نفحات من كتاب “حضرموت حضارة لا تموت” للدكتورة “ريم عبدالغني”
الثلاثاء, 30 يونيو 2020 - 6:17 ص
0 346
بقلم: حسن صالح الكاف
بما تبقى في ثنايا الوجدان من خلال قرائي لكتاب “حضرموت حضارة لا تموت” للدكتورة المهندسة الأديبة ريم عبدالغني أقدم لكم قراءتي للكتاب بعيدا عن الطرق الكلاسيكية في كتابة القراءات ، على سبيل المثال أضع بين المعقوفتين [ ] عناوين مواضيع الكتاب أثناء السياق ، ولم أعرف بالكاتبة في فقرة مستقلة فالتعريف بالكاتبة في هذا المقام لا ينفك عن التعريف بحضرموت وتريم خصوصاً.
صدر الكتاب عن دار الفارابي في لبنان سنة 2016م ، ويقع في 350 صفحة يستطيع القارئ أن يشم من خلالها [عطر حضرموت] ويدرك أن [الأنف يعشق قبل العين أحياناً] ، يحتوي الكتاب على 20 بابا تدلفون منه إلى وادي حضرموت شرق جنوب اليمن، من خلالها تكتشفون السر الذي شغل هاجس العديد من الرحالة والمستشرقين ودوافع مغامراتهم لاستكشاف [حضرموت.. حضارة لا تموت] ، وتعرفون أعداء التراث الإنساني الذين يسرقون ذاكرتنا وماضينا، والمخاطر التي تهدد وادي حضرموت وعمارته، وأسرار أخرى هامشية كالسر الذي أوقع الفرنسية كلودي فايان (Claudie Vayne) في حب اليمن. أما السر الذي لا يخفى هو أهمية حضرموت كأحد أسباب الحرب الدائرة في اليمن.
الرسوم الفنية في الكتاب رسمها بـ[ريشة شغف] الفنان الفرنسي المغرم بالتراث اليمني جوزيه ماري بل (Jose Mari Bel) ففي الوجه الأمامي للكتاب تظهر [مدينة قوس قزح] شبام التاريخية التي شكلت البداية العاطفية للكاتبة مع وادي حضرموت، كما كان [إبداع الأيادي المتشابكة] يمثل بدايتها العلمية؛ حيث نالت درجة الدبلوم في الهندسة المعمارية بدراسة عن مدينة شبام بدرجة امتياز من جامعة دمشق ، ثم حصلت على بكالاريوس من جامعة حلب بدرجة امتياز، ودرجة الماجستير بمرتبة شرف عن (أسس تصميم المساجد القديمة في وادي حضرموت في اليمن)، ودرجة الدكتوراه من جامعة دمشق.. “ثم وقعت الكاتبة في غرام تريم” الوجه الآخر للكتاب ويبرز فيه مسجد المحضار “درة مساجد تريم وحضرموت كلها” ومئذنته الشهيرة أيقونة تريم الثقافية الخالدة [إيفل العرب] التي شيدها العلامة المتفنن الأديب أبوبكر ابن شهاب.
الكتاب يعد الثاني في سلسلة ثلاثية “اليمن السعيد”: “في ظلال بلقيس” ، “حضرموت حضارة لا تموت” ، “زهرة البركان” التي أعدتها د. ريم عبدالغني، خلال رحلة من البحث والشغف دامت 20 عاما في اليمن.
تريم [كأنها انسلّت من إحدى الأساطير] في نظر العاشقة ريم .. وقد صدرت الكتاب بإهداء خاص:
“إلى تريم..
التي حلقت روحي في حضرتها، وتوحّدتُ بها..
عشقا صوفياً..
فكأنها أنا، وكأنّي هي..”
كما أطلقت الدكتورة المهندسة ريم عبد الغني من “دمشق الفيحاء” شعار “تريم الغناء” في سلسلة محاضرات “أربعاء تريم الثقافي” الذي يحضره أعلام الثقافة والفكر، وأسست مركز “تريم” للعمارة والتراث بدمشق.
في تريم [مدينة بين المساجد] لم تجد الكاتبة ريم إجابة مقنعة عن سؤالها: “من أين جاء الاعتقاد بوجود 365 مسجداً هنا؟” ، وأكثر من ذلك العدد في قول المحضار:
جملة مساجد تريم أربعمائة ** يا فهيم أحصيتها بالعدود
فقد كثر الجدل حول الاعتقاد بالوجود الفعلي لهذا العدد في الماضي، أما الواقع فيؤكد خلاف ذلك ، وقد طال بي التساؤل عن حقيقة وجود هذا العدد حتى اهتديت إلى أن السر في ذلك يعود للكشف الصوفي الجلي والمبشرات بالتوسع العمراني للمدينة حتى تصل مساجدها إلى هذا العدد حقيقة ، كما تحققت بعض المبشرات في العقدين الأخيرة كامتداد المدينة إلى وادي عيديد وانعقاد الجمعة هناك الأمر الذي يعد من ضروب المستحيلات قبل حوالي سبعة قرون. ويمكن من خلال شكل بياني يوضح منحنيات نمو عدد المساجد التنبؤ بموعد تحقق هذه المبشرات ؛ ربما في المستقبل القريب يتحقق فعليا العدد المذكور نتيجة النمو العمراني المتسارع الذي تشهده مدينة “تريم”.
إنها مسألة وقت فقط بالنسبة لمدينة بين المساجد، ولكن التحدي الحقيقي يكمن في احتفاظ المسجد بطرازها المعماري الروحاني ، كما ترى الكاتبة أن “أجمل ما في حضرموت.. احتفاظها بشخصيتها وتراثها وأصالتها..” .
وفي حديثها عن التراث المعماري والهندسة المعمارية لم تغفل الكتابة عن [عمارة القلوب] ، كما أنها تشارك فريا ستارك (Freya Stark) نظرتها لتسرب الطراز الفيكتوري إلى حضرموت ، وتجاهد كلامياً في سبيل الحفاظ على عمارة حضرموت الطينية واستمراريتها وهو صلب رسالتها لنيل الدكتوراه.
في السياق تقول “لم يكن ممكناً أن أحكي لكم عن وادي حضرموت دون أن أخبركم عن عائلة الكاف المميزة..” كما تأثرت بالوصف الذي أطلقته فريا ستارك [عيال الله] وتعني أسرة السادة آل الكاف، الذين ينتمي إليهم عميد الدان الحضرمي في [بلاد الدان].
بشكل عام أوردت الكاتبة معلومات عن أهم مدن وادي حضرموت كما مرت على المحطات الرئيسية في تاريخ حضرموت، إضافة إلى حواشي الكتاب الغنية بالمعلومات التاريخية والجغرافية، أوردت بعض الاستطرادات الملهمة ، علق بذهني منها قصة العشق الحقيقية التي دونها الكونت لاند برج (Carlo-Landberg) ونشأت على اثرها حرب دامت 60 سنة خلفت مئات القتلى ، القصة مصدر إلهام مشروع عمل درامي للعشق اليمني.
تعاطف الكاتبة مع المغامر أدولف فون ريد (Von Wrede) ذكرني بما قرأته في التراث الحضرمي من أحداث القبض على أحد المستشرقين نقلا عن كتاب “تأنس القلوب والحواس في مناقب الحبيب صالح بن عبدالله العطاس” ، الأمر الذي يعضد ما أورده الهولندي بيرج (Van Der Berg) في “حضرموت والمستعمرات العربية في الأرخبيل الهندي” بخصوص فون ريد.
تستحق د. ريم عبدالغني الشكر بعدد [عشّاق حضرموت] والحضارم الذين لا تكاد الشمس تشرق إلا على واحد منهم.. ولأن [الحضرمي وطن مهاجر] كأن كل العالم حضرموت..
وأستغل هذه المناسبة لأوجه [رسالة من تريم] إلى الكاتبة أقول فيها:
أدعوك لتكرار الزيارة فمآذن مساجد تريم التي زُرتِها.. تحن لك واحدة واحدة.. وصرتك الترابية المعلقة على مدخل بيت حضرمي لا تزال بانتظارك ، ويؤسفني أخبارك أن “زنبقة بيضاء غصنها الدرج الطويل المنحني الأبيض الذي يتسلق الجبل إليه” قد طغت على هيبتها المباني الحديثة ولم تعد تبهر القادم إلى تريم كما كانت ، لكن اطمئني ستبقى تكن لك الوفاء الذي أخبرك به يوما أبو جمال – الرئيس الأسبق علي ناصر محمد.
استمتعت كثيرا بالتجول بين صفحات الكتاب ومواضيعه الشيقة ومنها [حضرموت في البال] ، [حالي يا عسل دوعني] ، [لا تعذبني وإلا] سرت..
وفي سياق الحديث عن سحر وجمال حضرموت أوافق الكاتبة تماما أن [الفجر يبزغ من هنا] بينما رفيقتها اليمنية فوزية لا ترى ذلك ، لهذا تتساءل ريم:
“هل لا ترى ما أره هنا .. ولكن مهلا .. لم لا تراه؟ هل لأن أكثر الناس زهداً بالجواهر الثمينة هم أصحابها؟ أم أننا نرى بقدر ما نعرف ونشعر؟ أم هي العلاقة الخاصة التي لا أنجح في تفسيرها بيني وبين هذا البلد مذ وطأت أرضه؟ بل ربما حتى قبل أن أطأها” .