اليمن… وخطابا الكراهية الطائفي والمناطقي المدمر بقلم| نبيل البكيري
بقلم| نبيل البكيري
الكراهية، فكرةً، خطابًا وسلوكًا، من أخطر مهددات الاجتماع البشري والتعايش الإنساني على مر التاريخ، لما يزرعه خطاب الكارهية من بذور للاقتتال والحروب والجريمة والسادية. والكراهية آفة مدمرة للمجتمعات، ومؤشر تخلفها وهمجيتها وتأخرها، ودليل فشلها في التحول لمجتمعات قابلة للبقاء والعيش بسلام.
فخطاب الكراهية، من أحط أنواع الخطابات والسلوكيات القاتلة والمدمرة للمجتمعات وتفكيكها وتلغيمها وإغراقها في دوامة صراعات لا تنتهي، لتأسيسها لدوامة عنف لا تتوقف، إلا لتبدأ من جديد. هذا الخطاب اليوم المسيطر على كل المشهد السياسي في اليمن، ويشكل أحد روافد استمرار الحرب والاقتتال الدائر، والفوضى الكبيرة التي تُحرق بنيرانها اليمنيين اليوم.
فأخطر ما في المشهد اليمني الراهن اليوم، هما مستويان لخطاب الكراهية القاتلة والمدمرة، فالرافد الأول له هو جماعة الحوثي وخطابها المذهبي الطائفي المشبع بخطاب لا حدود لكراهيته، باعتبار أن هذا الخطاب الذي تبثه قنواته وأدواته الإعلامية، دين منزل من السماء وغير قابل للنقاش، وأن على الناس أن يتقبلوا هذا الخطاب المشبع بالكراهية المذهبية، التي انعكست في حياة اليمنيين كل هذه الحروب والدمار، وهذا خطاب واضح ومعروف لدى اليمنيين، ويعانون منه ويلات كبيرة.
أما المستوى الآخر لخطاب الكارهية القاتلة في اليمن اليوم، والذي سنسلط الضوء عليه في هذه العجالة، فهو ما بات يمثله اليوم خطاب الانفصال الذي يتبناه المجلس الانتقالي الجنوبي -المدعوم إماراتيًا- وهو خطاب جديد نسبيًا على المشهد السياسي اليمني الحديث، بعكس خطاب المذهبية الزيدية الذي تتبناه جماعة الحوثي، وخطورة خطاب الكارهية للانفصاليين الجنوبيين، أنه خطاب يتلبس قضية سياسية، مشبعة بالكراهية والعدمية السياسية معًا، تلك التي لن تقف حدود عدميتها على من يستهدفهم هذا الخطاب الشوفيني، وإنما حتمًا سيكون له ارتدادات عكسية على حامل الخطاب نفسه، كما بدأنا نشاهده ونراه اليوم.
فالقضايا العادلة، لا يحتاج أصحابها لبث روح الكراهية من أجل قضيتهم، لأن الكراهية سلوك مناقض لمفهوم القضية العادلة أساسًا. هذه الحقيقة التي يتغافلها حاملو خطاب الانفصال، الذين يؤسسون بخطابات الكراهية قضية تحمل بذور فشلها وإخفاقها وتشظيها من داخلها، باعتبار أن كل قضية سياسية عادلة، أساس نجاح أصحابها وحملتها، هو عدالة قضيتهم ونبل وسائلهم للوصول إلى تلك العدالة، وليس العكس.
فبالعودة لموضوع ما كان يٌعرف بمظلومية القضية الجنوبية ابتداءً، الجذر الأساس الذي بُني عليه مطلب الانفصال جنوبًا، وكيف تم ترويجها من خلال نسف وضرب كل ما يتعلق بالمنطق التاريخي والسياسي والجغرافي للقضية، ومحاولة القفز فوق كل هذه الحقائق، ونسفها تمامًا، بخلق مقولات شعبوية ديماغوجية، لا تمت للعلم ولا للمنطق ولا لبديهات الأشياء بصلة.
فمن مثل هذه المنطلقات اللامنطقية، ومحاولة توظيف كل ما لا يمت للواقع والمنطق، متأولًا فكرة الدفاع عن القضية، من خارج سياق مناقشة الأسباب المؤسسة لها، والقفز إلى فكرة تخليق سردية شعبوية للصراع، كهروب من حقاق الواقع والتاريخ، لعدم فهمها، أو للتذاكي عليها أحيانًا، أو حتى لمجرد الشعبوية التهييجية للجماهير، فكل هذه المنطلقات لا تجعل من الحق باطلًا، ولا من الباطل حقًا، وإنما أقصى ما تعمله هو تخليق خطاب كراهية ينسف كل المشتركات الوطنية والإنسانية والدينية، ويدفع نحو كراهية قاتلة ومدمرة للإنسان.
فما شهدته المناطق الجنوبية كعدن وما حولها، خلال ما بعد خروج قوات الحوثي من هذه المناطق، وما طرأ سياسيًا هناك، من توظيف واستغلال لملف القضية الجنوبية داخليًا أو خارجيًا، وباستغلال السردية الشعوبية المتخيلة للقضية، التي لا تستند سوى لمقولات وخطاب الكراهية، لا إلى منطق الأشياء والحقائق التي ينبغي الاشتغال عليها وتغليبها في مثل هذه الأوقات والظروف.
بالعموم، ما يمكن قوله اليوم أمام خطاب الكراهية المستعر في عدن وما جاورها، هذا الخطاب الذي يتبناه كعقيدة سياسية له، ما يعرف بالمجلس الانتقالي الجنوبي، هو خطاب ينسف تراكمات الحالة الاجتماعية والثقافية والمدنية والحضارية التي راكمته مدينة مدنية كعدن، على مدى عقود من الزمن، هذه المدينة التي كانت واحة للتعايش الإنساني لمختلف الأديان والمذاهب في العالم كله.
فنتاج خطاب الكارهية الانفصالي الدوغمائي الذي تشهد عدن وما جاورها، ضد كل ما يمت لشمال اليمن بصلة عمومًا، وتعز على وجه الخصوص، لهو خطاب مدمر وقاتل، لن تقف حدود تأثيره ضد تعز أو زيد أو عمرو من الناس، بالمتوالية التي بدأت تتدحرج فيها دوامة الكراهية، ووصلت اليوم إلى مستوى واضح في تصفية الحسابات بين أجنحة المجلس الانتقالي الانفصالي ذاته، وما أحداث كريتر الأخيرة ببعيدة عن هذا الخطاب المدمر والعدمي.
فإذا كان خطاب الكراهية جنوبًا، وصل إلى حالة صراع ومواجهة وتشققات بين أبناء الفريق الواحد، فكيف سيكون الحال تجاه كل خصم لهذا الفريق سياسيًا، لهذا فالانفلات السلوكي الإجرامي الطائش الذي رأيناه في مقتل عدد من أبناء شمال اليمن وهم في طريقهم من وإلى عدن، شيء مخيف وكارثي، وبخاصة أن يصل الأمر لاستحلال الدم، لمجرد شبه انتماء الضحية لمنطقة جغرافية معينة.
صحيح أن مثل هذا الخطاب المدمر، هو ستار لممارسة كل أعمال اللصوصية والبلطجة، تحت غطاء أن هؤلاء شماليون، فيما الهدف من قتلهم لن يقف عند حد أنه لمجرد الانتماء، بقدر ما يستبطن الأمر موضوعًا آخر يتعلق بالبلطجة واللصوصية المافوية لهذه الجماعات التي تمارس القتل والسرقة والنهب للناس في الطرقات، مشفوعة بخطاب كراهية وتوجه سياسي واضح لمن يقف وراء هذا المشروع العدمي.
إن مقتل الشاب اليمني الأمريكي عبدالملك السنباني، وبعده بأيام عاطف الحرازي، في نفس النقطة الأمنية، وربما على يد القتلة أنفسهم، لن يكون نهاية حفلة الكراهية هذه، ولن تكون أيضًا مجزرة كريتر بين الإخوة الأعداء هي نهاية المطاف لخطاب الكراهية وعقيدة الشعوبية الانفصالية ومشروعها الموعود، بل ستستمر دوامة خطاب الكراهية القاتلة بالعمل، في ظل مساحة الفضاء المفتوح لهذا الخطاب الذي سيرتد على حامليه وبالًا قاسيًا ومدمرًا أيضًا.
فالأوطان لا تبنى بخطابات الكراهية، ولا تنهض بها، وليس الطريق إليها أيضًا السرديات الشعبوية التي تبحث عن أساطير متخيلة، وإنما العدالة قضية وفكرة وسلوكًا، هي الطريق إلى الأوطان الكريمة التي يزهر فيها الإنسان، ويبدع حرية وسلامًا وتنمية وتقدمًا، وما غير ذلك، ستأكل نار الكراهية حواملها قبل أن يجيل حاملها النظر في مشروعه الموعود والمرتقب، والذي سيتلاشى وسيسقط قبل مولده وقدومه، فالكراهية نار تحرق حاملها قبل غيره. خطاب كراهية ينسف كل المشتركات الوطنية والإنسانية والدينية، ويدفع نحو كراهية قاتلة ومدمرة للإنسان، بحسب المشاهد.