الرياض العائدة إلى دمشق على إيقاع مأرب بقلم| أحمد الدرزي
بقلم| أحمد الدرزي
يتحكّم التردد في القرار السعودي بالعودة إلى دمشق وإقامة علاقات طبيعية مع سوريا، فقد تم تأجيل افتتاح السفارة السّعودية مرتين، بفعل حسابات خاصّة بها، إضافة إلى القرار الأميركيّ الّذي فرض التمهل بهذه الخطوة، فمتى ستأخذ قرارها بالعودة؟
وقفت الرياض متوجسةً من انطلاق اضطرابات “الربيع العربي” من تونس، وهي الحريصة على عدم حصول أي تغيير سياسي في بلد تستشعر فيه مخاطر شظاياه التي قد تصل إلى الداخل السعودي، وخصوصاً إذا كان مقلقاً لوضع حلفائها الذين تعتبرهم صمامات أمان لها، خشيةً من الموقف الأميركي وتقلباته عليها.
على الرغم من خلافها مع دمشق في مفاصل أساسية، وخصوصاً ما يتعلق بالتزام الأخيرة بسياسات التوازن بين كلِّ الأطراف الإقليمية، ما أدَّى إلى التباين الرؤى والمواقف السياسية بينهما، وخصوصاً حول طبيعة العلاقة السورية الإيرانية التي ذهبت باتجاه المواجهة مع “إسرائيل” في حرب تموز/يوليو 2006، فإنها وقفت الموقف المتردد وكانت منقسمة على نفسها تجاه ما يحصل في سوريا بداية، وخصوصاً أن ما حصل في تونس ومصر وليبيا كان واضح الملامح بصعود تنظيم الإخوان المسلمين إلى صدارة المشهد السياسي، وأنهم القوة الجديدة التي تراهن عليها واشنطن لإعادة تركيب نظام إقليمي جديد تقوده كل من تركيا وقطر.
استطاعت الرياض استيعاب تلك المرحلة، فحسمت أمرها، وانطلقت للتدخل الواسع في الحرب على سوريا، انطلاقاً من هواجس التنافس الجيوسياسي مع طهران، في محاولة منها لإعادة تركيب المنطقة وتغيير مسارات السياسة الإقليمية، بعد هزيمتها المذلة في العراق، الذي استطاعت فيه إيران مع قوى عراقية فرض حليفها نوري المالكي رئيساً للوزراء في العام 2006، وإخراج الأميركيين للمرة الأولى في العام 2011، إضافةً إلى الهزيمة الإسرائيلية الكبرى في حرب تموز 2006، فانتزعت المبادرة من الدوحة، ودعمت المجموعات العسكرية “للجيش الحر” في العام 2014.
مع وفاة الملك عبد الله بن عبد العزيز في شباط/يناير 2015، ومجيء أخيه المريض سلمان إلى سدة المُلك في السعودية، برز محمد بن سلمان المندفع ليكون الرجل الأول بعد إزاحة محمد بن نايف، رجل واشنطن القوي، ولَم يطل الأمر به أكثر من شهر للبدء بالحرب على اليمن الذي يعتبره الحديقة الخلفية للسعودية، وله الحق الحصري بالتحكّم في مسارات السياسة والاقتصاد فيه لمنعه من استرداد عافيته، بما يشكل ذلك من تهديد لمكانة السعودية إقليمياً، وخصوصاً في ظل التناغم بين “أنصار الله” وطهران، وما يشكله ذلك من توسّع للنفوذ الإيراني إلى مكامن التهديدات الوجودية للسلطة الحاكمة في السعودية.
عجزت الرياض عن إحداث أي تغيير نوعي لمصلحتها في كل من سوريا واليمن، وقبلهما العراق، بل انقلبت الأمور عليها بفعل هزائمها في اليمن وسوريا، وخصوصاً بعد التحالف العسكري الروسي الإيراني السوري في نهاية أيلول/سبتمبر 2015، وقدرة “أنصار الله” على استيعاب هجوم تحالف السعودية الذي شكَّلته بغطاء أميركي بريطاني إسرائيلي، وانقلاب المشهد العسكري إلى هزائم لم تتوقَّف حتى الآن، وخصوصاً بعد وصول قوات صنعاء إلى أبواب مأرب الغنيّة بالنفط والماء.
أدركت الرياض أن الإدارة الأميركية الجديدة، بعد هزيمة حليفها ترامب، حملت توجهات مختلفة لمجمل السياسات الأميركية في العالم، وهي تنطلق من أولويات المصالح الأميركية والمخاطر المحدقة بمكانتها كقاطرة للاقتصاد العالمي من قبل الصين، كما أدركت أنّ الإصرار على الذهاب بعيداً في حربها على اليمن بعد انكفائها في سوريا، سيدفعها إلى المزيد من الخسائر الجيوسياسية التي تمس مكانتها، وانعكاس ذلك على الداخل السعودي، بما قد يطيح ولي العهد الذي يتحمل المسؤولية الأكبر عما وصلت إليه المملكة، والذي دفع ثمن ذلك شخصياً.
كانت الصورة واضحة لولي العهد بأن واشنطن ذاهبة إلى إعادة تشكيل المنطقة، للتقليل من الخسائر المتتالية، ومنع الصين من الوصول إلى شاطئ البحر الأبيض المتوسط. هذا الأمر لا يمكن أن يحصل إلا باستقرار المنطقة والاعتراف بالقوى التي استطاعت أن تفرض خياراتها وإراداتها، بعد مواجهات استمرت 5 عقود ونيف. ومن هنا كان التصور الأميركي بضرورة العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، الذي يشكل المفتاح الأساس للدخول بهدنة طويلة تعيد الاستقرار إلى منطقة غرب آسيا بأكملها، وتحقق الأمان لـ”إسرائيل”.
اندفعت الرياض مع تقدم “أنصار الله” إلى عصب الاقتصادي اليمني في مأرب نحو المفاوضات مع طهران في العراق، على أمل أن توقف تقدم حلفاء طهران، إضافة إلى إرسالها وفداً أمنياً إلى دمشق لجس نبضها وإمكانية مساهمتها في إخراجها من المأزق اليمني كثمن للعودة السياسية إليها، لكن الموقف الواضح والصريح كان بفصل الملفات وعدم ربطها ببعضها البعض، ما دفعها إلى الدخول في 4 جولات للمفاوضات مع طهران في العراق.
وفي كلِّ مرة، يكون الملف اليمني هو أساس التفاوض السعودي، فيكون الجواب بأن المفاوضات تجري مع اليمنيين، الّذين استطاعوا تحقيق إنجازات ميدانية كبرى اعتماداً على أنفسهم، ومن دون قوى عسكرية شريكة، سوى الدعم العسكري التسليحي المحدود، والاستفادة من التقنيات العسكرية الإيرانية في صناعة الصواريخ والطائرات المسيرة وتطويرها.
أدرك السعوديون أخيراً أن لا مناص من الهزيمة في اليمن، وأن كل ما يمكنهم العمل عليه هو محاولات منع سقوط الورقة الأقوى من يدهم في مأرب، لأن في ذلك نهاية هيمنتهم على اليمن، وبدء نظام إقليمي جديد، سيكون دورهم فيه محدوداً، إلا إذا انخرطوا إيجابياً فيه، وابتعدوا عن السياسات المدمرة لهم في النهاية، وعدم الرهان على تطبيع العلاقات مع “إسرائيل” التي تحتاج إلى من يمنحها تطمينات أمنية، بعد عجزها في كل الحروب التي خاضتها منذ العام 2006.
ليس أمام الرياض خيارات إلا العودة إلى دمشق، التي تحتاج إلى العمق العربي للوقوف في وجه تركيا وإخراجها من الشمال السوري بتوافق أميركي روسي. ولا شك في أنها قادمة إليها بحسابات خاصة، لكن على إيقاع إنجاز صنعاء في مأرب، التي ستتحول إلى عنوان الهزيمة النهائية لما يسمى “التحالف الدولي” في اليمن.