من يقرأ الدروس؟ بقلم| بثينة شعبان
بقلم| بثينة شعبان
كانت الحرب الأميركية على فيتنام آخر حرب يُسمح فيها للإعلام الغربي بأن يلعب دوراً حقيقياً في كشف الجرائم الوحشية التي ترتكبها جيوش الغزو الاستعماري بحق الشعوب وحق الشعب الفيتنامي، وكان للتحركات الجماهيرية المناهضة للحرب التي عمّت العالم، بما فيه الولايات المتحدة ودول الغرب الأوروبية، ضد الحرب على فيتنام، بالغ الأثر لوضع حدّ لتلك الحرب وانتصار فيتنام وهزيمة الولايات المتحدة.
منذ ذلك التاريخ عكف الاستراتيجيون الغربيون على دراسة هذه التجربة والأضرار التي ألحقتها بصورة الغرب عالمياً، وتوصّلوا إلى استنتاجات قضت بعدها عملياً على الإعلام الحرّ في الغرب، وعلى التحقق من الوقائع وممارسة المهنة الإعلامية بحيادية ودأب، للتوصل إلى حقيقة ما يجري وإيصاله إلى قلوب الناس وعقولهم في كل مكان.
وكانت أول حرب يطبّق فيها الغرب استراتيجيته الإعلامية الجديدة هي الحرب على العراق، حيث تمّ اختراع مصطلحات “Embedded Journalism “: “الإعلام المرافق للقوات”، بحيث أصبح من شبه المستحيل على أي إعلامي أن يغطي وقائع هذه الحرب من دون التعاون مع القوات الأميركية الغازية، ومن دون الحصول على موافقة القائد العسكري في المنطقة لنشر أي خبر عن مجريات الحرب؛ وبهذا كانت الحرب على العراق المختبر الأول لإلغاء دور الإعلام الحرّ وتسخير الإعلام والإعلاميين لخدمة القوات الغازية وأجندتها، وتكرّر هذا الأمر في يوغوسلافيا وليبيا والحرب الإرهابية التي شُنّت على سوريا. لكن، بإضافات لم تكن معهودة من قبل، بحيث تمّ إلغاء دور القنوات الرسمية نهائياً واستبدالها بشهود عيان مرافقين للإرهابيين، ويكتبون كل ما يُطلب إليهم كتابته، وبذلك جرى التحكم في الصورة التي وصلت إلى العالم عن الحرب على سوريا، وابتُدعت شبكات إرهابية إعلامية لتنفيذ الأجندة المرسومة من قبل أناس ليسوا من الجيوش الغربية، ولكنهم يتلقّون التمويل والأوامر وخطط العمل منهم. وكان مركز إرسال الأخبار والصور عن الحرب الإرهابية على سوريا يقع في بريطانيا، وتنقل منه كل الفضائيات والصحف.
وقد لاحظنا تطوير هذا الأمر مباشرة بعد بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، حيث زجّت القنوات الموالية للناتو بآلاف المحررين إلى أرض المعارك، وأنشأت منصات تواصل اجتماعي بسرعة مذهلة، يعمل فيها مئات المحررين، ويستقطبون، بسرعة مذهلة، ملايين المتابعين؛ أي إن الخطط للحرب الإعلامية كانت معدّة ومموّلة ومدروسة حتى قبل بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. ومع ذلك، وبعد كل هذه الوقائع وهذا التاريخ المذهل، ما زال الغرب يتهم الشرق بأنه ديكتاتوري، بينما يسبغ على نفسه صفة “الحرية” و”الديمقراطية”.
والمشكلة هنا هي أن الكثيرين في الشرق ما زالوا مؤمنين بما يصدّره الغرب لهم، حتى بعد سقوط كل الأقنعة، وما زالت صورة الغرب “الحضاري” و”الديمقراطي” و”الحر” ثابتة في أذهانهم، وتوجّه تصرفاتهم، رغم كل الأوجه العنصرية والوحشية والاستعمارية التي يحفل بها تاريخهم الاستعماري، وتفاصيل حروب الإبادة التي شنّوها ضد السكان الأصليين، في الغرب والشرق على حدّ سواء.
فما هو السبيل لإزالة الغشاوات عن أعيننا بعد أن سقطت كل أقنعة الغرب، وبعد أن برهن مراراً وتكراراً، وبما لا يقبل الشك، على أنه يرى في بلداننا وأرضنا مرتعاً لنهب الثروات ولقتل السكان الأصليين وتهجيرهم، وإحلال مرتزقة ومستوطنين ومستعمرين مكانهم، وبعد أن برهن مرة تلو أخرى أن ما يدّعيه من “إعلام حرّ” ما هو إلا سلاح حربي فتّاك آخر يستهدف به عقول وضمائر وقلوب من يعمل على استعمارهم ونهب ثرواتهم.
والمشكلة الأهم هي أن الغربيين، بعد كل حرب أو معركة، يسارعون إلى كتابة التاريخ كما يرونه هم، ويصدّرونه لنا لنقرأ عن أنفسنا بعدساتهم ونتشرّب أفكارهم وآراءهم، فلا نستطيع أن نرى أنفسنا إلا من خلال مرآتهم. لقد أصبح من السذاجة بمكان، أن تستمر دول العالم وشعوب العالم، بأن تكون ضحية لما أصبح واضحاً أنه يستهدفنا جميعاً في الحرب والإعلام والقوانين. وقد كانت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا كاشفة لموقف الغرب من الإعلام والرياضة والاقتصاد والثقافة، وهو موقف مؤمن بالمركزية الغربية والاستثنائية الغربية، ومستعد لأن يطيح كل الوسائل والأدوات التي تحاول أن تفهم العالم بطريقة مختلفة، إذ إن كل العقوبات التي صدّرها الغرب ضد الثقافة والرياضة والإعلام والاقتصاد والآداب الروسية والشعب الروسي واللغة الروسية تبرهن، من دون أدنى شك، ديكتاتورية الغرب في التعامل مع الآخرين، وإطاحته كل مخرجات القوانين والحرية وحقوق الإنسان، من دون خجل أو وجل.
كانوا يقولون لنا إن الاقتصاد حر، ولكن رأينا كيف خرجت مئات الشركات الغربية من روسيا بقرار سياسي، متحمّلةً خسائر فادحة، ورأينا كيف أن الرياضة مسيّسة بقرار غربي، على عكس ما كانوا يقولون.
هذا هو الغرب إذاً، وها قد سقطت جميع أقنعته، وكشفت الحروب والأحداث عن هويته الحقيقية، وعن موقفه من كل الشعوب غير الغربية؛ فلماذا يستمر البعض في الرقص على أنغام العم سام؟ ولماذا لا يمكن لنا، نحن الشعوب المتضررة، أن نتوقف عن استرضاء الغرب وأن نكفّ عن محاولة الالتزام بقوانينه ووجهات نظره ومواقفه، وأن نسعى، بدلاً من ذلك، إلى فرض مرجعيتنا نحن ووجهة نظرنا نحن وموقفنا نحن؟ بعد أن تأكدنا، وعلى مدى قرون، أنهم في الغرب لا يريدوننا كمساوين لهم في الإنسانية، بل يعتبرون شعوبنا من صنف دوني من البشر، وثرواتنا غنيمة حرب لهم، ومواقعنا الجغرافية حق لهم، يستخدمونها كيفما شاؤوا وأنّى اختاروا.
هذه فرصة تاريخية اليوم أمام العرب جميعاً لكي يصمّوا آذانهم عن الطابور الخامس والمزروع بين ظهرانينا كأداة للغرب، وأن يفتحوا صفحات تاريخهم التي يكتبونها هم بأيديهم، ويتعاونوا مع الدول التي من دون شك سوف تتخذ موقفاً في النهاية لصالح استقلالها الحتمي، ولصالح رأيها المستقل، ولصالح رؤيتها في إدارة شؤونها وإدارة الوضع الدولي ومشروعيته. ما زالت العملية العسكرية الروسية اليوم في بداياتها، وما شهدناه إلى حدّ اليوم من مواقف من الصين والهند والبرازيل والمكسيك وسوريا، وحتى من نقاش مستمر داخل دول وعواصم أوروبية، مثل برلين وباريس، سوف تكون له تبعاته واصطفافاته المختلفة تماماً عمّا شهدناه من قبل.
لقد سقط القطب الواحد، من دون شك، على وقع العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، ولا شك في أن دولاً أوروبية عديدة تنفض عن أعينها غبار الغشاوة الأميركية، وتستيقظ للمصلحة الحيوية لشعوبها، والتي سوف تكون في النهاية القول الفصل في مواقفها من التغيرات الجوهرية التي تطرأ اليوم على عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ فهل تقتنص النخب العربية، التي ليس لديها ما تخسره أصلاً، اليوم هذه الفرصة، وتكون سبّاقة لتموضع صحيح ومنطقي على الجانب الصحيح من التاريخ؟
لقد وصل العالم إلى مفترق الطرق الذي كان منتظراً منذ سنوات، ولا شك في أن إرادة الشعوب التي قرأت الدروس بشكل واعٍ ومدروس، هي التي سوف تصنع المستقبل الأفضل الذي يصون كرامة الإنسان وحقوقه وحريته، في كل مكان على هذا الكوكب.