مقالات

مرثية: لماذا ولدتُ في اليمن؟ بقلم| فايز الأشول

بقلم| فايز الأشول

عندما تحاصرك الخيبات والمآسي والأشياء التعيسة، وتشوش آلام معدتك الجوعى على التفكير في الحياة والمستقبل، وتجبرك الحرب التي لا تنضب على التنقل بين مجالس العزاء نهاراً، وقضاء الليل وحيداً كحارس مقبرة يندب حظه العاثر، الذي قذف به إلى جغرافيا يتوارث سكانها دورات العنف والمآسي وضياع الأحلام، فأنت في “متحف الآلام”، البلد الذي كان يُوصف قديما بـ “اليمن السعيد”.

متاهات التاريخ والجغرافيا
في الركن الجنوبي الغربي لشبه الجزيرة العربية، وعلى مساحة 555 ألف كلم مربع، يعيش ما يقارب 30 مليون شخص، محكومين بنقمة الجغرافيا، وسطوة الأوهام المقدسة، والدين والمذاهب، وميراث الأجداد المنقرضين.

حروب متناسلة، على هذه الأرض الموغلة في أعماق الأزمنة، والمسكونة بالموت والخرائب، وكأن طاعوناً خفيّاً يستوطنها، ويلتهم لحظات الفرح والآمال من سكانها جيلاً بعد جيل.

يؤرخون لولادتهم بالحروب والكوارث، وتتزاحم إشعارات الفيسبوك بأعياد ميلاد معظم اليمنيين في كانون الثاني/ يناير من كل عام، ويتذكر الأب والأم تاريخ ميلاد طفلهما عند إلحاقه بالمدرسة، وحينها يوثقون عمره بـ 6 سنوات “على وجه التقريب”. فبسبب الحرب التي تعصف بالبلد منذ العام 2015، وبحسب منظمة “اليونسيف”، يعاني ما يقرب من 2,3 مليون طفل دون الخامسة في اليمن خلال العام الحالي 2021 من سوء التغذية الحاد، الذي يعيق النمو البدني والعقلي خلال العامين الأولين من عمر الطفل، ويؤدي لحالات مستديمة من الفقر وعدم تكافؤ الفرص … لقد وضع مواليد الحرب أقدامهم في قعر الحضيض، وشاء قدرهم أن يكونوا في المكان والزمان الخطأ، مصابين بالتقزّم والعجز الفكري، وفي انتظارهم دورات عنف قادمة تحولهم وقوداً لها.

عندما تصبح الذاكرة سجناً
يقبع اليمنيون في سجن الماضي الذي يعيدون إنتاجه بكل صراعاته وشخوصه وجدالاته، فتكاد الحرب الحالية التي تعيشها اليمن، أن تكون نسخةٌ مشابهة لحروب تتجدد منذ القرن التاسع الميلادي، الذي قدِم فيه الإمام الهادي يحيى بن الحسين الرسي من وسط الجزيرة العربية إلى المرتفعات الشمالية الغربية في اليمن، ليؤسس أول نظام حكم بطابع ديني مذهبي ـ الزيدية – وتبقى سلالاته في مدينة صعدة التي اتخذها مركزاً لحكمه بركاناً يتجدد ثورانه كلما ضعفت الدولة، أو تراخت قبضتها على الأطراف.

وفي مواجهة حروب المذهب السياسي للسيطرة على السلطة، واحتكار الحكم في شجرة نسب عائلة النبي محمد، يلجأ اليمني إلى جمع أشتاته ومفردات هويته من الماضي، ليعود إلى تعريف ذاته في هذا العالم من خلال آثار حضارة بائدة، وإنجازات موتى غادروا منذ قرون.

وحتى هذا التاريخ الذي يفاخر به اليمني على حساب حاضره ومستقبله، يتعرض للسرقة والنهب والإهمال. تماثيلُ من البرونز، وقطعٌ من المرمر تسرق من المواقع الأثرية في اليمن، وتعرض في المتاحف العالمية ضمن مقتنيات عائلة ثرية، أو أمير من بلدان الخليج الغنية بالنفط.

على مقربة من عرش الملكة بلقيس، الموقع الأثري الأشهر في اليمن، تدور معارك عنيفة بين الأطراف المتصارعة على السلطة، وتنتصب ثمانية أعمدة حجرية وأطلال معبد ونقوش وخرائب تراكمت عبر أكثر من ثلاثة آلاف سنة، وأشعلت هوس الرحالة والمستشرقين ولصوص الآثار الباحثين عن الكنوز المدفونة وسط الرمال.

لن تجد سائحاً في هذا المكان المتخم بالتاريخ والقطع الأثرية المعرضة للعبث، والتي يمكن أن تراها ملقاةً في حظيرة مواشٍ، أو بين روث الأبقار.

لا شيء هنا سوى متاريس المتحاربين والقبيلة والسلاح الملازم للرجال، ليظل الاستقرار هو الطارئ والاستثناء العابر في هذا البلد الذي تستحكم فيه هياكل نظم بالية ما زالت تعيد إنتاج نفسها كفيروسات متحوّرة.

خمول الوقت
يقضي اليمني النصف الثاني من النهار، وثلث الليل في تعاطي أوراق شجرة القات، عشبةُ النشوة، والعادة الاجتماعية اليومية للرجال، والكثير من النساء وحتى الأطفال، للتغلب على خمول الوقت والبطالة، والنقاش في كل شيء وفي لا شيء.

تنتفخ أوداج اليمنيين وقت المقيل ككرة طاولة بينغ بونغ، وتزدحم المجالس في الساعات الأولى بعد الظهيرة، ليحتدم الجدل حول المستجدات المحلية والعربية والدولية. ويتعاطف اليمني مع ضحايا الحروب والكوارث في البلدان الأخرى وينسى مأساته.

يفسر الأحداث والظواهر من منظور بيئته ومعتقداته، وفي نهاية المقيل يُرجع سبب الحرب التي يتجرع تبعاتها إلى الحكمة الإلهية، كما يسند شأن التخطيط لمستقبله إلى القضاء والقدر ومشيئة الرب.

عالقون في المضيق
ربما كان الشاعر الفرنسي آرثر رامبو محقاً عندما غادر مدينة عدن في العام 1885 بعد سنوات من الصعلكة في البؤس، ليدون معاناته في رسالة إلى أهله وأصدقائه “أرجو نهايةً ما لإقامتي هنا قبل أن يفوتني الأجل وأصبح معتوهاً تماماً”.

لا تزال مدينة عدن كما شاهدها رامبو، “ذلك المكان المطحون”، ولا يزال السكان فيها “يصلحون نظام الدفاعات تحسّباً للحروب”، ولم تتوقف مافيا الاتجار بالبشر وتهريب السلاح والمخدرات بين ضفتي البحر الأحمر.

تخلى رامبو عن الشعر ولم يتجاوز سن العشرين، وكان في طريقه إلى أن يصير شاعر فرنسا الأول، لتضيع أحلامه، وتفتك به الأمراض في “منفى المذنبين”. كما تنازل ميناء المخاء عن ماركته العالمية “موكا” بعد أن كان يصدّر أجود أنواع القهوة، ليتحول إلى ثكنة عسكرية.

يقضي معظم سكان المناطق الجبلية في اليمن حياتهم دون أن يشاهدوا البحر، وخصوصاً منهم النساء، في بلد تمتد سواحله على بحر العرب وخليج عدن والبحر الأحمر بطول 2500 كلم‏. لكن السياحة ليست من هواياتهم حتى قبل الحرب، ودفتر العائلة وأوراق الهوية الخاصة بكبار السن هي بطاقات للرعاية الاجتماعية، أو بطاقات انتخابية لم تفضِ إلى تداول سلمي للسلطة.

يتحدث زعيم حركة “أنصار الله” (الحوثيين) التي تسيطر على صنعاء ومدينة الحُديدة الساحلية، عن الأهمية الاستراتيجية لمضيق باب المندب والبحر الأحمر… وهو الآخر لم يشاهد البحر، ولم تطأ أقدامه رمال الشواطئ.

تمسك اليمن مفتاح البحر الأحمر بإطلالتها على مضيق باب المندب، وامتلاكها لجزيرة “ميون”، في الوقت الذي لا مصلحة اقتصادية، أو مكسب حققته من موقعها في عنق الملاحة البحرية الذي يعبره حوالي 4 ملايين برميل من النفط يومياً. وتتزاحم الدول الكبرى بأساطيلها وبوارجها الحربية لحماية مصالحها، فيما نحن عالقون كقشة في بلعوم العالم. نخوض الحروب بالوكالة، ونحاول ابتلاع مراراتنا بالأوهام، ولم نتمكن من عبور المضيق، فالأمس هو اليوم والخوف أن يبقى الأمس هو المستقبل.

إلى أين أوصلتْنا الحرب؟
لقد تركت الحرب آثارها العميقة على جميع مظاهر الحياة في اليمن. تهتّك النسيج الاجتماعي، وفقد الآلاف وظائفهم وسبل كسب عيشهم، لينضموا إلى طوابير الانتظار للحصول على الحصة الشهرية من برنامج الغذاء العالمي، أو أسطوانة الغاز المنزلي.

الشباب العاطلون عن العمل يبيعون حليَّ أمهاتهم وزوجاتهم لاستخراج جوازات سفر، والحصول على تأشيرات عمل أو هجرة نحو المجهول، هرباً من البلد الذي تموت فيه الأحلام، ولهيب الحرب التي أصابتهم بالشيب المبكر، وتجاعيد البؤس التي تنمو على وجوههم.

البيوت تتقاسم أحزانها ومعاناتها، والحقول تحولت إلى مقابرَ تحوي ذكريات أطفال قتلوا لأسباب لا يعرفونها.

أفتش عن الموسيقى والمسرح ودور السينما، عن الضحك وممارسة الحب، فلا أجد سوى وجع الصور، وأصدقاء ماتوا على عجل، وآخرين مبعثرين في المنافي… المكان خرابةٌ والتاريخ ممدد أمامي كجثة.

في هذا البلد الموبوء بفتاوى الكهنة، والنخب التي تتاجر بالحرب والفقر، واللصوص الذين يعيشون طويلاً، نحن التائهون في هذا النفق المظلم، ولا يبدو أن هناك أحداً يسمعنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى