استقالة قرداحي في ميزان السياسة الخارجية السعودية بقلم| وسام أبو شمالة
بقلم| وسام أبو شمالة
تُعتبر الدبلوماسية إحدى الأدوات الرئيسة في تنفيذ السياسة الخارجية للدولة، وتتّخذ أشكالاً متعددة. فمنها الناعم والمرن، والذي يسعى لحل الأزمات بهدوء وخلف الغرف المغلقة من دون ضجيج، ومنها الخشن والعنيف، والذي ينتقل إلى أسلوب التهديد والوعيد والتلويح باستخدام الأداتين العسكرية والاقتصادية. وتتّصف السياسة الخارجية السعودية، تاريخياً، باستخدام الدبلوماسية الهادئة لمعالجة القضايا والأزمات.
شهدت السياسة الخارجية السعودية تحوُّلاً في السنوات الأخيرة، نابعاً من قراءة مرتبكة للمتغيرات السريعة في المنطقة. واستخدمت بدلاً من دبلوماسيتها الهادئة، مواقفَ وخطوات ذات مستوى عالٍ من التصعيد والمواجهة.
تقدير الموقف السعودي تجاه التحولات في البيئتين الإقليمية والدولية، أكّد أن تحليلها لمستوى التهديدات والمخاطر، مرتفع، وقد يصل إلى تهديد استقرار النظام في المملكة.
تدخّلت السياسة السعودية، بصورة مباشرة، في الأزمات والصراعات في المنطقة العربية منذ عام 2011. ففي البحرين تدخّلت عسكرياً، من أجل القضاء على الحراك الشعبي المناهض للنظام الموالي لها، واجتاحت الدبابات السعودية الأراضي البحرينية.
وفي سوريا، دعمت عسكرياً المعارضةَ السورية والجماعات المسلحة، وأسقطت عضوية سوريا في جامعة الدول العربية.
فرضت السعودية حصاراً سياسياً واقتصادياً على جارتها الخليجية قطر، وصنّفت جماعة الإخوان المسلمين جماعة “إرهابية”، على الرغم من العلاقة التاريخية بين الطرفين، وشنّت حملة اعتقالات ضد كوادر حركة “حماس” وقياداتها في المملكة، وجفّفت مصادر الدعم المالي والتبرعات للحركة في أوساط الشعب السعودي ومؤسساته الخيرية.
شنّت السعودية حرباً ضد اليمن، سمَّتها عاصفة الحزم. ومؤخراً، شنت حرباً دبلوماسية ضد لبنان على خلفية تصريحات قالها وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي قبل تنصيبه، وانتقد فيها الحرب على اليمن.
اعتقد النظام السعودي أن تخليه عن السلوك الحذر في سياسته الخارجية، سيحدّ مستوى التهديدات، وأن شن الحروب، ودعم العناصر المسلحة، والحصار الاقتصادي، والمقاطعة الدبلوماسية، ستأتي بخصومه إلى بيت الطاعة صاغرين. لكنْ، بعد ما يقرب من عشر سنوات، فإن نتائج تلك السياسة لم تجلب سوى مزيد من التدهور والقضم لمكانة النظام السعودي وشرعيته، إقليمياً ودولياً وشعبياً.
فشلت السياسات السعودية تجاه إيران وسوريا واليمن ولبنان وقطر، فشلاً ذريعاً، ولم تحقّق الحد الأدنى من أهدافها.
تحوّلت الجبهة اليمنية ـ السعودية إلى ساحة تهديد واستنزاف، وتضاعفت قوة حركة “أنصار الله”، وتمكّنت من تنفيذ هجمات عسكرية هدّدت مصالح السعودية الاستراتيجية، ولاسيما الهجوم الأبرز على المنشآت النفطية لشركة “أرامكو” السعودية، عبر استخدام عشرات الطائرات المسيَّرة.
تصاعد التوتر في العلاقات السعودية ـ الإيرانية، على خلفية الموقف السعودي المؤيد للسياسة الأميركية ـ الإسرائيلية تجاه الملف النووي الإيراني وملفات المنطقة وأزماتها، وتحديداً في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. ونجحت إيران في تجاوز حقبة ترامب، وعزّزت نفوذها ومكانتها وثقلها الاستراتيجي في المنطقة.
خليجياً، لم تنجح سياسة الحصار والعقوبات وإغلاق الحدود وفرض المقاطعة، اقتصادياً وتجارياً ودبلوماسياً، وإغلاق المواصلات البرية والبحرية والجوية، في إجبار قطر على قبول الشروط السعودية، الأمر الذي اضطر الرياض إلى التراجع عن موقفها.
توتّرت العلاقات السعودية ـ التركية على خلفية مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، وقيام السعودية بفرض عقوبات صارمة على قطر التي تحالفت مع تركيا، ووثّقت علاقتها بإيران، الأمر الذي مكّنها من مواجهة الحصار السعودي ـ الإماراتي ـ البحريني.
السياسة السعودية المرتبكة تجلّت مؤخَّراً في لبنان، على خلفية تصريحات الوزير جورج قرداحي، ففرضت مقاطعة شاملة على لبنان والحكومة اللبنانية الوليدة، الأمر الذي عكس شعوراً بفشلها في كل الملفات الإقليمية، ومنها ملف لبنان، لتصبّ عليه جام غضبها، بعد أن تراجع نفوذها وتأثيرها التاريخيان فيه، وتراجعت الأحزاب الموالية لها، لمصلحة تعزيز مكانة كل من حزب الله وإيران التي أرسلت قوافل وقود إليه، ساهمت في الحد من أزمته الحادة.
حاولت السعودية، في كل المراحل، الحدّ من مكانة حزب الله وتأثيره في لبنان، الذي تتهمه بالدعم والتدريب لكلّ من قوات حركة “أنصار الله” في اليمن، والحشد الشعبي في العراق، وسعت لاتّباع سياسة حافة الهاوية تجاه لبنان بهدف زعزعة البيئة الداخلية اللبنانية الهشّة أصلا، والعمل على إشغال حزب الله في مواجهة أزمات داخلية، تؤدي إلى استنزافه، على نحو يقلّص دعمه لحلفائه في اليمن والعراق، واستعادة السعودية دورها في لبنان.
حقّقت السعودية هدفاً ثانوياً من خلال إعلان الوزير قرداحي الاستقالة، بينما مُنِيت بالإحباط والفشل في تحقيق أهدافها الرئيسة في لبنان، وفي المنطقة على وجه العموم، واستعاضت عن هذا الفشل بدفع وزير لبناني إلى الاستقالة!
فشل السياسة السعودية في المنطقة يعود إلى تحالفها التاريخي مع الولايات المتحدة الأميركية المعادية لتطلعات الأمة الإسلامية، ظناً منها أن الغطاء والحماية الأميركيَّين أبديان وغير قابلَين للتحوّل والتغيير.
تعزَّزت العلاقات الأميركية ـ السعودية في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، والتقت مصالح الطرفين تجاه ملفات المنطقة، وتحديداً تجاه الملف النووي الإيراني، والنظرة إلى محور المقاومة، الأمر الذي مهّد الطريق لانسحاب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب من الاتفاق النووي مع إيران، والذي أُبرم عام 2015 في عهد الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، وابتزّت إدارة ترامب النظام السعودي، مالياً واقتصادياً، ودفعته إلى توقيع اتفاقات بمئات المليارات معها.
سعى النظام السعودي لتوثيق العلاقة بـ”إسرائيل” على قاعدة العداء لإيران، والعمل معاً لدفع إدارة ترامب إلى شنّ هجوم عسكري ضد منشآتها النووية، ومهّد الطريق لمسار التطبيع في المنطقة، والذي تُوِّج بتوقيع ما عُرف بـ”اتفاقيات أبراهام”.
ازدادت التخوّفات السعودية منذ تولي الإدارة الديمقراطية بقيادة الرئيس الأميركي جو بايدن، وانسحابها المُذلّ من أفغانستان، وتبنّي بايدن سياسات مغايرة لسياسات سلَفه ترامب، أبرزها العمل على خفض التصعيد في المنطقة، والعودة إلى التفاوض مع إيران بشأن الملف النووي، واستبعاد الخيار العسكري، وتراجع الاهتمام بمنطقة الشرق الأوسط، والتركيز على التهديد الصيني.
بدأت السعودية تدرك ببطء أن التحالف الأميركي ـ السعودي ليس قَدَراً، وأن مصالح الولايات المتحدة هي المحدِّد لسياستها الخارجية، الأمر الذي يعني أن الحماية الأميركية للسعودية مهدَّدة، وليست حتمية.
الإدراك البطيء وحالة انعدام اليقين بشأن مصير التحول في السياسات الأميركية ونتائجه، دفعا صُنّاع القرار في المملكة إلى بدء مقاربات جديدة، ما زالت محدودة وهامشية، فيما يتعلّق بعلاقاتها البينية في المنطقة، والعمل على ترميم ما أفسدته السياسات السعودية، نتيجة القراءة غير العميقة لتوازنات القوى في المنطقة. ويبدو أن هذه المقاربة ما زالت بطيئة، ويعلوها مستوى عالٍ من الشكّ والإرباك. وأشار عدد من المصادر إلى عقد لقاءات جمعت مسؤولين من كل إيران والسعودية، الى جانب البدء في مسارات معالجة الأزمة مع قطر وتركيا.
لا تغيب عن المشهد “إسرائيل”، التي باتت تشعر بأن السياسة الأميركية الجديدة أدت إلى تراجع اندفاعة محور التطبيع معها، وبدأت تخشى تراجع الموقف السعودي تجاه إيران.
يعاني النظام السعودي ارتباكاً في قراءة مستوى التحولات في المنطقة، ويعتقد أن البدائل والخيارات أمامه محدودة، في حال قرّر إعادة التموضع، الأمر الذي سيقلّص هامش التغير في سياسته الخارجية، التي ستبقى سِمَتُها الأهمُّ الارتباكَ وسُوءَ تقدير الموقف.