لن تكون ستوكهولم على أبواب مأرب بقلم| جمال حسن
بقلم| جمال حسن
في لحظة مفصلية تشهدها حرب اليمن، وتحديدًا في مأرب، تصبح المبالغة في التأويل ضربًا من إلقاء الخرافات على الحقائق، فالتُّهم جاهزة بين الأطراف. ولا بد أن هناك أسبابًا عملية وراء ما آلت إليه تطورات المعركة هناك، بعد سلسلة هجمات ضارية أفضت إلى كماشة حوثية على أهم معقل للحكومة المُعترف بها دوليًا في شمال اليمن. ويفرض سؤال نفسه، ماذا لو سقطت مأرب في يد جماعة الحوثي؟
سنجد أنفسنا أمام أكبر معضلة في اليمن، وهي التنبؤ، ففي بلد تنفلت معاييره من عقال الماضي، يصعب ذلك. وللخروج من هكذا مأزق، علينا إثارة أسئلة، وبأقل قدر من الإجابات الحتمية. مع أن هناك حتميات عديدة تُطرح، مثلًا هناك تصور واسع بأن مأرب صمام أمان الجمهورية. لكن الخطر الداهم على مأرب، ناتج بالضرورة عن جمود الجبهة هناك بالنسبة للقوات الحكومية، دون تحقيق أي تقدم. وبطبيعة الحال، لا بد أن تنكمش في مسار عكسي مادامت في موقف دفاعي فقط لمصلحة الطرف المُهاجم. وذلك ما سبق وأشرت له في مقالات سابقة على هذه المنصة.
وحقيقة، أنه منذ سقوط الجوف ونهم، أصبح الحديث أنه في حال سقطت مأرب سيكون مصير الوحدة اليمنية في خطر. فأول تطور سيعمق هشاشة دور الحكومة المعترف بها دوليًا، ولمصلحة الأطراف المتواجدة على الأرض. ولا يخفى علينا أن هناك أطرافًا تنتظر إزاحة الحكومة من المشهد.
ولكل طرف سياسي، تفسيراته الخاصة، فالاتهامات جاهزة للنيل من طرف سياسي، ومن قيادات لم تؤدِّ دورها كما يجب. ولا يمكن إغفال سلسلة أخطاء أدت إلى هذا التحول، لكن ليس بالإمكان حملها على طرف، وإن كانت مسؤوليته أكثر وضوحًا من عداه، لأن هناك شركاء وإن كانت أدوارهم مختلفة. وهذا يتطلب مقالة تركز على ذلك الجانب.
ولعل المجلس الانتقالي الجنوبي، وتحديدًا قياداته، ترى في الأمر تطورًا لصالحه، كون ذلك سيخلي له الساحة للاستئثار بمصير الجنوب اليمني، من وجهة نظره. ولعل الآمال مقبض خادع، وإن كنا لا نعرف مدى إمكانية تحقق تلك الآمال على أرض الواقع. وهذا المقبض الخادع تثيره أطراف أخرى لن أسميها، بُحكم وجود استثناءات داخل تلك الأطراف. ولا نغفل حقيقة تكاد تكون حتمية، بأن جماعة الحوثي ستتضاعف قوتها، بمجرد سيطرتها على مأرب.
وليس من البساطة الذهاب إلى أن المعركة ستبلغ النهاية في مأرب، على الأقل مازالت جبهات لم تكتمل في الشمال. وبالنسبة للحوثيين، لا شيء يمنع عنهم التفكير في التوسع جنوبًا، إذا وجدوا الأمر في متناولهم. لكن السيناريو المخيف، سيكون إلقاء النرد لجعل المعركة كما لو كانت بين شمال وجنوب، وهو إطار يفضله الانفصاليون المدعومون من الإمارات، ولا يعني ذلك أن السعودية غير قابلة بالأمر.
المثير للشك، ما تحمله الملفات الإقليمية، إذ نلحظ دفعًا في ملف الاتفاق النووي الإيراني، وما تسمى مفاوضات 5+1. وهذا التزامن مع تطور الأوضاع في مأرب يعيد إلى ذكرانا تزامن سقوط صنعاء في 2014 مع مباحثات الاتفاق النووي في عهد الرئيس الأمريكي باراك أوباما، وهو الاتفاق الذي ألغاه ترامب، ويحاول بايدن إحياءه. وفي كلا الحالتين كانت اليمن هامشًا تحدد مصيرها تفاهمات أخرى. وربما هناك مباحثات جديدة حول اليمن يؤجلها مصير حاسم. وذلك لا يمكن التكهن به دون الأخذ بالاعتبار استراتيجية الحوثي.
وإذا حاولنا تحليل استراتيجيته، فهي تقوم على تجزئة معاركها، وتكريس كل طاقتها، أو معظمها، في جبهة محددة حتى حسمها. ودائمًا ما تعتمد على تحقيقها عبر دفعات. وفي معركة مُعقدة كمأرب، واجهوا مقاتلين مستبسلين في ساحات ترخص فيها حياة المتحاربين بتضحيات جسورة، وفيها تتشكل خارطة دماء ومآسٍ. فوجهة المعارك على مدى عامين أخذت تصعيدًا مستمرًا يحقق خلالها الحوثي مكاسب يعمل على المحافظة عليها، ثم تصعيدها. فهل هناك توافق خفي لتصفية طرف سياسي وإزاحته من اللعبة السياسية في اليمن؟
ووجد المدافعون أنفسهم تحت وطأة هجمات وتعزيزات لا تكف عن الزيادة مهما كان الضحايا. وافتقدوا القدرة على المبادرة بالهجوم، فلا تعزيزات ولا سلاح كافٍ. كما أننا لسنا على اطلاع بخارطة المساندة الجوية، أين تحضر بكثافة وأين تنكمش؟ وربما تعمل تلك على صياغة مسار الحرب بصورة من الصور.
بحسب مصدر مُطلع جيدًا على سير المعارك، سيطر مقاتلو الحوثي على بيحان دون مواجهات، ومن هناك سيطروا على مديرية حريب. شكل ذلك اختراقًا خطيرًا، بفتح جبهة جنوبية لم تكن بالحسبان. وطوقوا مأرب من ثلاث جهات بكماشة من الجبهات المستعرة، لتستمر سيطرتهم على مركز مديرية العبدية. وقبل ذلك، اندلعت مواجهات في بيحان بعد تعزيز مقاتلين من شبوة، لكن تلك الجبهة سرعان ما خفتت.
والجلي أن الحوثي لن يترك فرصة لخصومه بالتقاط الأنفاس، أي أن وتيرة هجومه لن تخمد تحت أي دواعٍ. فعندما تكون الظروف لصالحه لحسم معركة لن يتساهل تحت أي ظرف، ما لم تكن متعلقة بطبيعة المواجهات نفسها. إنها مسألة واضحة في معارك الحوثي.
وإذا عجز مقاتلو الحكومة المُعترف بها دوليًا، عن دحر مقاتلي الحوثي، واستعادة مواقع مهمة. فإن ذلك سيزيد من تعقيد المعركة. وبحسب ما علمت، فإن مقاتلي الحكومة لن يتوقفوا عن مواجهة الحوثي، وإن كان ذلك في قلب مدينة مأرب. لكن إذا نجح الحوثيون في السيطرة على مأرب، فإنه من المستبعد الركون لصورة حتمية، فذلك سيكون بمثابة حافز لانقضاض الحوثيين على جبهات أخرى وتوسيع سيطرتهم.
ولن يكون الجنوب بمنأى عن أهداف الحوثي، حتى في وجود تفاهمات أو معاهدات، فإن جماعة الحوثي ستواجه مشكلة عميقة إذا ما وافقت على اتفاقية تضمن للمجلس الانتقالي الانفصال. ولا يمكن إغفال جانب جوهري في تركيبة جماعة أيديولوجية، يقوم تماسكها على التعبئة والحشد، وهناك جوانب مناسباتية، لكن وجود عدو ومعارك مسألة لا يمكن الاستغناء عنها. ولنا في إيران أسوة. أي أن ما يراهن عليه أطراف بأن مأرب منعطف سيعزز أدوارهم السياسية، فذلك تصور غير مبني على الوقائع. والأكيد أن هذا الموقف يركن إلى ما تحظى به من دعم ومساندة إماراتية أو سعودية. لكن على المدى البعيد سيصب ذلك في مصلحة الحوثي، لأنه سيصبح الحامل لقضية، كما أنه يتمتع بنفس طويل، وتشكل التعبئة للجهاد أحد أعمدة تواجده.
إنها معركة ستشكل منعطفًا، ولا يمكن تغيير الأشياء، فإما أن يكون نجاح الدفاع مقدمة للتحول هجومًا، وهذا تحدده جاهزية في العتاد والمقاتلين، وإما أن ينتهي الأمر بسقوط المدينة. وحاليًا، المعطيات تؤكد لنا أن الحوثي هو المتقدم. ويتزامن مع ذلك انهيار للعملة في مناطق سيطرة الحوثي، بعد أن وصلت قيمة الدولار 1400 ريال. وفي عدن الحكومة تحت رحمة المجلس الانتقالي. دعونا لا نستبق الأشياء، لكن الدلائل تشير إلى أمور تخفيها الطاولات غير المعلنة، وهناك مصائر لليمن تحيكها المعارك من جهة، والرغبات التي تزداد وضوحًا بين وقت وآخر.
وإذا عدنا لمعركة مأرب، فإنها نقطة تحولها تعود لسلسلة أحداث، لن أتحدث عن تراجع الحكومة أو تهميش فعاليتها، لكن إعلان الإمارات الانسحاب، وسحب بطارية صواريخها الباتريوت من مأرب، حمل معاني كثيرة. كان الأمر متصلًا بتداعيات عديدة أحاطت بالمشهد، بما فيها سقوط عدن بيد المجلس الانتقالي.
وشكل عام 2019 تحولًا دراماتيكيًا في حرب اليمن، فتراجع الحوثي انتهى على تخوم مدينة الحديدة في الساحل الغربي. وفي هذا المنحى، كان ديسمبر الشهر المفصلي، فهناك لحظة انفراط حلف صالح -الحوثي، انتهى بصدام في 2 ديسمبر 2017، ومقتل الرئيس اليمني السابق في 4 ديسمبر، بعد حصاره من مقاتلي الحوثي داخل منزله القريب من شارع حدة.
تغيرت المعادلة، ودخل لاعب جديد يقوده ابن شقيق صالح وقائد حراسته؛ طارق صالح، ليصبح جزءًا من المعركة التي اتسعت في الساحل الغربي. وبعد عام، في 13 ديسمبر، حددت اتفاقية ستوكهولم نهاية القتال، وبعدها انقلب مسار الحرب رأسًا على عقب. ولن تكون هناك ستوكهولم جديدة على أبواب مأرب.