الأخبارتقارير وتحليلاتمحليات

سياحة العيد في شمال اليمن.. ينابيع الجبال بدلاً عن السواحل

صنعاء – لطف الصراري

بين اعتبار السياحة ترفاً لا يليق التفكير به في بلد يشهد حرباً وانهياراً اقتصادياً مريعاً، وبين حاجة الإنسان لتخفيف أعبائه النفسية، يحرص اليمنيون على اقتناص البهجة في الأعياد والمناسبات دون اكتراث لهذا التناقض.

حتى العام 2014، كان ميسورو الحال في محافظات شمال اليمن يفضلون السياحة في المدن والمناطق الساحلية، خاصة في أجازتي العيدين: الفطر والأضحى. بعد أن قطّعت الحرب أوصال البلاد اختلف هذا الوضع. وبسبب صعوبة التنقل ومخاطره، ناهيك عن ارتفاع تكاليفه بأكثر من عشرة أضعاف، تحوّلت وجهة سكان هذه المحافظات نحو المسطحات المائية المنغرسة بين الجبال، حيث لا تزال السدود منذ آلاف السنين هي التقنية الأكثر فاعلية لحفظ مياه الأمطار. من البديهي أن تحيط بالسدود أودية دائمة الخضرة، كما لا يخلو المشهد من جداول تنساب من بين الصخور، سالكةً قنوات متعرّجة على المنحدرات وأطراف الحقول. يعتمد جريان هذه الجداول على غزارة الأمطار وعدد السدود التي تغذي المياه الجوفية إلى أن تنبجس الينابيع من بطون الجبال. وهكذا يمثّل الماء واخضرار الأرض عنصري جذب سياحي لآلاف العائلات من سكان المدن الرئيسية.

استكشاف اضطراري للطبيعة
فصلت الحرب الدائرة في اليمن للعام الثامن على التوالي، عشر محافظات شمالاً، وهي التي تسيطر عليها جماعة الحوثيين (أنصار الله)، بينما قسّمت خمس محافظات على الأقل، بين سلطة الجماعة وسلطة الحكومة المعترف بها دولياً. لا يستطيع سكان المناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثيين الوصول إلى السواحل، باستثناء الجزء المسيطر عليه من قبلهم في محافظة الحديدة. ومع ارتفاع كلفة المعيشة ودخول الاقتصاد ضمن أسلحة الحرب، صارت قدرة الوصول إلى ذلك الجزء من ساحل البحر الأحمر حكراً على العائلات التي لا يزال دخل أفرادها فائضاً بما يكفي للقيام بسياحة عيدية. أما الأُسر ذات الدخل المتوسط أو “رزق الكفاف” كما يقال، فتجازف بتخصيص ميزانية متواضعة لاستكشاف الخصائص السياحية للمرتفعات الجبلية في نزهة من يوم واحد. ومن حسن حظها أن هذه المرتفعات لا تزال تحتفظ بمساحات لا بأس بها من غطائها النباتي، وأن المزارعين لم يفقدوا علاقتهم الحميمة بالأرض والماء.

في محيط صنعاء العاصمة قرابة عشرة سدود، تتدفق نحوها مئات السيارات يومياً خلال أجازتي العيدين، منها “شلال وسدّ بني مطر” (70 كلم غرباً)، و”سدّ شاحِك” (25 كلم شرقاً)، و”سد سيّان” (20 كلم جنوب شرق) والسدود هي الوجهة الأولى للسياحة الداخلية في معظم المحافظات الشمالية.
وفي محاكاة لأجواء البحر، تتوفر قوارب صغيرة تطوف بمن يرغب في منح عائلته نزهة تعويضية عن تعذّر الوصول إلى السواحل. يمكن للمرء أن يرى إشباع الرغبة في نزهة بحرية في وجوه الأطفال والنساء وحتى الرجال. غير أن التمادي في إشباع هذه الرغبة إلى السباحة في السدود، يمكن أن يحوّل فرحة النزهة إلى مأتم. فقد حدث أن ابتلعت هذه البحيرات الجبلية عشرات الضحايا خلال السنوات الماضية، كان آخرها فتاة قضت غرقاً في سدّ “شاحك” (4 أيار/ مايو الجاري). ولم تمنع هذه الحوادث الأليمة من تدفق الناس نحو هذه المتنفّسات، سواء في الأعياد أو في أجازات نهاية الأسبوع، كما لم يتوقف استكشافهم الاضطراري لمتنفّسات أخرى بين الجبال، بالرغم من وعورة الطرق في بعض المناطق.

شلالات وأعراف لا تبلى
لا يقتصر بحث القاطنين في مناطق سيطرة الحوثيين عن المتنزّهات الطبيعية على السدود، فهناك من يفضل الذهاب نحو الينابيع والجداول التي تشكّل شلالات صغيرة ومتفاوتة الغزارة بحسب حصاد مياه المطر في كل موسم. على سبيل المثال، في محافظة إب – وسط اليمن، هناك أكثر من خمسة شلالات، وهي المحافظة التي تحتفظ بلقب “اللواء الأخضر” منذ سبعينات القرن العشرين الفائت. وفي محافظة المحويت – شمال غرب، هناك ثلاثة شلالات على الأقل، ومثلها في عمران – شمال، وفي صعدة هناك جبل اسمه “الشلّالات”. إنها طبيعة بكر وذات خصائص متغيرة تبعاً للتغيرات المناخية طويلة ومتوسطة المدى، حيث يحدث أن تجف الينابيع فجأة أو تدريجياً، ثم لا تلبث أن تعود بصورة غير معهودة سوى لكبار السنّ.

تنبع هذه الجداول من ارتفاعات متفاوتة في الجبال الصخرية، ولطالما شكّلت المصدر الأول لمياه الشرب والريّ قبل أن تصيب اليمن حمّى حفر الآبار. في المناطق التي تتوفر فيها ينابيع دائمة الجريان، لا يزال العُرف القبَلي ينظّم توزيع المياه فيها على المنتفعين، وفق جدول يومي أو أسبوعي. وعلى الرغم من إصدار الحكومة قانون المياه، احتفظ هذا العُرف بقوة سريانه في المادة (29) التي نصّت على أن “تبقى حقوق الانتفاع التقليدية والحقوق المرتفِقة بها قبل صدور هذا القانون على مياه الينابيع والعيون والغيول والجداول الطبيعية والآبار، مصانة ويحتفظ بها أصحابها كحقوق قائمة وذلك دون الإخلال بقواعد التسجيل…”. قوة القانون العُرفي هنا نابعة من نجاعته وقدرته على الإقناع، كما أنها أحد المؤشرات الرئيسية لخصوصية نظام حيازة الأراضي في اليمن، بما في ذلك الموارد الطبيعية ذات الجدوى الاقتصادية العامة.

لطالما كانت السياحة مورداً اقتصادياً مهدوراً في اليمن، وفي الوقت الذي اهتمّت الحكومة بتنشيطه منذ ثمانينيات القرن العشرين الفائت، تركّز ذلك الاهتمام على السياحة التاريخية والأثرية، تبعاً لاهتمامات السيّاح الأجانب. السياحة الطبيعية لم تكن ضمن أولويات الحكومة، ومع إدراكها لتوفّر عناصر الجذب الكافية لهذا النوع من السياحة، وضعت وزارة السياحة في العقد الأول من الألفية الثالثة تسعة أسباب تعيق استثمار هذا المورد، منها: “غياب استراتيجية وطنية واضحة لتطوير قطاع السياحة واعتباره من القطاعات الهامة التي يجب تنميتها وتطويرها”. استطال هذا الغياب شاملاً “استراتيجيات وطنية” أخرى إلى أن وصلت البلاد إلى الفوضى والحرب وانقسام الدولة، وتزعزعت ثقة المواطنين بالحكومات المتعاقبة وبالقادة الذين عجزوا عن رؤية المسارات الآمنة نحو مستقبل مستقر.

السياحة بمفهومها الحديث لا تمثّل أولوية بالنسبة لليمنيين، “حكومة وشعباً”، فقد اعتاد المسؤولون الحكوميون والأثرياء قضاء أجازاتهم في المنتجعات السياحية خارج البلاد، بينما اعتاد أفراد الشعب على “الفُسحة” القصيرة. سكان الأرياف يقصدون حدائق الألعاب في المدن، وسكان المدن يقصدون منابع المياه والوديان في الأرياف. وعلى الرغم من عناصر الجذب السياحي في هذه الأخيرة، لم تتمكن الحكومات المتعاقبة من جلب الاستثمارات إليها أو إنشاء بنًى تحتية للخدمات السياحية فيها. ومن النادر رؤية منشأة في بعض المزارات تقدم خدمة فندقية متواضعة للغاية خلال النهار فقط، ولا يُسمح فيها بالبقاء بعد الساعة العاشرة مساءً.

خلال السنوات الثمان الماضية، لم تكن الجبال والوديان بمنأى عن المعارك الضارية، خاصة في المحافظات الخمس الواقعة على خط التماس بين طرفي الحرب الرئيسيين: الحديدة، تعز، الضالع، البيضاء ومأرب. دمّرت قذائف المدفعية وصواريخ الطيران الحربي البنية التحتية لكثير من متنفّسات السياحة الداخلية – على قلتها وضآلتها، وأدارت الدولة المنقسمة ظهرها لاحتياجات مواطنيها، من لقمة العيش إلى دفقة الهواء اللازمة لتخفيف وطأة الحرب وتبعاتها عليهم. لكن الحياة أكبر من أن تتوقف في بلد اعتاد أهله عدم الركون على الحكومة في تدبير شؤونهم اليومية. إذ يكتفون بالحدّ الأدنى من الأمن ليواصلوا دأبهم من أجل البقاء، مسلّمين مصائرهم لإرادة الحرب والأزمات الخانقة التي تستنزف مداخيلهم المتدنية أساساً. “شعب صبور” بحسب تعبير جمال بن عمر- أول مبعوث أممي إلى اليمن بعد ثورة 11 شباط/ فبراير 2011، ومهما ضاقت سُبل العيش، لا يتخلّون عن حصتهم من البهجة كلما سنحت الفرصة لاقتناصها، بحسب السفير العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى