مقالات

حضرموت.. مطالب الناس وتجاذبات الوكلاء بقلم| بشرى المقطري

بقلم| بشرى المقطري

في نهاية ديسمبر/ كانون الأول المنصرم، أُقيل محافظ مدينة شبوة (اليمنية)، محمد صالح بن عديو، أقوى الحلفاء المحليين للرئيس عبد ربه منصور هادي، الذي عيّن خلفاً له الشخصية الاجتماعية الموالية للمجلس الانتقالي الجنوبي عوض بن محمد العولقي. وفي حين عُد ذلك استجابة من هادي لضغوط حليفه السعودي، فإن مصير شبوة أصبح رهناً بالإجراءات التي قد يتخذها المحافظ الموالي للمجلس الانتقالي، بحيث قد يؤدّي إلى احتمال خروجها من سلطة الرئيس هادي، إلا أن الأخطر أن تطورات شبوة قد تدفع بمدينة أخرى أكثر أهمية لشقّ طريقها خارج سلطة شرعية متزعزعة، إذ تتفاعل في حضرموت، المجاورة لشبوة والغنية بالنفط، ديناميات اجتماعية واقتصادية وأجندات محلية وإقليمية متنافسة، بحيث قد تستنسخ تجربة شبوة، أو على الأقل تُرجح كفة طرفٍ على الآخر.

لأسبابٍ سياسيةٍ واجتماعية، ظلت مدينة حضرموت، أكبر المدن اليمنية من حيث المساحة والمدينة الغنية بالنفط على هامش الحروب والصراعات المحلية، إذ إن حساسية المجتمع الحضرمي حيال العُنف والصراعات جعلته لا ينخرط فيها بشكل كبير، كما أن اتساع رقعة المدينة أدّى إلى اختلاف طبيعة اهتمامات السكان في المجال العام، مع غلبة النشاط الاقتصادي والهجرة، وما يستتبعه ذلك من تنمية علاقات اجتماعية وسياسية مستقرّة ونبذ الصراع، كما ساهمت التقاليد الحضرمية المترسّخة في احترام القانون بتنظيم النشاط السياسي في قنوات أشكال التعبير السلمي، الأمر الذي جعلها تنأى بنفسها عن الصراع المنفلت. ومع أن للمجتمع الحضرمي، كغيره من المجتمعات المحلية، صراعاته البينية وحساباته السياسية تتفاعل مع الظروف المحيطة، فإن تراثه الأكثر حنكةً من مجتمعات محلية مجاورة جعلته يدير انقساماته السياسية وتمايزاته الاجتماعية ضمن سياسة إدارة المصالح البينية في نطاق احترام كيان السلطة المحلية، أيا كان توجّهها السياسي، إذ ظل الصراع مع السلطة المركزية وممثلها السلطة المحلية في مستويات متدنية، وإن وجدت الدعوات الاستقلالية إبّان الحراك الجنوبي صداها محلياً، كما تحكم تفاعلية المجتمع الحضرمي مع القوى السياسية بشكل عام بأنها وافدة أو محلية، إذ تتجذّر اتجاهات سياسية محلية ترى في حضرموت كيانا مستقلا خارج دائرة الانتماء للسياقات التاريخية التي شكّلت دولة الجنوب سابقاً، وهو ما يتقاطع مع تعاطي المجتمع الحضرمي مع الجبهة القومية التي ورثت سلطة الاستعمار البريطاني في ستينيات القرن المنصرم، أو الحزب الاشتراكي إبّان دولة الجنوب، ثم المؤتمر الشعبي العام مع قيام الوحدة اليمنية، فمع انخراط بعض زعامات الأسر الحضرمية مع الجبهة القومية ثم مع الحزب الاشتراكي، فإنها لم تؤثر على المجتمع، عدا الطبقات التي كانت متضررة من حرمانها من الامتيازات لصالح القوى الاجتماعية النافذة في مجتمع طبقي، إلا أن تغير حركة المجتمع دفعت نطاقات اجتماعية إلى الانخراط بالنشاط السياسي، كالانتماء لحزب التجمّع اليمني للإصلاح، ثم الاتجاه نحو الجماعات الراديكالية، كتنظيم القاعدة، إضافة إلى بحث الأسر الحضرمية الكبرى عن تمثيل سياسي يضمن مصالحها، سواء في اطار الدولة المركزية أو تحت مظلة الحراك الجنوبي، فيما دفعت التحولات العميقة التي أفرزتها الحرب الحالية في سياقها السياسي والاجتماعي والاقتصادي إلى تنامي الضغط على المجتمع المحلي.

تطورات المشهد السياسي الوطني طوال سنوات الحرب، والموقع الجغرافي والاقتصادي لحضرموت، وتفاعل القوى الإقليمية الناشطة في المدينة، فرضت على حضرموت واقعاً جديداً، خصوصا مع اندلاع الصراع بين فرقاء السلطة في جنوب اليمن. ففي حين حرصت السلطة الشرعية على تكريس سلطتها هناك لضمان بقاء المدينة الغنية بالنفط تحت نفوذها، وذلك بتعيين شخصية عسكرية حازمة لإدارتها، اللواء فرج سالمين البُحسني، قائد المنطقة العسكرية الثانية، وكذلك لتأمين المكلا، عاصمة بديلة في حال صعد المجلس الانتقالي من صراعه ضد الشرعية في العاصمة المؤقتة عدن، فقد تضاعف اهتمام القوى السياسية باستقطاب المجتمع المحلي، حيث ركّزت القوى المتنافسة حضورها في حضرموت، تحت أجندات سياسية وإقليمية مختلفة. ومع أن جزءا من المجتمع ما زال يرى في المجلس الانتقالي قوة سياسية وافدة من خارج حدودها، إضافة إلى مشاريعه الاستحواذية في السيطرة على كامل جنوب اليمن، إلا أن “الانتقالي” تمكّن، إلى حد ما، من تكثيف حضوره في السنوات السابقة بدعم من حليفه الإماراتي، إلى جانب دعم الرئيس هادي تشكيل (وتمويل) كيانات سياسية موالية له، وداعمة للسلطة المحلية، كالمؤتمر الجامع لحضرموت، الذي يطالب بإقليم حضرموت ضمن أقاليم الدولة الاتحادية، أي وفقاً لأجندة الرئيس هادي، إضافة إلى كيان المجلس الأعلى للحراك الثوري، التابع للقيادي المؤسس في الحراك الجنوبي حسن باعوم، الذي نشط في سنوات الحرب ويدعو إلى استقلال جنوب اليمن، فضلاً عن الحضور السعودي في المدينة، إلا أنه على الصعيد العام ظل نشاط القوى السياسية متذبذباً، إذ ظل نفوذ القوى الموالية للرئيس هادي محدود التأثير، وإن دعمته السلطة المحلية الموالية له، إلى جانب تقييد نشاط المجلس الثوري الذي تعرّض نشطاؤه للتنكيل من السلطة المحلية والمجلس الانتقالي، مقابل انحصار نشاط “الانتقالي” في نطاقات مدنية. ولذلك لم يؤد التنافس بين القوتين الرئيسيتين إلى انقسام المجتمع، مقارنة بمدينة شبوة المجاورة مثلاً، إلا أن معادلة الاقتصاد للمدينة النفطية جعلت الطرفين يعملان على استثمارها وإدارتها لصالحهما.

تدفع الثروات الاقتصادية في مدينة مُفقرة إلى حد كبير في تغيير المعادلة السياسية المحلية، حتى في مجتمع حذر كالحضرمي، إذ إن حرمان قطاعات واسعة من المجتمع من مداخيل الثروة النفطية، مقابل تمتع شبكات المحسوبية في منظومة السلطة الشرعية بعائداتها، عكس تشوّهات ممارسة السلطة، فعلى الرغم من اعتمادها على تصدير نفط حضرموت من شركة بترو مسيلة الذي يشكل إجمالي إنتاج اليمن من النفط الخام، وذلك مع توقف القطاعات النفطية الأخرى عن التصدير، فإن السلطة الشرعية تجاهلت استمرار تردّي الأوضاع المعيشية للمواطنين، وغياب الخدمات الأساسية، وتحديداً الكهرباء، ما فاقم من سخط معظم المواطنين على السلطة المقيمة في الرياض، وممثلتها السلطة المحلية، ما مكّن المجلس الانتقالي من توجيه معركته ضد الشرعية، ممثلاً بمحافظ حضرموت، اللواء فرج سالمين البحسني، تحت غطاء الاستحقاقات الاقتصادية للمواطنين، حيث وظف تدهور الأوضاع المعيشية من أجل تثوير الشارع في مظاهرات احتجاجية عديدة شهدتها مدن حضرموت. ومع أن المحافظ البحسني، وهو الشخصية العسكرية القوية، حاول ضمان حصّة حضرموت من عائدات النفط لتنمية المدينة، فإن غياب الشفافية واستمرار تردّي الأوضاع الاقتصادية جعلاه في مرمى الصراع الدائر، فيما أدار معركته ضد “الانتقالي” في اتجاهين، لمحاولة تحجيمه سياسياً، ومن جهة أخرى إقامة علاقات أكثر توازناً مع القوى الإقليمية الفاعلة في حضرموت، حيث ناور الضغوط الإماراتية وتحاشى المواجهة معها، وكذلك محاولة كسب رضى السعودية التي تتمتع بحضور مجتمعي في حضرموت، ولها أجنداتها التاريخية، كما حاول امتصاص غضب الشارع عبر التحاور مع قادة الحركة الاحتجاجية الأكثر اعتدالاً ومحاولة استيعاب مطالبها في سياقها التنموي وليس السياسي، إذ خفّض تسعيرة المشتقات النفطية في المدينة أخيرا، مقابل استخدامه القوة والعنف بإفراطٍ تجاه المعارضين، والتي طاولت الصحافيين والنشطاء، وذلك باعتقالهم وترهيبهم، جديدهم الصحافية هالة فؤاد باضاوي، التي جرى اعتقالها ونقلها إلى سجن المخابرات في المكلا، إلا أن تحدّيات الجانب الاقتصادي حولت المدينة إلى ساحة للمواجهة.

للهبّات الشعبية تاريخ اجتماعي وسياسي في حضرموت، وإذا كانت الهَبة الحضرمية الأولى التي شهدها المجتمع في سنوات سابقة ظلت تحت مظلة الحقوق المطلبية إلى حد ما، فإن الحرب والاستقطابات السياسية المحلية والإقليمية قلّصت المسافة بين المطالب الحقوقية والاقتصادية المشروعة للمجتمع الحضرمي المنهك اقتصادياً والمطالب السياسية بمشاريعها المتعدّدة، حيث اندفعت الهبّة الشعبية الحضرمية الثانية تحت ضغط تردّي الأوضاع المعيشية، وفشل السلطة الشرعية والمحلية في إيجاد حلول عاجلة لتلافي انزلاق حضرموت إلى العنف، بحيث تركت أثرها في المشهد السياسي في المدينة، وإن حضر المجلس الانتقالي، إلى حد كبير، في توجيهها، سواء على مستوى الحشد أو التوظيف السياسي، على عكس الهبّة السابقة التي تعدّدت فيها القوى الجنوبية، وهو ما عكس احتكار “الانتقالي” الحضور الجماهيري في جنوب اليمن، مقابل التضييق على المكونات الجنوبية الأخرى. وعلى الرغم من أن انطلاق الهبّة الحضرمية الثانية سبقه حراك مجتمعي، تزامن مع انهيار العملة اليمنية مقابل الدولار في المناطق الشرعية طوال الأشهر الأخيرة من العام الماضي، وتمظهر في تنفيذ عصيان مدني شلّ مناحي الحياة، فإن عدم استجابة السلطة لمطالب المجتمع دفع القبائل الحضرمية إلى صدارة المشهد من جديد، عبر استخدام ورقة النفط التي يمكن أن تفهمها السلطة الشرعية، إذ دفعت القبائل أبناءها إلى وضع نقاط شعبية على طول خط نقل الإمدادات البرّية لشاحنات النفط المغادرة من حضرموت والتي تمر بأراضيها، إضافة إلى منع تصدير الثروة السمكية، بحيث أعاق أبناء القبائل، وطوال الأشهر السابقة، تصدير النفط والسمك، في خطوة تصعيدية للضغط على السلطة المحلية وعلى الرئيس هادي لتحقيق مطالبها، والتهديد بايقاف تصدير النفط من ميناء الضبة. ومع أن هناك تمايزاً ما بين مطالب الهبة الثانية أو ما عرف ببيان لقاء حضرموت العام ومطالب مظاهرة المكلا أخيرا والتي تصدرها المجلس الانتقالي، إذ ركّزت مطالب القبائل على تحسين الأوضاع المعيشية، وضمان استفادة المجتمع الحضرمي من عائدات النفط، وتجنيد الشباب للدفاع عن حضرموت، فإن مطالب مظاهرة المكلا كانت موجهةً سياسياً ضد الشرعية، وإن خفضت حدّة خطابها مؤقتاً بتغيير المحافظ، إذ طالبت بنقل مقرّات الشركات النفطية من صنعاء إلى مدينة عدن، ونقل الألوية العسكرية من حضرموت إلى مناطق التماسّ مع جماعة الحوثي، واستكمال تنفيذ اتفاق الرياض.

الطريق ما بين حضرموت والفوضى ليس طويلاً، تماماً كمدن يمنية أخرى، ففي ظل تداخل المطالب السياسية والمطلبية، وتنامي نفوذ المجلس الانتقالي، وعجز الشرعية عن التصرّف بوصفها سلطة فعلية تؤمن معيشة المواطنين، وتضمن لهم تمتّعهم بخيراتٍ تذهب بعيداً عنهم، فإن مستقبل المدينة المسالمة قد يكون غامضاً، وإنْ كان لأجندات الإقليم القرار الحاسم في وجهة أي مدينة يمنية في المقام الأول، بعصا استكمال تنفيذ اتفاق الرياض، الصيغة المشوّهة لتقاسم السلطة بين وكلاء عاجزين ومتربصين بعضهم ببعض. العربي الجديد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى