصالح في بلاده، اعتقاله وضربه بشكل وحشي في نهاية عام 1959، ولم يُفرج عنه إلّا مع انطلاق مفاوضات الاستقلال في بروكسل في يناير 1960 والتي رفض خلال مشاركته بها تقسيم دولة الكونغو (بالإقرار بانفصال إقليم «كاتنجا») أو قبول فكرة بقاء ملك بلجيكا رئيساً للكونغو عند استقلاله، وتقرر تحديد 30 يونيو 1960 تاريخاً لهذا الاستقلال، تسبقه انتخابات عامة في مايو. وفاز حزب لومومبا بهذه الانتخابات باكتساح رغم جهود بروكسل لدعم منافسيه. وبادرت بلجيكا بورقته الأثيرة في يوليو من نفس العام بتعزيز انفصال إقليمَي؛ كاتنجا (الذي اقتيد له لومومبا لقتله في أحراشه)، وكاساي Kasai الغنيَّين بالموارد المعدنية، واعترفت بالدولتين الجديدتين على الفور وزوّدتهما بالسلاح، وحظيت هذه الجهود بدعم إثني كونغولي لافت.

في مواجهة الأصولية الاستعمارية
واجهت تطلعات لومومبا، رئيس الوزراء بمقتضى انتخابات مايو 1960، هجمات ضارية من جوزيف موبوتو الذي حثّته المخابرات المركزية الأميركية علناً على ترتيب انقلاب في سبتمبر. وبحلول أكتوبر 1960 تمّت أربع محاولات لاغتيال لومومبا، وسط دعوات من الحكومات الغربية بعزل حكومته. وفرّ من العاصمة في نوفمبر ليصل إلى معقل مؤيديه في ستانلي فيل، قبل أن تنجح عملية اعتقاله بها.
وعندما أسرت قوات موبوتو لومومبا في نهاية الأمر ثارت مخاوف دولية، في مقدمتها الأمم المتحدة حيث عبر أمينها داج همرشولد عن تعهده علناً بسلامة لومومبا وحاول ترتيب وصول اللجنة الطبية للصليب الأحمر داخل معسكر اعتقاله، وسط أنباء وتقارير مؤكدة عن ضربه وتعذيبه بشكل منهجي. وسحبت مصر ويوغسلافيا وسيرلانكا قواتها على الفور من قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة على خلفيّة التأكد من عجز مجلس الأمن عن التحرك. ولفت همرشولد في بيانه أمام مجلس الأمن (10 ديسمبر في الاجتماع 917 لمجلس الأمن) إلى أن اعتقال لومومبا تم وفق مذكرة اعتقال من السلطة الشرعية (وربما موقّعة من الرئيس كازافوبو الذي تعترف به الأمم المتحدة)، ومن ثم فإنّ أيّ تحرك لتحرير السيد لومومبا بالقوة سيكون، في الواقع، بمثابة تجاهل لسلطة رئيس الدولة. وأعتقد أننا جميعاً مدركون لما يعنيه ذلك قانوناً، في ما يتعلق بهذه الدولة. ولاقت تبريرات الأمم المتحدة انتقادات لاذعة من كوامي نكروما، حظيت الأخيرة بدورها بتأييد مالي ومصر وإندونيسيا والمغرب والهند.
واقتيد لومومبا إلى إليزابيث فيل في 17 يناير 1961، وبعدها بأيام من التعذيب على يد جنود غودفروا مونونو، رجل تشومبي القويّ في الجيش، وعملاء من الاستخبارات البلجيكية والأميركية، لقي لومومبا حتفه مع رفيقَين من رفقائه؛ وأُعلنت وفاته في فبراير 1961، ما استدعى ردود فعل دولية غاضبة، من بينها اعتذارا مندوبَي بلجيكا والولايات المتحدة للجمعية العامة عمّا وقع. وحسب تحليل المندوب الأميركي أدلاي ستيفنسون، فإن تداعيات ملابسات قتل لومومبا قادت إلى النظر إلى أيّ تدخل عسكريّ دوليّ في شؤون الكونغو على أنه مساعٍ غربية لإعادة فرض الاستعمار، لافتاً ــــ في ترديد للمكارثية الأميركية المألوفة ــــ إلى تنامي الأفكار الشيوعية بين أهالي الكونغو، وأنّ أيّ تدخّل غربي مباشر سيواجه رفضاً شعبيّاً كبيراً، ما يهدّد فاعلية هذا التدخل.
وكان للحشد الغربي ضدّ لومومبا، وصمتِ الأمم المتحدة على ملابسات دالّة يقيناً على نية اغتياله، ثم محاولة احتواء التداعيات بمبرّرات شكلية، وعدم قدرة الدول البارزة في كتلة عدم الانحياز على فرض رؤيتها، أثرٌ في بلورة استمرار الأصولية الاستعمارية إزاء القارة، وتأكيد أن مشروع استقلال دولها ــــ الذي كان في إرهاصاته وزخم الابتهاج اللحظي ــــ لا يتجاوز حقائق تبعيّتها الاقتصاديّة والسياسية لـ «الدول الأم»، وأن «التحرّر السياسي» لا يعني الفكاك من ضرورات «الارتباط مع الاستعمار» إمّا بترتيبات مباشرة، أو بتمكين أدوات «الاستعمار الداخلي».

الرسالة الأخيرة
في رسالته الأخيرة من محتجزه في معسكر هاردي لزوجته قرابة الأسبوع الثالث من يناير 1961 ذكرها وبني وطنه، في نصّ بشكل وصية «رسول» للتحرّر الوطني الأفريقي، أنه طوال نضاله من أجل استقلال بلاده لم يشكّ للحظة واحدة في الانتصار النهائي للقضية المقدّسة التي يناضلون من أجلها وكرّسوا لها حياتهم: «وأن الاستعمار البلجيكي وحلفاءه الغربيين ــــ الذين وجدوا دعماً مباشراً وغير مباشر، مقصوداً وغير مقصود، بين مسؤولين كبار بعينهم في الأمم المتحدة التي وضعنا فيها ثقتنا ــــ لم يرغبوا في ذلك. لقد أفسدوا رجال بلادي، وأسهموا في تشويه الحقيقة وتدنيس استقلالنا. إنني لا أكترث بالميت أو الحي أو الحرّ أو السجين، لكنني أكترث بالكونغو وشعبنا البائس الذي تحول الاستقلال لديه إلى قفص يُنظر لنا من خارجه أحياناً بتعاطف ودود وأحياناً بلذّة وسعادة». ولفت إلى أن الوحشية أو سوء المعاملة أو التعذيب لم تضطره في أيّ وقت لطلب العفو، لأنه يفضل الموت مرفوع الرأس وراسخ الإيمان وواثقاً في مصير بلده على العيش في خضوع وخيانة واستهانة بالمبادئ المقدسة: «وسيكون للتاريخ ذات يوم كلمته، لكن ليس تاريخاً تعلّمه بروكسل أو باريس أو واشنطن أو الأمم المتحدة، لكنه تاريخ سيُدرّس في دول انعتقت من الاستعمار وأذنابه. ولسوف تكتب أفريقيا تاريخها، وسيكون، سواء شمال الصحراء (في إشارة لوعي نادر ومبكر بارتباط الشمال الأفريقي العربي بحركة التحرر الأفريقي) أم جنوبها، تاريخاً للمجد والكرامة».
أنبأ الخطاب «الرسولي» بإدراك لومومبا قرب نهايته، وفهمه الدقيق – وإن بدا متفائلاً أكثر مما يجب في أجزاء أخرى من الخطاب ــــ لديناميات الاستعمار وأعوانه، مهما تباينت مبرراتهم ولافتاتهم، في استمرار تحكّمهم في مصائر شعوب القارة الأفريقية، ولم يتحقق الانعتاق الذي تصوره لومومبا قريباً. فقد تولّى موبوتو السلطة رئيساً للبلاد لأكثر من ثلاثة عقود، وغرقت أغلب دول القارة في ترتيبات استعمارية للتغلّب على مشكلاتها ونجدتها من عثراتها الاقتصادية، وتكرّرت نكسات مساعي التحرر واحدة تلو الأخرى في أجزاء متفرقة.
ربما كانت رؤية المخرج الهاييتي الكونغولي راوول بيك في فيلمَيه عن باتريس لومومبا (1991، 2000) صائبة تماماً بعنونة الأول «لومومبا: موت نبيّ»، وتكريس صورة لومومبا وأفكاره عن التحرّر الأفريقي الذي ينقطع بالضرورة عن الاستعمار وأدواته ومبررات الارتهان به، وصدق أفكاره وثبوت صحّتها في الواقع الأفريقي بمرور الأعوام. وفي مارس الجاري تشهد شوارع العاصمة السنغالية داكار، معقل وقلب الاستعمار الفرنسي في القارة الأفريقية منذ قرون، زخماً مناهضاً للهيمنة الفرنسية ونخبتها وسياساتها، بما يتطابق مع أفكار لومومبا بشكل مدهش، وإن جاءت بعد نحو ستين عاماً من مقتله، أو لبس وأد الاستعمار وقواه وأعوانه في الداخل لأفكاره.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى