موت الميلاد في اليمن بقلم| محمد الكرامي
بقلم| محمد الكرامي
بعد مضي 24 سنة، اكتشفت سنة ميلادي الحقيقية، أما سنة ميلاد أمي فلا نزال نجهلها، لكنها اتخذت تاريخ ميلاد مؤقتٍ، أصبح تدريجيًّا ميلادها الحقيقي؛ عوضًا عن العيش بلا تاريخ، أعادت خلق ميلادها بتاريخها الخاص. وغالبًا تجد من لا يتحرّج عن الإفصاح بجهله تاريخ ميلاده مهما اختلف مستواه التعليمي، أو في أفضل الأحوال، يحفظه وفقًا للتاريخ الهجري، مع الإشارة في كلتا الحالتين إلى عدم اكتراثه.
ظهر الاهتمام بتاريخ الميلاد قديمًا في حضارات العالم، ولكنه ارتبط بميلاد الحكام، ويعكس معبد “أبو سُمبل” في مصر هذا الاهتمام القديم بتاريخ الميلاد إلى درجة تخليده. ففي هذا المعبد تحدث ظاهرة تعامد الشمس على وجه تمثال الفرعون رمسيس الثاني مرتين سنويًّا؛ توافق الأولى ذكرى ميلاده في 22 أكتوبر/ تشرين الأول، والثانية ذكرى تتويجه في 22 فبراير/ شباط. بعد قرون عديدة من ذلك، تحول الاحتفاء الخاص بفئة من الناس، باستثناء اليمن، إلى ظاهرة عالمية، فيما لا يزال الاحتفاء به محدودًا في اليمن؛ كون تاريخ الميلاد نفسه مجهولًا.
ارتبط تاريخ ميلاد جدي بـ”سنة الرُّز” (سنة دخول الأرز شمال اليمن في مطلع الخمسينيات)، وبالمثل ارتبط تاريخ ميلاد آباء وأجداد أصدقائي بـ”سنة الثورة” (1962)، وسنة التحرير (1967). وهكذا ارتبط كل ميلاد بحدثٍ ما من أحداث البلاد. وعلى الرغم من قيام الدولة البريطانية في جنوب اليمن آنذاك، بمنح ورقة “مَخْلِقة” تحفظ ميلاد الطفل، لكنها بقيت مجرد ورقة؛ ولعل ظروف تلك الفترة، ساهمت في شتات تاريخ الميلاد في الوعي الجمعي، مع ما يمكن اعتباره استثناءً صغيرًا في مدينة عدن وحدها.
في الماضي، مثّلت “الداية” (القابلة) ذاكرة جيلها، حيث كانت تقوم بتوليد النساء في القرية، وحفظ تواريخ ميلاد الأطفال. أي إنّها كانت تقوم بمهام المستشفى بتوليد النساء ومهام إدارة الأحوال المدنية بحفظ تاريخ الولادة في ذاكرتها، ولكنها ذاكرة بقيت عرضة للعجز والخرَف والموت. وبموتها تظهر قابلة جديدة من نسوة القرية لتمارس الدور نفسه في المجتمع، وخلف كل انتقال، تندثر ذاكرة وتتأسس ذاكرة جديدة.
في مذكراته، كتب السياسي والمثقف الراحل أحمد محمد نعمان، مكانَ وتاريخ ميلاده، وعقّب على كلماته بالقول: “والعادة هناك ألّا يُعنون بشيء من تاريخ الإنسان وحياته”.
لا يشكل تاريخ الميلاد في اليمن أهمية خاصة، فهو غالبًا مجهول مثل تاريخ الموت. وعلى الرغم من خصوصية التاريخ الشخصي، بما يولّده من مشاعر مرتبطة بالنفس، ورمزية الاحتفاء به كإشارة إلى تقدير الذات، ما يزال الجيل الحالي، وإن على مستوى الأشهر والأيام، يجهل تاريخ ميلاده، ويظهر من ازدواج تاريخ الميلاد في وثائق الولادة والوثائق الدراسية وبطاقة الهُوية الشخصية، موت الميلاد.
استمرت ظاهرة “موت الميلاد” في اليمن، على الرغم من المتغيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية بين جيل الآباء والأبناء، حتى إنها انتقلت بشكلٍ ما إلى المؤسسات الحكومية المعنية بالأحوال المدنية، وتمثل آليات تسجيل البيانات حين يستخرج الشخص وثيقة شخصية من مؤسسةٍ ما ويُسأل عن تاريخ ميلاده، عدم اكتراث المؤسسة الرسمية بتاريخ الميلاد ضمن البيانات المطلوبة لاستخراج بطاقة الهُوية. وفي حال ردّ الشخص بأنه لا يعرف تاريخ ميلاده، ينتهي به الأمر باختيار المؤسسة الرسمية تاريخًا عشوائيًّا، وغالبا ما يكون 1 يناير، دون اكتراث من الدولة لحاجتها بمعرفة البيانات الدقيقة للمواطن.
لا تبرز ظاهرة موت الميلاد كإشكال تاريخي يفصل البدايات عن النهايات في سِيَر الشخصيات اليمنية، أو كتخلُّف عن ظاهرة عالمية، بقدر ما يعكس أشكال التهميش على الذات اليمنية، سواء من قبل الاستعمار بتنميط الشرق وازدراء تاريخه وعاداته وموروثه، أو من قبل أنظمة الاستبداد كالإمامة وغيرها، بتقسيم المواطنين إلى طبقات اجتماعية في سلّم هرمي، إذ يمكن القول بالمحصلة أن موت الميلاد هو موت كحضور واعتراف ووجود.
لا يُعبِّر موت الميلاد في اليمن عن إهمال شخصي أو تلاعُب ولا مبالاة مؤسسية، بقدر ما يعكس غياب الذات اليمنية، وحضور الفرد داخل إطار الجماعة، لا كذات مستقلة لها امتيازاتها بكل ما خلَّفه القرن الواحد والعشرين من تراكمات، بل كظلّ باهت ومنسيّ، ومتحرر من ثقل التاريخ.